د. سعيد يقطين - المتخيل الثقافي..

قال في رده عليها: «ديالي اللي كبير عليك». وسرت النار في الهشيم؟ وضع فيها الجميع يديه ورجليه، وحتى هي اعتبرت كلامه جنسيا، ويتصل بلغة الشارع. وكثرت التعليقات في الصحف المكتوبة والتنكيتات في وسائل التواصل الاجتماعي.
وبدأت تظهر حقيقة العبارة، حينما وضعت في السياق، واتضح أن كلمته لم تكن سوى جواب على كلمتها حين قالت له: «حزبي كبير عليك».
وبيَّن هو أيضا بعد ذلك أن ما تم الذهاب إليه، لم يكن المقصود، إذ كان الحديث عن «الحزب» وليس عن شيء آخر؟
هل هو مشكل تواصل؟ أم تأويل؟ أم سياسة؟ أم لغة؟ لا فرق، ما دام كل ذلك يرتد إلى جواب واحد نختزله في كلمة واحدة: «المتخيل الثقافي».
إن متخيل أي ثقافة يترسب بعيد الغور في اللغة، أي لغة. وهو يطفو كلما تم تحفيز بُعد من أبعاده المتعددة عن طريق الاستعمال أو المقام.
إن التواصل غير مقصود في الخطاب السياسي، لأنه يبنى على السجال، كما أن التأويل المغرض هو قاعدة التعامل بين المكونات السياسية، ويأتي استعمال «لغة» معينة لتكريس كل ذلك وهي تتأسس على متخيل ثقافي مشترك.
لنفترض أن جلسة النقاش التي استدعي فيها «ديالي كبير، وبزاف عليك» من الطرفين، وهي سجالية بالدرجة الأولى والأخيرة، أكانت باللغة الفرنسية أو العربية؟ أكان للسجال أن ينزل إلى هذا المستوى؟ أستبعد ذلك لأن للغة دورا كبيرا في تجسيد التمثلات ومتخيلها الثقافي.
إن اللغة كلما كانت «كتابية «ارتقى متخيلها إلى المستوى الثقافي الذي وصل إليه المجتمع. وكلما كانت اللغة «شفاهية»، كانت أكثر تعبيرا عن المتخيل الثقافي الشعبي، لذلك أعتبر أن العلة الأولى، فيما وصل إليه تواصلنا السياسي، كامنة في توظيف الدارجة في الخطاب السياسي، وهذا التوظيف هو الذي يولد «الشعبوية» في التصور والتواصل.
الدارجة المغربية شأنها في ذلك شأن كل اللغات لها فصاحتها ومعانيها، ولكن لها أيضا لغاتها الخاصة التي تتولد منها باستمرار، إذا كانت اللغات الكتابية يطورها الأدباء والعلماء والمفكرون، فذلك لأنهم أحرص الناس على استعمالها بهدف التواصل والتبليغ القائم على الإقناع والإمتاع، لذلك نجد لغة الكتابة ذات أساليب ومصطلحات خاصة، يصعب نقلها إلى اللغات الشفاهية.
لكن اللغات «الشفاهية» تتطور في الشارع من لدن مستعمليها (الشباب) الذين يرومون من وراء توليد مفردات وتعابير جديدة، إفحام الآخر وتكسير شوكته، والتغلب عليه.
الدارجة المغربية ذات سجلات لغوية متعددة، فعندما كانت متصلة بالبادية كانت أكثر رزانة ووقارا، لكنها ما إن صارت تتطور من خلال المدينة، حتى باتت أكثر عنفا وقسوة، وكان البعد الجنسي و»اللاديني»، هو ما يحدد الـ«مكانة» التي يريد المستعمل إبرازها عن نفسه في حالات الغضب والانفعال، فالذي يسب الدين والملة والرب، ويتكلم بمفردات نابية، من دون أن يشعر بالعيب أو الحرج، سيعتبر «واعرا»، تخشى سطوته، ويهاب جانبه.
في الأفلام الأميركية لا ترى في شريط الترجمة بالعربية سوى تعبيرات نابية تختصر في :»تبا لك»؟ هذه «التبا لك»، لو ترجمت إلى الدارجة المغربية، بمعاني استعمالاتها، ماذا ستعطي غير المفردات المتداولة يوميا؟ والتي لا يمكن إلا أن يندى لها الجبين، كلما سمعت في الأحياء الهامشية، بين المستهترين والمنحرفين.
لماذا يتم اللجوء إلى الدارجة في الخطاب السياسي؟ ألتحقيق التواصل مع الجماهير؟ أم لإبراز أن الخطيب ابن الشعب، وهو يعرف لغته؟ لا مراء في أن هدف كل خطاب هو التأثير في الآخر. وكلما كان اللجوء إلى سجل لغوي محدد، فلإحداث أثر معين في المتلقي.
ولما كان السجال هو المهيمن في الخطاب السياسي، كان السجل اللغوي الشفاهي ذو الحمولة «العنفية» في الرد على الخصوم أنسب في الاستعمال، لأنه يتأسس على متخيل ثقافي شعبي، ومن هنا تهيمن «الشعبوية» في الخطاب السياسي.
يتحقق الأثر اللغوي في السياسة بمدى عنفه، سواء كان صادقا أو كاذبا، ولذلك يغدو معنى المفردات أهم من دلالاتها وحمولاتها السياسية، فيجر ذلك إلى تأويلات تتلاءم مع الأهواء، ويتم تداول تلك السجلات في ذاتها، فتغدو «نصوصا» قابلة للتداول الشعبي من باب التنكيت والسخرية، لذلك ينحرف مجرى الحديث عن نقاش ما هو جوهري في القضايا المطروحة، وهي تمس الشعب، إلى أحاديث حول مفردات.
إن الدفاع عن اللغات الشفاهية بهدف تداولها خارج الاستعمال اليومي، يفرغ الخطابات التربوية والعلمية والسياسية والدينية من حمولاتها الفكرية والمعرفية الراقية، ويجعل هذه الخطابات مجتمعة بلا عمق فلسفي أو فكري يتأسس على الحوار بين أفكار، لذلك نجد أن استعمال اللغة الشفوية، وهي تتأسس على متخيل ثقافي شعبي، يتم في لحظات العنف أو الغضب، أو الضحك والسخرية (صفحات الجرائد بالدارجة مثلا).
اعتماد الدارجة في النقاش السياسي ليس المراد منه التفاعل مع الجماهير: وإنما المقصود منه «الإفحام»، و»الإيلام».
وحين يمارس الإيلام بلغة العنف «الشعبي»، يتلقفه الجميع بالتأويل والتأويل المضاد، فكيف يمكن الرقي بالمواطن وقضاياه، من خلال خطاب سياسي غير راق، إذا لم نرتق بلغته السياسية؟

د. سعيد يقطين
أعلى