نزار حسين راشد - أمان الله.. قصة قصيرة

سافرت إلى الفلبين في مهمة٠ قصيرة برفقة مجموعة من زملاء العمل وفور نزولنا في أحد فنادق مانيلا، وربما من قبيل الحرص على سلامة السائحين،حذرناموظف الإستقبال من أن لا نتجول مفردين،وأن نتجنب بعض المناطق،التي يتجمع فيها أفراد عصابات،وزعران،وخص بالذكر منطقة على الشاطيء،لم أكذّب خبراً وكعادتي في التحدّي ،غافلت جماعتي واستقليت تاكسياً ووجهته للذهاب إلى تلك المنطقة بالذات،السائق بدوره أعاد تحذيري،ولكنه استسلم أمام إصراري،ثم عرض علي بعد تردد،أن يأخذني إلى منطقة أرقى إذا كنت أبحث عن فتيات!

على الشاطيء المديد كان هناك حشد كبير موزعين إلى مجموعات صغيرة،ولم يلبث أن لفت وجودي انتباههم،وهنا كان علي أن ألجأ للتطبيق أو التكتيك،الذي علّمني إباه صديقي الذي ترعرع في شيكاغو،قال: إمش بثقة ودس يدك تحت جاكيتتك،حتى يظنوا انك مسلح،هكذا كنت أفعل حين أمشي في حارات السود.

لم تلبث حتى تقدمت مني فتاة وقالت :

-هل تريد فتاة يا سيدي؟

لم تكن قد تجاوزت اثني عشر عاماً أو ثلاثة عشر على الأكثر،انفطر قلبي حزناً على هذه المأساة المجسمة،وكدت أخرج بعض النقود وأعطيها إياها،حين تذكرت نصيحة صديق لي قضى ردحاً من عمره في شوارع القاهرة،قال:

-إذا تقدم منك متسول أو فتاة فحاذر أن تخرج نقوداً لتعطيه،لأن هذا طُعم،حيث يرسلهم النشالون واللصوص ليتأكدوا أن بحوزتك نقوداً،وهكذا قلت بصوت عال ليسمعه هؤلاء المتربصون:لا أحمل نقوداً!

ولم يلبث أحدهم أن بصق مغمغماً:بطاقات فيزا،وسمعت لفظ عاهرة،وترجمت كلامه على أن أولاد العاهرة هؤلاء يحملون البطاقات عوضاً عن النقود.

في مانيلا ترك الأمريكان نجاساتهم كلها ورحلوا بعد الحرب العالمية الثانية،الدعارة والفقر المدقع وبعض الصناعات التي خدمت اقتصادهم ليس إلا حين أتبعوا الفلبين رسمياً لبلادهم!

حين عدت عاتبني أصدقائي حين حكيت لهم،عن هذه المغامرة غير المأمونة،ولكنهم أصغوا إلي بإعجاب وأنا أشرح لهم أن "مانيلا" هي اسم محرف عن أمان الله،وأنها كانت من أكثر البلدان أماناً حين وفد إليها المسلمون وأطلقوا عليها هذا اللقب،ثم جاء الإسبان فحكموها حكماً غاشماً وطبعوها بطابعهم،ثم جاء الأمريكان ليعيثوا فساداً ويخربوا ما تبقى،ثم تخلوا عنها في النهاية،وأردفت:.هذا ما خسره العالم بانحطاط المسلمين ورحم الله أبا الحسن الندوي الذي عنون كتابه بهذا العنوان"ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين".

وتذكرت أني حين زرت مصر اتبعت في سياحتي أسلوباً ابتدعته،أن أحجز تذكرة قطار للمحطة الأخيرة وأترجل عشوائياً في محطة ما،ثم أبدأ بالتجول.

وجدت نفسي في قرية مصرية صغيرة،تبدأ أزقتها ولا تنتهي،وفشلت في العودة إلى السكة الحديد وكأني أدور حول نفسي،شعرت بالجوع ولم يكن هناك أي مطعم أو فندق أو حتى مقهى،والتفت فجاة لأرى دكاناً صغيراً،علقت عليه لافتة كتبت بخط اليد:بقالة العم ابراهيم،ودلفت لعلّي أجد شيئاً أشتريه،وراء الحاجز الخشبي المتهالك،وقفت امرأة شابة،ابتسمت وقالت رداً على سؤالي:عندنا عيش وجبنة.

-أعطيني ما تيسر

ضحكت المرأة وهي ترى شاباً تبدو عليه النعمة،يتصنع لغة المتسول،قدمت لي كرسياً قديماً، وجلست لآكل وهي تراقبني،ولم تلبث أن نهضت وقدمت لي زجاجة مياه غازية،لم أعرف من أين التقطتها،فلم ألحظ وجود ثلاجة داخل الدكان.

إنهيت طعامي ونهضت:

-كم؟

قلت وأنا أخرج محفظتي!

-ولا حاجة!إنت غريب يا عيني وضيف واحنا ما ناخدش من الضيف!

اعدت حقيبتي إلى كتفي،ووضعت بعض الجنيهات على الطاولة وتهيأت للانصراف!

ولكن المرأة التقطت النقود،وخرجت من وراء الحاجز وهي تعلن بإصرار:

-مش ممكن! ده انا حلفت!انت غريب! ده حتى تبقى عيبة في حقنا!

كانت لهجتهاجادة وليست من قبيل المجاملة التي هي طبع أصيل في المصريين،ووجدت أن علي أن أستعيد نقودي إكراماً لهذه المرأة ذات الطبع النبيل،والعزة التي يفتقدها أثرياء هذا العالم!

وتذكرت أن أسألها عن الطريق التي توصلني إلى سكة القطار،فأعطتني وصفاً دقيقاً أوصلني إلى المحطة في زمن قياسي.

ترى هل تبقى في ريف مصر من أمثال هذه المرأة،أم أنها التحقت بشيكاغو ومانيلا والقاهرة حتى؟ ولم يتبق منها إلا الذكرى الطيبة!

نزار حسين راشد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى