د. مصطفى أحمد علي - مقهى أوبرا..

وجوه شقراء وأزياء سوداء.. جلس إلى طاولة سوداء تحيط بها كراسي سوداء.. الديكور كله أسود! الملصقات يسارية والجو بوهيمي والروح باريسية.. ذلك كله هيج حنينه لباريس و معاهد أحلامه ومسارب آماله، ومنطلقات روحه وعقله فيها.. ذلك كله أغراه لكي يبحث عن مجلس وكرسي، في هذا المقهى المنزوي في إحدى حوافّ الدنيا في هذا الشمال البارد، وصرفه عن الجو الدافئ البديع والشمس المشرقة في الخارج. كان قد تجول قليلا ثم سلك الطريق المؤدية إلى الميناء وسوق السمك... تعلقت عيناه بتحف بديعة الصنع.. رغب في شرائها وإهدائها، ثم لم يهتد إلى رأي، حتى متعة العطاء تغدو أحيانا غير متاحةّ! أشقي هو؟ أشقي بما هو فيه؟ لم يكن يدري.. ثم بدا له أنه أفضل حالا ممن هم حوله إن كانت الأشياء في جملتها نسبية! ما انفكّ القنوط الثقيل يحلّ عليه من حين لحين.. كان قد تحّول إلى شيء شبيه بالشجن قبل أسبوع، لكنه سرعان ما عاوده اليوم كأشدّ ما يكون!
بمقياس عام، لا يبدومتعثرا في حياته..يغبطه هؤلاء و يمقته هؤلاء..لكنه حينما يخلو إلى نفسه تبدو له تفاصيل أخرى ويقوده النظر إلى شيء من الشكّ ! شيء من عفوية وتلقائية يقود خطواته!
قضى جلّ يومه مع أندرس. عرفت نفسه شيئا من الهدوء. تأمّل واقع أمره وواسى نفسه متمثلاحقيقة أمر الدنيا.. تأمل معاني الموت والحياة..اختلط أمراهما، ذلك أن التبصر يفضي إلى شيء من المفارقة، فكم من حيّ هو في خمود ذكره وخمول أحواله كالميت، وكم من ميت غدا مثواه ضريحا يزار و سبب في حياة وعمار ومدينة!
قرأ كلاما قديما كتبه قبل بضع عشرة سنة ، في صيف قائظ بالفاشر الثانوية، توسل فيه ألا يكون في عداد مقبرة الحياة! واستقر في وجدانه منذئذ، أنمن شأن الحياة في بعض صروفها، أن تكون مقبرة! أين هو اليوم من ذلك كله

-----

ما أبدع هذا الصباح المشرق! ينظر منذ اليوم إلى هذه المدينة بعيون أخرى..لطالما ردّد أن السعادة إنما تنبعث من داخل نفس المرء، وأن البهجة ما هي إلا تجاوب داخلي مع مظاهر الجمال الخارجي، من عطر ولون وألق وطيب هواء وحسن جمال... لا يدري كم من مرة استغرقتههذه الخواطر، ينام عليها و يفيق؟
أحسّ منذ يومه أنه إيطالي المزاج ، ميديتراني الهوى، تبسم له المدينة وتطالعه بعيون زرقاء فيروزية..ثمة جوانب داخل نفسه قلّ من يدركها ويتجاوب معها.. قلّ من ينفذ إليها!
كان قبل ليال يردّد أبياتا قديمة للعقاد، يفكر في جمال المدينة الذي لا ينفذ إلى قلبه الموصد المنكفئ:
ما حيلة الجنة الزهراء إن صفرتمن = وردة هي عندي منتهى أربي
في غير لبنان تسلو ريح جنّته إذا = التمست نصيح الطبّ عن كثب


مصطفى أحمد علي
بيرغن، يونيو 1989

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى