صابر رشدي - ضاربة الودع.. قصة قصيرة

الغجرية النحيلة، سمراء الوجه، تطوف الحارات، والشوارع المحيطة. تختفى أحيانا، ثم تعاود الظهور مرة أخرى بعد فترة طويلة، بالهيئة نفسها، والعمر نفسه تقريبا. خطوط الوشم خضراء، مطبوعة على الذقن، وجانبى وجهها الممصوص، السيجارة لاتفارق أصابعها، تمجها بشراهة مدمن عتيد. فى اليد الأخرى صرة صغيرة، داخلها حفنة رمل، وعدد من محار البحر. جلبابها حائل اللون يدعم هذا المظهر التاريخى الذى ينفجر داخلى ألآن كأنه ثمرة مخيلة تطفح بصور متتالية تجسد حكاية خرافية من التاريخ .
-أضرب الودع ، وأشوف البخت .
تنادى بصوتها المعدنى الحاد، وهى تقف عند إحدى النواصى، يرن الصدى واضحا دون تشويش أو تردد .
أقترب منها .
-أشوف حظى .
تهبط إلى الأرض، جلسة القرفصاء، كالرجال معتادى الحجز فى أقسام الشرطة. " قعدة حبسجية " كنا نسميها ... تفك الصرة ، تلتقط المحار، تناولنى إياه .
-وشوش الودع، قل ماتريد، كل أمنياتك . وأحلامك .
مطيعا وسعيدا، أنفذ أوامرها، ثم أعيد إليها المحار. تستعيده، ثم تبعثره برمية متقنة فوق الرمل .
-إرم بياضك !
أضع قروشا قليلة فى كفها .
-لاتكفى ، الرمل لن يستجيب .
-لايوجد معى نقود أخرى . أجيبها.
أعلم أنها ماهرة فى سحب ثمن لعبتها مقدما على نحو جيد، وتعلم هى أن معى نقود أخرى فى جيبى .
فى نهاية الأمر، تعاود العمل بضجرواضح، تبسط الرمل، وتباعد بين المحاربأصابعها، تبدأ القراءة، كأنها تطالع لوحا مكتوبا، تلقى بكلمات متراصفة، يكمل بعضها بعضا فى برولوج متقن .
-أنت تحب !
-نعم .
-هناك بنية جميلة تعشقك، وأنت لاتعيرها إهتماما.
-لا أعلم .
تواصل على هذا المحور، مقدمات مغرية، تداعب نفس فى سن المراهقة، وتغازل إهتماماتها المتوقعة .
على نحو مباغت، تنتقل إلى منطقة اخرى .
-إرم بياضك .
- ليس معى نقود .
-قدامى أشياء عظيمة .
-ماقلته ليس جديدا، عادى جدا، ويحدث لكل الناس .
تلتقط أنفاسها بغيظ .
-طيب . إستمع لما أقول .
ثم تبدأ فى سرد أحداث من الماضى، أشياء حقيقية، وأشياء مذهلة .
الأشد إثارة تحاول المساومة عليه .
-إنت ولد صعب .
تواصل العجوز التى لاتشبه بقية النساء، بملامحها الممتعضة ناطقة جمل تلغرافية قصيرة، خطوط عامة تخلو من التفاصيل الموسعة .
لقد بحت للودع بكل مافى صدرى، أحلامى ، آمالى، أمنياتى المستحيلة، أفكارى المجنحة فى عمق الخيال، راسما مستقبل لايخطر ببال أحد، كان طموحى يتفوق كثيرا على مهارات تلك السيدة التى راحت تلقى بالتنبؤات فى اتجاه مغاير، كأنها تتحدث إلى شخص أخرلاينتمى إلى . شعرت لحظتها بأن ثمة مصادر مبهمة، تبدو على هيئة أطياف تحيط بنا، لكنها محجوبة تماما، رغم إحساسى المطلق بوجودها القلق، وهى تناضل ضد الظل والتجاهل البشرى، كائنات تلقن العرافة كلمات متألقة، شبيهة بالشعر المندغم مع نار الحكمة، كان بعضها يهرب منى منسربا إلى دروب النسيان عدا بضع جمل، عندما نطقت بهما المرأة لفتنى إليها إهتمام مباغت، تحديدا مع نظرة عينيها الشاخصتين إلى بانفعال عارم يلفه الصمت المضطرب. كانت تحدق فى مرتعدة، وهى تردد تنبؤاتها المزلزلة بوجل، قبل أن تلملم أشياؤها وتمضى مسرعة من أمامى، هاذية بكلمات مبهمة .

صابر رشدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى