عبد علي اليوسفيِ - ردهة ألضابط

(1)
الجنرال الذي رأيته مسجى على السرير المقابل أثناء دخولي الردهة كان غارقاً بإغفاءة , بدا لي كثير الشبه بالموتى , يقتنص لحظة صحو من بين هلوساته المستمرة أثر الاقراص المخدّرة والحقن التي يزرقونها إياه يوميا …
أقراص صغيرة زرقاء أو وردية ترفده بها امرأة سمراء ممتلئة تزوره في الردهة بانتظام , بدا لي ـ طوال وجودنا معاً ـ أن لا أحد له غيرها , كانت كأنها زوجته , يقدم لها الأموال كلما زارته.. لم أرَ مَن يتفقده غيرها !.. على أثر هلوساته تيقنتُ أنها ليستْ زوجته لكنها تقوم بدورها !
***
بمجيء المرأة تمتلئ الغرفة بصوتها الناعم الحنون وعطرها المنثال منها , عطر عنبر , تيروز ,ياسمين , أريج , وكأنها بائعة عطور . تضفي على جو الغرفة مناخاً مدنياً يُبْعِدُ عنّا بعض الشيء رائحة الشاش والبنج واليود … والروائح الأُخرى. صرنا كلما دلف إلينا خيط عطر , أو سمعنا صوت امرأة في الممر الطويل نتخيلها قادمة.
حملق بي بادئ الأمر لعله يريد ان يتذكر , هل أنا النزيل السابق الذي يشاركه الردهة أم آخر جديد .. يبدو أنه لم يستغرب الأمر .حسبتُ أن لا أهمية للأمر مادامت الحرب لم تنته بعد .
هز رأسه وقال كأنه يعرفني :
ـ ماذا ترى من النافذة ؟
سريري الى جانب النافذة . كنتُ قد نظرتُ ـ حالما وصلتُ ـ عَبْرَها الى الخارج , لكنني وجدتُها لا تفضي الى ساحة أو حديقة أو شارع مثلما يتخيل كلُ من يراها وكأنها ” كسر توقع” أو إيهام .
ثمة حائط من الكونكريت الأسود ممتد على طول الممر يخنق أغلب نوافذ ” جناح الكسور” الذي نرقد فيه. أدركتُ حينها ان اصابته بليغة وحركته ميؤوس منها , ورحتُ أصف له الأشياء التي أتمنى رؤيتها , أخذتُ أُصورها له :
” ارى ممرضتين بلباس أبيض تحملان عُلبَ أدوية تمضيان الى ردهات الجنود .
ـ جميلتان ؟.
ـ أكيد . تشبهان فراشتين ذهبيتين.
قال :
ـ أسمع أصواتاً , أ عربة أُخرى قادمة ؟
افتعلتُ النظرَ وهو يرمقني وقلتُ بسرعة :
ـ لا … سرب طيور بيضاء يصفق في الفضاء .
حرّك ظهره , عاط من الألم . ظل يتأوه بشدة , سكن قليلاً ثم بصق على الصور والمناظر المعلقة على جدران الردهة . كان مغطىً بشرشف أبيض كأنه طفل رضيع أو جثة ملفوفة .
الأطباء يهمسون كثيراً قرب سريره , ينظرون الى الصور الشعاعية السوداء والملونة (المعمولة) له ..
لم أتأكد من ساقه الأُخرى أ هي مبتورة أم لا !! إلّا انني أيقنتُ ان هذه الساق (قيد الفحص) مبتورة ولا ساعة مندم .
ما ان يغادروه حتى يبتلع قرصاً آخر , إذ يمدُّ يده الى علبة قهوائية فيفتحها , وبعناية يسحب فتيلة القطن ثم يخرج القرص .
ـ متى تأتي ؟
ثم يردف :
ـ لقد تأخرتْ .
قلتُ :
ـ ستأتي.
(2)
هذه الردهة مع الجنرال هي المحطة الأخيرة التي أُكمل بها علاجي وما يتطلبه من عمليات جراحية .
من معاناتي في تلك الردهات أنني واجهتُ عَبْرَها أشد وأعنف الأسئلة المريبة عن نوع المعركة , وهل كنتُ في قلب الهجوم . وما (صنف) الجنود الذين كانوا معي , وهل أنا رأيتُ الشخص الذي صوّب الرصاص نـحـوي ؟ .
***
مضت ساعة على وصولي من الردهة الكبيرة في القطار الصاعد للعاصمة من جبهة القتال وقد قطعنا المسافة ليلاً , تهتز بنا العربات برتابة مليلة وكانت صرخات الجرحى تتعالى وسيقانهم معلقة بسلاسل وثيقة مقيدين كأسرى , وآخرين تنغرز بأوردتهم إبر أكياس المغذيات ومصول الدم والمهدئات.
كنتُ أحلمُ بإغفاءة هانئة إذ لمْ أنمْ منذ ليلتين . كان الهجوم عنيفاً ..
اختفت الآلام مع القرص الوردي الذي ناولني إياه أحدهم , يبدو أنه معني بهذا العمل المناط به , يقوم به بدقة ولم يفرط بقرص منه على الرغم من إلحاح الجرحى ذووا الخبرة!
شعرتُ بنشوة من يسافر في سفينة كبيرة تتهادى وسط البحر, وهي تتجه الى أجمل المدن في العالم ..
أدخلوني غرفة يكثر فيها القطن والشاش وروائح الادوية النفاذة.
كان الدِوار يلفُّ رأسي بأثر الاقراص وبي حاجة للقيء . دخلتْ ممرضة ذات وجه شائخ عجزت المساحيق عن اعادة النشاط والبريق إليه , تدفع عربة صغيرة محملة بالطعام متجهة نحوي . لا أحد سواي في الردهة.
اعتصر قلبي ألماً وأنا أتساءل هل هذه العزلة مقصودة ؟ أم هي طبيعة معاملة الجرحى ـ الضباط خاصة ـ ؟ ما ان عدلتُ من وضعي , بمساعدة الممرضة , حتى قالت :
ـ جاءت اللجنة.
رفعت عيني فواجهني طبيب قصير القامة , سمين وأصلع . وضابط آخر شاب ينظر الى تقرير طبي بيده , وطبيبة ظلت واقفة ترمقني وتبتسم كأنني أعجبتها , أو كأنها مستهينة بألمي . أدركتُ أني في احدى ردهات الطب العدلي .
قال :
ـ أهي معركة اشتباك أم اطلاق نار متقابل من بعيد ؟
عمدتُ الى الطلسمة فجعلتُ الإجابة لا تمت بصلة الى السؤال, بتعتيم متعمد للرؤية في المعركة , قلتُ:
ـ ( كان هجوماً عنيفاً .. مطر وظلام , ورائحة دغل , وتراب وماء , نقيق ضفادع وطيور نافقة , اشجار عملاقة مقصوصة الأغصان ..
رصاص وبارود , قذائف ومديات وحراب … الشظايا تنطلق من كل مكان … من الوراء والأمام , من فوق ومن تحت … وكل شيء يتمزق , الجنود والطيور والكلاب , السحالي والقنافذ والدواب , والببغاوات .
قال الطبيب :
ـ لم أفهم شيئاً .
أردف :
ـ أضربكَ أحدُهم ؟
ـ ممن ؟
ـ الجنود يقتلون الضباط ويلوذون بالفرار من أرض المعركة .
ولما رآني أنظر إليه نظرات طويلة جداً نهض قائلاً :
ـ نعود إليه فيما بعد
وخرجوا .
***
أدركتُ ماذا يبغون . أبعدتُ الطعامَ عني إذ لم تكن عندي الرغبة . إكتفيتُ برشفات قليلة من الشاي , راودتني شكوك.. من وشي بي لهم , أخبرهم بأني أُعير الجنودَ كتبي التي أجلبها معي والكراريس التي يجلبها الجنود خلسة ؟ أيخافون من ان نتداول الأفكار التي تدين الحرب ؟
ربما ثمة من نقل لهم السأم الذي دبَّ وسط الجنود , وهم يرون الحرب لانهاية لها ولا بصيص أمل للحياة التي حلموا بها.
هل يصح قول المحقق لي : ” الجنود يقتلون الضباط لتتاح لهم فرصة الهرب أو الأسر ؟ ” هل يفكر أحد بذلك ؟

***
وفي وقت لاحق ..
مددتُ يدي الى الملعقة ورحتُ أستطعم الشوربة ثم شربتُها كما لو كانت قدح ماء . كرعتُ كوب الحليب ثم أجهزتُ على الوجبة كاملة.
وأنا أحتسي الشاي وأُدخن سيجارتي دخل عليَّ ممرضان تلوح البسمة على وجهيهما . أحضرا سريراً متحركاً (عربة).
قال أحدهم :
ـ سيدي سننقلك إلى ردهة الضباط .
دفعا العربة وأنا مستلق عليها : اتصور عيني ترمقان السماء المرقعة بالغيوم المعتمة والبيضاء , وثمة فخاتي تطير وتحط على سعف النخيل والاشجار , وعلى قلبي .. رأيتُ أرضاً مبتلّة ودغلاً مغبراً , وبقايا وحل وماء .. رأيتُ عربات وأسرّة متحركة يدفعها الممرضون نحو سماء لانهائية .
لكنّي ها أنا اصحو من التحليق خارج الجسد .. أرى في عربات الجرحى : الأجساد تُلفُّ بالشراشف البيضاء وتسير بهم الى الردهات أو غرف العمليات , أرى عنابر الطب العدلي رجالاً ونساءً واطفالاً يغادروا المكان , يبدو ان وقت الزيارة قد انتهى .
***
سارت بي العربة مرتجّة وهما يدفعاني ويلغطان فيما بينهما . حتى اقتربنا من ردهة كبيرة . أصعداني الى الطابق الثاني , ثم فتحا غرفة مؤثثة , فيها أسرّة وتلفاز وهاتف وحمام .
رفعاني الى فوق السرير المجاور للنافذة . كنتُ ملفوفاً بالقماش الأبيض مثل الجرحى الآخرين . ومثلهم لا أعرف أين إصابتي أو ماذا فقدتُ أو ماذا سأفقد . مازلتُ مقمطاً .
حاولتُ الاستعانة بالمرآة الوحيدة في الردهة لتكشفَ موطنَ إصابتي إلّا انني خفتُ ألّا تكون اصابتي خطيرة والتحقيق الاولي لم ينته بعد .
ما أن استلقيتُ حتى بان لي فردة نعل واحدة وبسطال ملوث بالوحل وسرير موظب جيداً , أدركتُ ان جريحاً ما الآن في صالة العمليات.
عندما دخلتْ الى الردهة فاجأها وجودي .
إنتَظَرتْهُ حتى أخرجوه من صالة العمليات فاقداً وعيه تماماً. كانت حزينة ..
قالت :
ـ ” أخبره اني سأعود غدا .”
***
أدركتُ ان عليهم كتابة التقرير لأن كل جريح يظل مشتبه بإصابته حتى يثبتها الطبيب العدلي . يؤكد فيها مدى كثافة البارود ونوع الخارق , أ رصاصة أم شظية . لكن ثمة ضابط في وحدة الميدان الطبية يصف الاصابة بشكل تخميني حسب أوامر القيادة .
يدهشهم هروب الكثير من الجنود , ولم تَجْدِهم السجونُ نفعاً , ولا الاعدامات , ولا قطع صيوان الأُذُن .
أخذتْ الهروبات طرائق شتى , آخرها إصابات يتدبرها الجنود لبعضهم البعض ..
هل حققوا مع الجنرال ؟
أعيد بذاكرتي رجال الدين والشيوخ والمسؤولين الذين قاموا بزيارتي ونظراتهم المريبة ونسخ الكتاب المقدس الذي أهدوني إياه وزميلتي التي كانت تعمل ممرضة حين أنكرتْ معرفتها بي, والأحذية والبساطيل المهملة تحت الأسرّة , الغرف التي دخلتها , والقـماصل العسكرية .
الضابط الذي زارني في الردهة الأولى وخرج منزعجاً مني , أذكر كيف عاد لي وهو يملي على الطبيبة التقرير . بعد أن أخرجوا الشظايا من جسدي في صالة العمليات أرفقوا له قطعاً منها , تطلع إليها منذهلاً, ناولها للطبيبة وهو يصيح :
ـ سخافة .. دائماً سوء فهم ..مغفرتك إلهي.!
ثم أملى على الطبيبة تقريره الآتي :
” ان الاصابة بأرض المعركة ومن جرائها , ولا أثر للبارود ولا شــظـايـا , فـي ذراعـه الـيـسـرى وحـوضه ورأسـه .
+ نسخة مـنـه الـى وحـدة المـيـدان الطـبية لإصدار أمراً بالإصابة الفورية للموما إليه .
***
كانت السماء ملبدة بالغيوم السود ذلك المساء , بدأ المطر ينهمر باسترخاء أولاً , ثم بغزارة , ثم بلل التراب والعشب اليابس , وسعف النخيل , و(مواضع) الجنود , و(خيمة الأرزاق) , و(مشجب العتاد) , والمدفع العتيق المثبت الى الأعلى , والقصب والبردي المصفر , وأعشاش الطيور والكلاب السائبة التي تجثم قرب المواضع , وحمار السرية الهزيل , وأشجار النبق والتوت الأجرد ..
فاحت رائحة العشب والتراب والماء وروائح أُخرى . أعادت لي ذاكرتي زمن طفولتي ودراستي وعطر أشجاري وغرابة نهيري بين بساتين الله الحانية عليه .. بعد منتصف الليل بدأ الدوي وانتشر الرصاص والقذائف وغطى الدخان القاطعَ . اسودت الارض وضاق بنا الهواء …
أذهلني صوت الجندي وهو يصيح :
((أُصيب ضابط المدفعية)) ..
ركضتُ بسرعة لإسعافه .. عاجلنا العدو بأُخرى فلم أشعر إلّا وأنا أتكوّم فوقه أثر انفجار هائل لقذيفة.
***
أفاق الجنرال في المساء بعد عودته من عملية البتر .. نظر بعينين ناعستين فاترتين مرهقتين .
ـ أترى شيئاً من النافذة ؟
ـ أرى أشباحاً .
ـ ماذا ؟
ـ إنه الليل .
تمتم بكلمات ما ثم غرق بإغفاءة وعلا صوت تنفسه قليلاً ..
تخيلته يحلم برائحة الأشجار والعنبر والمسك والاقراص الوردية التي تجلبها له المرأة السمراء الممتلئة , يحلم بالركض في الساحات الخضراء والمشي على شواطئ أنهر المدن الجميلة ..
نظرت الى نعليه وبسطاله تحت السرير ..
قلت مع نفسي : لن يحتاج الأحذية في تجواله القادم .


عبد علي اليوسفي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى