زهور كرام - الثقافة في الرؤية المستقبلية عند المهدي المنجرة

يدفع الواقع الذي نعيشه، بتخطيط واستراتيجية محكمين، إلى التشاؤم والعبث. وما نشهده من لبسٍ في إدراك ما يحدث اجتماعيا وسياسيا، وما تعرفه المنطقة العربية- على الأقل- من ارتباك سياسي، وتدمر مجتمعي وانهيار منظومة التعليم، وتراجع منطق القيم والدفاع – بالمقابل- عن قيم جديدة تنتصر للاستهلاك، والمُتاجرة بالإنسان والمشاعر والأمان، يُلقي بالفهم إلى الغموض.
كل ما يحدث بالعالم الآن، يُشعر الشعوب بالخوف. فكرة الرعب تنتشر عبر وسائل متعددة ومتنوعة، حتى صناعة الطائفية والتطرف وانتشار السلاح، وتفاقم الأمراض والإبداع في صناعة الفيروسات، كلها مظاهر جديدة للتدبير السياسي العالمي.
عندما نتأمل تزامن مظاهر كثيرة في اللحظة التاريخية نفسها، نُدرك كيف تحولت الشعوب لموضوعات للإهانة والذل من طرف مدبري السياسة العالمية. والأخطر من هذا، كما قال مفكر المستقبليات الراحل المهدي المنجرة في كتابه «الإهانة»، «فالذل الأكبر في نهاية المطاف حين لا نعود عارفين لمعنى الذل». في مثل هذه الوضعية، يقترح فكر المهدي المنجرة الاهتمام بثقافة الدراسات المستقبلية، التي تصبح حاجة ملحة، من أجل تحصين الشعوب من الوقوع في مستنقع التشاؤم، والقبول به باعتباره قدرا تاريخيا، بواسطة المعرفة والثقافة.
يرى مفكر المستقبليات المغربي المهدي المنجرة أن «أبرز ما في علم المستقبليات، هو إذكاء روح الأمل على المدى المستقبلي على الرغم من نتائج الحاضر التشاؤمية» (الإهانة). ذلك، لأن التوجه نحو المستقبل بروح تشاؤمية، وفكر مُرتبك، وأسئلة غير واضحة، يجعل المستقبل عبئا تاريخيا. لهذا، تعد رؤية المهدي المنجرة المستقبلية رؤية تنويرية، لكونها تُنتج التواصل بين الماضي والحاضر والمستقبل، بتصور ثقافي ومعرفي ينتصر للبعد الوظيفي للعلاقة المُنتجة بين هذه المحطات التاريخية. للثقافة مكانة جوهرية في الرؤية التحليلية عند المهدي المنجرة. عندما نتأمل مختلف طروحاته، من خلال محاضراته وكتبه وحواراته ومقالاته، سنجد الثقافة حاضرة بقوة، من خلال اعتمادها كأداة للتفكير والتفكيك والتحليل، وعامل تحصين ضد تلوث الوعي. فالتقدم نحو مستقبلٍ مستقلٍ وحر وكريم، لا يستقيم مع اعتماد قراءة الآخر للماضي والحاضر، فالماضي – حسب المنجرة- غير مُدرك من طرفنا، لأنه غير مقروء من طرفنا، لهذا فنحن لا نملكه، فامتلاك الماضي مرتبط بامتلاك المعرفة الذاتية حوله، «ماضينا كتبه الآخرون، كتبه الغرب، ولهذا نحن نقرأ تاريخنا بعيون الآخر». غير أن القراءة لا تتم – بدورها- إلا من خلال استثمار ثقافات الآخر، فيما يسميه بالتواصل الثقافي. ولهذا، نلتقي بطروحات لمفكرين يعتمدها في رؤيته مثل فكرة غرامشي حول تشاؤم الحاضر وتفاؤل الإرادة، ورؤية ابن خلدون للغالب والمغلوب، التي يستفيد منها في إدراك رغبة الغالب في السعي إلى فرض قيمه وثقافته، ثم الثقافة باعتبارها مطلبا جوهريا لتحقيق التغيير لدى الشعوب العربية والإسلامية. كما يصرح باستمرار عن انتمائه لمدرسة غاندي، من خلال تمسكه بالتسامح وفلسفة عدم العنف في الفكر والسلوك. ويعود اعتماده على الثقافة، من تصوره لثقافات الشعوب التي يرى أنها تعتمد السلام في جوهرها. يقول في كتابه «الإهانة»: «في نظري تشكل الثقافات أساس وعماد السلام والبذرة الوراثية للسلام. ليس ثمة من ثقافة تولد أصلا عدوانية أو لتصارع ثقافة أخرى. فقد علمنا التاريخ أن ثقافة ما حين تأخذ مقاليد السلطة تسعى إلى فرض نظام قيمها على ما عداها». يعتبر جوهر النزاعات والعنف قائما على عدم احترام التواصل الثقافي بين الحضارات، بسبب رغبة القوى المتسلطة في فرض نموذجها الثقافي، ومنظومة قيمها الحضارية. تأسيسا على ذلك، فإن كل نزاع يعبر عن انقطاع التواصل الثقافي، وبداية الإكراهات الحضارية ذات العلاقة بالعواقب الوخيمة. النزاعات العالمية مقبلة من محاولات إقصاء التواصل الثقافي الذي يُعزز السلام والأمن والأمان العالمي والإنساني.
يتطلب التواصل الثقافي، من أجل تفادي النزاع، بذل المجهود الكبير للسير نحو الآخر، وذلك يتم عبر قنوات، لعل أهمها هو محو الأمية الثقافية، ولهذا نرى حرص المنجرة على الدعوة إلى التسلح بالمعرفة والثقافة والتعليم، من أجل تجاوز التدخلات التي تعرض طريق التواصل الثقافي بين الشعوب والمجتمعات، «التواصل الثقافي عمل استشرافي ومستقبلي طويل النفس». وحين لا يتحقق هذا التواصل، تحدث فوضى ثقافية، تنتج أمراضا ومظاهر سلبية، من بينها تضخم الأنا عند كل مجتمع وبلد ومثقف. يتعرض المهدي المنجرة لأدوات تدمير التواصل الثقافي، ويحلل أبعادها، من أجل الوعي بها، قصد تجازوها. إن الوصول إلى العنف والنزاعات يتم عبر تسخير إمكانات متعددة ، لم تعد تشبه أدوات الاستعمار التقليدي، إنما إمكانات تستفيد من تطور التكنولوجيا، وفي هذا الصدد يتحدث عما سماه بـ»عسكرة البحث العلمي والإعلام». يعرض – في هذا الصدد- لإحصائيات مهمة في حديثه عن عسكرة البحث العلمي، وخطورة تدجين البحث العلمي، وجعله في خدمة الحروب والعنف وفتح جغرافيات تتسع مساحاتها عنفا ودما وقتلا وتدميرا للذاكرة الإنسانية الحضارية.
تصبح عملية عسكرة البحث العلمي والإعلام وسيلة لاستمرار النزاع، باعتباره حاجة سياسية واستراتيجية، تدفع الدول المُتسلطة إلى خلق شروط المحافظة على وضعية النزاع. لأن الحرب مطلوبة من قبل سوق معينة في وقت معين، لمواجهة أزمات معينة.
إن الرؤية المستقبلية عبر وسيط الثقافة والمعرفة، تعتبر منهجا في التفكير والحياة والتحليل عند رائد الدرس المستقبلي المنجرة. ولهذا، تجسدت الرؤية في اشتغاله على تكوينه الذاتي المستمر، لكون المعرفة حاجة متجددة، تجدد الفكر فتتجدد بتجديد الفكر. لقد ظل يعتبر نفسه طالبا للعلم والتكوين والمعرفة. وهو الشعور الذي جعله من المنخرطين الأوائل في التكنولوجيا في زمن مبكر في التجربة المغربية. يقول في أحد حواراته عن بداية علاقته بالتكنولوجيا، وأول حاسوب امتلكه: «حاسوبي الأول، وهو من صنع أمريكي كندي، يرجع تاريخه إلى سنة 1981، لقد كان جديدا بالسوق. كان وزنه عشرة كيلوغرامات ولنقله عبر الطائرة، كان يستلزم ترخيصا من الطاقم»( قيمة القيم). لقد انخرط في ميدان التكنولوجيا، ممارسة وتفكيرا، كما اشتغل بها باعتبارها عنصرا داعما للتنمية، ووسيطا محررا للإنسان، «لأن أهمية المعلومة تكمن في كونها الوسيلة الوحيدة لتحرير الناس ومساعدتهم على الاعتماد على النفس، إذا ما توفرت لهم الإمكانيات».
عندما نرى اليوم اللبس التاريخي واختلاط الأوراق وفوضى المفاهيم والقيم، فإن المستقبل يبقى باهتا، بل خارج الوعي التاريخي، مادام الحاضر مستعصيا على التحليل، والماضي يبتعد خارج التمثل التاريخي، تصبح الحاجة ملحة لاستحضار مثل تصورات المهدي المنجرة، التي تُعيد الأمل إلى الذات من باب الإيمان بالمستقبل باعتباره إمكانية ممكنة التحقق التاريخي، شريطة أن نفكر بالمعرفة والثقافة والعلم في الحاضر والماضي، بعيدا عن تركهما موضوعا منظورا إليهما من قبل الآخر/الآخرين. في زمن النزاعات والتطرف والتسابق نحو التسلح، وانتشار الأوبئة الفتاكة بالإنسان، ودفع الشعوب إلى النزوح عن أوطانها، يصبح التفكير بالمستقبل تحديا كبيرا أمام الحاضر، وتحضر المعرفة عنصرا قويا لهذا التحدي، فالحرب – كما قال المنجرة- ستطول، والتغيير سيتأخر، إذا لم يتم اعتماد المعرفة باعتبارها قوة وحصانة. ولعل علاقته بالمعرفة والثقافة والعلم ، خير درس للذين يتعاملون مع الماضي والحاضر، ومن ثمة مع المستقبل بتصور غير معرفي – ثقافي.
يقول المنجرة عن علاقته بالمعرفة التكنولوجية: «لقد استعملت الإنترنت أثناء إقامتي في الخارج. لقد تم الارتباط بشبكة الإنترنت في المغرب سنة 1996. وربطي بالشبكة يرجع إلى منتصف يونيو/حزيران من السنة نفسها، أما بالنسبة لموقعي فلقد انطلق في بداية 1997 «.

زهور كرام
٭ الروائية والناقدة المغربية

أعلى