طه حسين - المعذَّبون في الأرض..

مقدمة

إلى الذين يحرقهم الشوق إلى العدل ، وإلى الذين يؤرقهم الخوف من العدل ، إلى أولئك وهؤلاء جميعا ، أسوق هذا الحديث .
إلى الذين يجدون ما لا ينفقون ، وإلى الذين لا يجدون ما ينفقون ، يساق هذا الحديث .
لا أجد لتصوير الحياة في مصر أثناء الأعوام الأخيرة من العهد الماضي أدقَّ من هذين الإهدائين اللذين يقرؤهما كل مَن تناول هذا الكتاب ؛ فقد كان المصريون في تلك الأعوام القريبة البعيدة فريقين ، أحدهما يصور الكثرة الكثيرة البائسة التي تتحرق شوقا إلى العدل مصبحة وممسية ، وفيما بين ذلك من آناء الليل وأطراف النهار ، والآخَر يصوِّر القلة القليلة التي تشفق من العدل حين تستقبل ضوء النهار ، وتفزع من العدل حين تجنها ظلمة الليل ، وكان فريق الكثرة ذاك لا يجد ما ينفق في رزق نفسه ، وفي رزق مَن يعول ، فيشقى بما يجد من الحرمان ، ويشقى أشد الشقاء وأعظمه نكرا بما يجد عياله من الحرمان ؛ كانت عينه بصيرة إلى أبعد ما يبلغ البصر ، وكانت يده قصيرة إلى أدنى ما يكون القصر ، كان يرى الطيبات بين يديه فتتوق إليها نفسه ، وتتوق إليها نفوس بنيه وبناته ، فإذا أراد أن يمد إليها يده أَبَتْ أن تمتد كأنما أصابها شلل ، أو كأنها شُدَّتْ إلى
سائر جسمه بأثقل الأغلال ، فكان يكظم غيظه ، ويصبِّر نفسه على مكروهها ، ويصبِّر أهله على البأساء والضراء ، وينتظر العدل الذي يبطئ عليه ؛ فيغلو في الإبطاء .
وكان يرى الآفات المختلفة تصطلح على جسمه ونفسه ، وعلى أجسام عياله ونفوسهم ، ويهم أن يصلح مما تفسده تلك الآفات ، ف يقصر به همُّه ، و يقعد به عزمه ، ويضطر إلى أن يسلِّم نفسه وأهله لهذه الآفات تعبث بهم كما تريد ، قد وطَّنَ نفسه على الجهل لأن أباه لم يستطع تعليمه ، وهمَّ أن يُخرِج عياله من الجهل الذي اضطر هو إليه ، فلم يجد إلى ذلك سبيلا ، فرضي الجهل لبنيه كما رضيه لنفسه ، وانتظر العدل الذي يتيح لبنيه من المعرفة ما لم يُتَحْ له في صباه ، ولكن العدل يبطئ عليه وعلى بنيه فيغلو في الإبطاء . وكان يرى البؤس له خليطا بغيضا ، يصحبه إذا سعى في الأرض ، ويصحبه إذا راح إلى داره ، ويسكن معه ومع أسرته في تلك الدار إن أتيحت له ول أسرته دار يَأْوَون إليها ؛ فيصبر نفسه على هذا الخليط البغيض ، ويصبر أهله عليه ، واثقا بأنه لن يستطيع منه فرارا ؛ لأنه لن يستطيع أن يتخذ نفقا في الأرض أو سلما في السماء ، فينتظر العدل الذي سيخلصه ويخلص أهله من خليطه ذاك البغيض ، ولكن العدل يبطئ عليه فيغلو في الإبطاء . ولم يكن البؤس يرضى أن يصحب هذا الفريق إلا إذا تبعه أصحابه من الجوع والعري والعلل والذل والهوان ، والكد الذي يضني ولا يفني ، والهم الذي يسوء وينوء ، وكان الناس من ذلك الفريق يبغضون أولئك الضيف أشد البغض ، ويضيقون بهم أشد الضيق ، ولكنهم لا يجدون إلى الخلاص من ضيفهم الثقلاء سبيلا إلا أن يأتي العدل فيلقي بينهم وبين ضيفهم ستارا ، ولكن العدل كان بطيئا مسرفا في البطء ، كأنه كان يمشي في القيد ، لا يكاد يخطو خطوات قصارا حتى يجذبه من ورائه جاذب ، فيرده إلى مكانه الذي استقر فيه بعيدا كلَّ البعد عن الناس الذين يحبهم ويحبونه ، ويشتاق إليهم ويشتاقون إليه .
ك ذلك كان ذلك الفريق طامحا إلى العدل ، يحرقه طموحه دون أن يبلغه شيئا ، وما أكثر ما مضت الأجيال وليس لها من العدل حظّ إلا انتظارها له ، وتحرُّقها شوقا إليه .
فأما الفريق الثاني ، فريق تلك القلة القليلة ، فقد كان يرى بؤس الفريق الأول وشقاءه وعناء ه ، وخضوعه للمحن و الخطوب ، وإذعانه للكوارث والنائبات ؛ فلا يحفل بما يرى ولا يلتفت إليه ، ولعله لم يكن يرى شيئا ولا يحس شيئا ، كان مشغولا بيسره عن عسر الناس من حوله ، وكان مشغولا بترفه عن شظف الناس من حوله ، وكان مثقلا بالغنى فلا يعنيهأن يثقل الناس بالفقر . كان نظره قصيرا كأدنى ما يكون القصر ، وكانت يده طويلة
كأبعد ما يكون الطول ، كان يشتهي فيبلغ ما يشتهي حتى سئم شهواته ، وكان يريد فيبلغ ما يريد حتى ملَّ إرادته ، وكان قلبه قد قسا فهو كالحجارة أو أشد قسوة ، وإن من الحجارة لما تتفجر منه الأنهار ، وإن منها لما يشقَّق ف يخرج منه الماء ، وإن منها لما يهبط من خشية الله . وكان عقله قد حُجِب عمَّا حوله أو حجب عنه ما حوله ، فهو لا يرى ما كان يملأ البيئة التي يعيش فيها من النُّذُر ، فإن رأى منها شيئا أعرض ونأى بجانبه ، وأمعن في الحمق والغرور ، فلم يفكر فيما كان ، ولم يفكر فيما يمكن أن يكون ، وإنما عاش للساعة التي هو فيها ، كأن كل يوم من أيامه قد اقتُطِع من الزمان اقتطاعا ، فليس له أمس وليس له غد ، والبُعْد يشتد بينه وبين ذلك الفريق من البائسين المعذَّبين ، فهو لا يحسهم إلا أن يحتاج إليهم ، وهو إذا احتاج إليهم لم يرفق بهم ولم يعطف عليهم ، وإنما ينزل إليهم الأمر تنزيلا أن يشتقُّوا له من شقائهم سعادة ، ومن عنائهم راحة ، ومن بؤسهم نعيما ،
و كانت الحكومات تقوم على إرضاء هذا الفريق المترف طوعا أو كرها ، وربما حاول بعضها أنيختلس شيئا من الإصلاح اختلاسا ، فنظر إلى هذا الفريق من المعذَّبين في الأرض نظرة فيها شيء من إشفاق ، وهمَّ أن يمسهم بجناح من رحمة ، ولكنه لا يكاد يفعل حتى تزلزل به الأرض ، ويحاول بينه وبين الحكم ، وتلقى عليه الدروس في إثر الدروس لعله يفهم أن غاية الحكم إنما هي أن يزداد المترف ترفا ، ويمعن البائس في البؤس والشقاء .
في بعض ذلك العهد نُشِرت هذه الأحاديث متفرقة ، فلم تحفل بها الحكومة القائمة إذ ذاك ، ولم تلتفت إليها ، و لكنها جُمِعت ذات يوم في كتاب ، وأرادت أن تصل إلى أيدي القرَّاء مجتمعة لتعظ المسرف ، وتعزي المحروم ، وهنالك حفلت بها تلك الحكومة والتفتت إليها ، ووقفت عندها وقفة لم تطل ، وإنما صدر فيها الأمر بأن يحال بين هذا الكتاب وبين الناس ، وبأن تؤخذ نسخة من المطبعة إلى حيث يصنع بها السلطان ما يشاء ، يحرقها أو يخرقها أو يغرقها أو ما شاء الله من ألوان العبث ، ما دامت لا تصل إلى أيدي القراء ! وكذلك صودر هذا الكتاب فيما صودر من كتب أخرى كانت تريد أن تبصر المصريين بحقائق أمورهم ، وأن تعظ منهم الطغاة والبغاة ، وتعزي منهم البائسين واليائسين ، ونظرت مصر التي كانت ترى أنها ملجأ الحرية في الشرق الأدنى ، وأنها قائدة الشعوبالعربية إلى الكرامة والعزة والاستقلال ، وأنها آمَنَتْ من بغي الدولة التركية القديمة وطغيانها أحرارَ سوريا ولبنان والعراق ،
نظرت مصر هذه فإذا كتاب قد كتبه أحد أبنائهايُحال بينه وبين المواطنين ، وإذا هو يسلك طريقه إلى لبنان فيُطبَع فيه ويُنشَر ، ويُذاع في أقطار البلاد العربية ، ثم يعود إلى مصر فيدخلها خائفا يترقب ، ويستخفي به قراؤه
استخفاء ، ثم يُعَاد طبعه ونشره في لبنان ، والقراء من المصريين يسمعون ب ذلك فينكرون فيما بينهم وبين أنفسهم ، ولكنهم لا يستطيعون أن يجهروا بهذا النكير . عادت مصر إذن إلى مثل ما كانت عليه فرنسا أثناء القرن السابع عشر ، حين كان بعض كتَّابها يفرون بكتبهم لينشروها في هولندا ؛ مخافة البأس والبطش وطغيان القريب . وأحاول أن أفهم مصدر هذا الخوف الذي أغرى تلك الحكومة بهذا الكتاب ، فحرمت عليه الحياة في مصر ، فلا أجد إلى فهمه سبيلا ؛ فليس في الكتاب سياسة أو شيء يشبه السياسة ، وليس في الكتاب تحريض على النظام الاجتماعي ينكره القانون ، وليس فيه إغراء بتلك المبادئ الهدَّامة كما كان يقال في ذلك الوقت ، وليس من فصوله فصل إلا وقد نُشِر في مجلة أو صحيفة سيَّارة ، فلم تنكره الحكومة ، ولم تَضِقْ به النيابة ، ولم يُقدَّم كاتبه وناشره إلى القضاء .
وإذن فهو الخوف الذي يورِّط في البغي ، وهو الذعر الذي يدفع إلى الطغيان ، وهو التنكيل بالكاتب من طريق التنكيل بكتابه ، وهو الاستجابة للهوى ، والانقياد للشهوة ، والحكم في الناس بالحب والبغض لا بالحق والعدل .
ولست أعرف أشد حمقا ، لا أجهل جهلا ، ولا أغبى غباء من الذين يصدرون في حكمهم عن الخوف والذعر ، وعن الشهوة والهوى ، وعن الحب والبغض ؛ فهم يورطون أنفسهم في ألوان من السخف لا تكاد تنقضي ، يحسبون أن قدرتهم تبلغ كل شيء ، مع أنها قدرة إنسانية محدودة لها مدى لا تستطيع أن تتجاوزه ؛ فهي تصادر كتابا في مصر ، وتظن أنها حالت بينه وبين المصريين ، ثم لا تلبث أن تراه قد نُشِر في لبنان وعاد إلى مصر فقرأه الناس فيها ، وانتقض عليها كل ما أبرمت ، وفسد عليها كل ما دبَّرَتْ ، واستبق الناس إلى هذا الكتاب ، وتنافسوا في الظفر به ، ولو قد خلَّت الحكومة بينهم وبينه لكان منهم القارئ له والمعرض عنه . ويحسبون أنهم يفهمون كل شيء ، وأن عقولهم تنفذ إلى ما لا تنفذ إليه عقول غيرهم من الناس ، وعقولهم مع ذلك عقول إنسانية تفهم من الأمر قليلا ، وتعيا عن فهم الكثير ، ولو قد فطنت عقولهم لكل ما كانت الصحف تنشر من الفصول ، ولكل ما كانت المطابع تذيع من الكتب ؛ لعطلوا الصحف كلها تعطيلا ، ولأغلقوا المطابع كلها إغلاقا . وأي شيء أدل على ذلك من هذا الأدب الجديد الذي أنشأته حكومات الطغيان إنشاء ، حين اضطرت الكتَّاب إلى العدول عن الصراحة إلى فنون من التعريض والتلميح ، ومن الإشارة والرمز ، حتى استقل هذا الأدب بنفسه ، وتنافس القرَّاء فيه تنافسا شديدا ، وجعلوا يقرء ون ويئولون ، ويناقش بعضهم
بعضا في التأويل والتحليل ، واستخراج المعاني الواضحة من الإشارات الغامضة . وانظر مرآة الضمير » و، « جنة الحيوان » و، « جنة الشوك » وأحلام شهرزاد إلى ما نشر صاحب هذا الكتاب من فلن ترى فيها إلا رمزا لمظاهر كنَّا نبغضها ، ولا نستطيع أن نتحدث عنها في صراحة أثناء تلك الأيام السود ، فكنا نؤثر الغموض على الوضوح ، والرمز والإلغاز على التصريح ، والإشارة والتلميح على تسمية الأشياء بأسمائها ، وكانت حكومات ذلك العهد ورقابتها تقرأ فلا تفهم ، فتخلي بين الكتَّاب وما يكتبون ، وتخلي بين القراء وما يذاع فيهم من ذلك الأدب الجديد .
وكذلك قهر الأدب بغي البغاة ، وأفلت من رقابة الرقباء ، وسجل على الظالمين ظلمهم ، وعلى المفسدين إفسادهم ، وأنشأ بينه وبين القراء لغة جديدة يفهمها الأدباء وقراؤهم ، وفنا جديدا يذوقه القراء ويحبونه ويؤثرونه على فنون التصريح والوضوح . والأدب أشبه شيء ب النهر العظيم القوي الذي يندفع من ينابيعه ، فيشق مجراه حتى يصل إلى البحر ، قاهرا ما يلقاه من المصاعب ، مقتحما ما يعترضه من العقاب ، محتالا في شق طريقه ألوانا من الحيل تنتهي به كلها إلى غايته ، فظلم الظالمين وبطش أصحاب الطغيان ، وتحكُّم الرقباء ، كل أولئك أضعف من أن يقوم في سبيل الأدب والفن ، أو يحول بينهما وبين القراء .
يا لها ليالي قاتمة مظلمة كثيفة الإظلام ، لم يُتَحْ فيها للنجوم أن ترسل سهامها المشرقة ، ولم يُتَحْ فيها للقمر أن ينشر ضوء ه الهادئ الجميل ، وإنما ازدحمت فيها الظلمات يركب بعضها بعضا ، وقد احتملنا أثقالها ونهضنا بأعبائها نكاد نختنق ، ولكننا مع ذلك نرسل أنفاسنا حارة محرقة كأنها شعل من نار تضيء لقرَّائنا الطريق ، وتهديهم إلى قصد السبيل .
وها هو الفجر الصادق قد أخذ يشير إلى الظلمات المتراكبة المتراكمة بأصبعه الوردية التي ذكرها الشعراء ، فتنهزم متفرقة كأنها لم تزدحم ولم يركب بعضها بعضا ، وما هي إلا أيام وأسابيع ، وإذا الفجر الضئيل يمتد ويتسع ، ويملأ الأرض نورا وجمالا وبرا وإنصافا ؛ وهنالك لا يحتاج الأديب إلى حيلة ليعرب عن ذات نفسه ، ولا إلى رمز يخ في به سرّ ضميره على الرقباء ، وإنما يتحدث إلى قرائه في صراحة ووضوح ، ويسر ورضى ، يصوِّرلهم حياة ناعمة ، وعيشا رغدا ، وعدلا واسعا ، بعد أن صوَّر لهم جحيم البؤس والجور والشقاء .
صدق الله الظنون ، وحقق الآمال ، وجعل ثورتنا الموفَّقَة عضدا للحق ، وسندا للعدل ، وأداة للإنصاف ، وسبيلا إلى المساواة ، وبدَّلَ المعذبين في الأرض من عذابهم رحمة ، ومن شقائهم سعادة ، ومن بؤسهم نعيما .

طه حسين
أعلى