خليفة حسين مصطفى - بواكير القصة الليبية القصيرة

روح المغامرة.. وإرادة التجديد

إذا كانت القصة الليبية القصيرة قد حققت نجاحات كبيرة وفي فترة زمنية قصيرة، فإن المرء وهو يطرق بابها الذي يفضي إلى مرحلة نضجها المترع بخصوصية التجربة الإبداعية في أجمل وأرقى ما تمثله من فاعلية وتأثير لابد له من أن يتوقف متمأملاً عند نقطة البداية، أو ما يمكن أن نسميه بمعنى آخر بمرحلة المخاض الصعب، وهي المحاولات الأولى المتمثلة في ظهور فن القصة القصيرة في ليبيا في العقد الثالث من القرن العشرين، وسعى كتابها المتواصل وعملهم الدؤوب من أجل تطويرها ونموها برغم كل العثرات والتجربة غير الممهدة جيداً والمناخ السياسي والاجتماعي والثقافي الذي كان سائداً لدى بروزها في الجرائد والمجلات، وهو المناخ العاصف الذي كان الوجود الاستعماري البغيض أبرز ملامحه وأسوأ مركباته، بالإضافة إلى ظله القاتم الذي يتشكل من الأمية والفقر وعدم الاستقرار، وكلها كما هو واضح عوامل سلبية تدعو بطبيعة الحال إلى الإحباط والتشاؤم.

كان ذلك هو أفق البداية، ومع ذلك فنحن لا نستطيع تجاوزه من باب الحرص الذي تفرضه أمانة البحث وموضوعيته،بالرغم من أنه أفق ضيق ومحدود، كانت الأسماء قليلة، وقد لا تزيد في مجموعها عن عدد أصابع اليد الواحدة، وحتى وهي بهذه القلة فإننا نجد صعوبة في التعرف عليها وتخليصها من غموض التخفي برموز وألقاب مستعارة، كما نجد صعوبة أيضا في دفع خطوط فاصلة بين ما هو قصصي ولو في صورته المبدئية، وما هو خاطرة أدبية أو قطعة وصفية بلاغية تستهدف في حدها الأقصى الوعظ والإرشاد والدروس الأخلاقية من دون أن تحقق حضورها الفني بالمعنى المحدد والدقيق للكتابة القصصية إلا في فترة متأخرة، وإذا كان هذا بمثابة المظهر السلبي الذي أسهم بشكل ما في تأخير مرحلة النضج والعبور إلى مرحلة الوعي بقواعد وأصول فن القصة الحديثة فإن أسبابه تعود بكل أبعادها الفكرية والاجتماعية إلى جملة من المفاهيم السائدة آنذاك لمفهوم الكتابة والأدب والصحافة والتصورات المشوشة المتعلقة به، كما تعود من ناحية أخرى إلى المكتسبات الأدبية والموروث الثقافي والقراءات والمطالعات القائمة على الإرشاد والتوجيه والدعوة إلى التمسك بالأخلاق الحميدة والسلوك الاجتماعي الرصين، أو إلى التداول الحرفي للنصوص القديمة وحفظها من الذاكرة على أنها من جواهر البلاغة والأدب الرفيع.

وقد ترافقت بدايات القرن العشرين مع محاولات للصحوة الأدبية والثقافية تمظهرت في صدور العديد من الصحف والمجلات التي وجد فيها الكتاب بمختلف فئاتهم ونزعاتهم الأدبية وسيلة فعالة أو نافذة يطلون منها على المجتمع، فقد تولت الصحافة في غياب كلى لدور النشر القيام بنشر نتاج وإبداع الكتاب والأدباء المعروفين أو الطارئين وتمكينه من أن يكون بين أيدي القراء بعد أن كان يتحرك في زاوية ضيقة.

وقد أسهمت عدة عوام إيجابية في هذه الصحوة التي جاءت متأخرة إلى حد ما، من أهمها عودة العمل بالدستور العثماني عام 1908 ونضج الوعي الوطني والشعور بخطورة المطامع الأجنبية، وكذلك تأثير البلاد العربية المجاورة التي أخذت تشهد نوعاً من الازدهار الفكري والثقافي، إضافة إلى عامل آخر ساهم في هذه الخطوة وهو تأثير أو إشعاع المدارس الحديثة التي أسستها الحكومة التركية والتي مكنت الطلاب المنتمين إليها من الإطلاع على النهضة العلمية المعاصرة ولعب دور محوري في الصحوة الاجتماعية والفكرية، وزيادة على ذلك فهناك الطلبة الذين تلقوا تعليمهم في المعاهد المصرية، واطلعوا على إبداعات الكتاب والشعراء المصريين وتعرفوا على وسائل التعبير المستحدثة كالقصة والرواية.

ومع ذلك فإن هذه الصحوة قد تعرضت إلى نكسات كثيرة ولم تؤد إلى نتائج مؤثرة في المجالات الثقافية والاجتماعية، وما أحدثته من تطور على الحياة الأدبية لا يكاد يذكر، فقد ظلت الكتابات الصحفية والأدبية أسيرة التقاليد القديمة في التعبير، محتفظة بروحها البلاغية الشكلية، ودوائرها الاجتماعية الضيقة وأساليبها الخطابية المباشرة وأفقها المتحفظ، وحتى محاولة إيجاد صيغ جديدة في الكتابة ومحاولة إيجاد خطاب ثقافي أكثر فاعلية توقف عند حدود المقال القصصي المعمد بالمبالغات والزخرفة اللفظية.

ولم ينج من مصيدة هذه الكتابات العتيقة وطابعها الإرشادي سوى د. وهبي البوري الذي دلف إلى عالم الأدب في منتصف الأربعينيات من القرن العشرين بموهبته الكبيرة وطموحاته العريضة وقراءاته الواسعة في الأدب العربي والعالمي وتعرفه على المذاهب والمدارس الأدبية الحديثة، فلم يقنع بالسائد والبحث عن مكان يحتله تحت عباءته الفضفاضة، فقد كان مسلحاً بروح المغامرة وإرادة التجدبد وإدراكه لأبعاد الوظيفة الاجتماعية للأدب، وبهذه الروح المترقبة شرع بخطوات متباطئة ولكنها في نفس الوقت جاءت متقاطعة مع التيار الذي كان يجرف الآخرين في طريقه كالحصى، لقد تمكن وهبي البورى في فترة زمنية قصيرة من دفع الخطوط العريضة للقصة الليبية القصيرة وتحريرها من الصيغ البالية وتطوير بنائها الفني والانتقال بها إلى مرحلة متقدمة وناضجة على مستوى السرد، ولكنه مع ذلك لم يستطع التخلص من الطابع الحكائي في كتاباته القصصية، إذا ما تفحصنا مواضيعه نجده يركز كل اهتمامه على العلاقات الزوجية وتكراره لهذا النموذج في أكثر من قصة وكأنه يعود في كل مرة لكتابة نفس القصة من زاوية أخرى دون إضافة لما سبق قوله في عمل آخر، وليس أدل على ذلك من قصة (الوهم الكبير) التي لا تختلف كثيرا عن قصة (العودة إلى العش) إلا في أن بطل القصة يتزوج من فتاة إيطالية، ثم يهجرها ليجرب حظه مع فتاة أخرى، ولكن كل هذه المغامرات العاطفية تنتهي بالعودة إلى وطنه وإلى زوجته الأولى، ومما جاء في هذه القصة (وفي المساء سمع حسن طرقا على الباب فأسرع ليعرف من القادم فوجد أخته وبرفقتها غالية، وقد إزدادت في نظره بهاء، فدهش وتلعثم وارتعش وصعد الدم إلى وجهه، ثم أكبّ على يديها يقبلهما ويغسلهما بدموعه، واختلطت الكلمات في رأسه وتضاربت في فمه فلم يستطع النطق بعبارة واحدة سليمة تعبر عن فرحته وهو الأديب والشاعر المفوه).

وأما في قصته (العودة إلى العش) فإن بطل القصة يقع في غرام فتاة من بني جنسه أوقعته في حبائلها فكان أن تزوجها، وبعد أن قضى معها فترة من الوقت اكتشف أنه وقع (فريسة لمخطط ابتزاز واحتيال أعدته “ليلى” بدقة ومهارة للاستيلاء على جزء من ثروته مستغلة ضعفه وتعلقه بها، وقلب الأمر على جميع وجوهه، واقتنع بأن استمرار زواجهما سوف يزيد من المشاكل والخسائر والفضائح، وأنه جاء الوقت الذي سوف يزيد فيه إحراجها كي يطلقها، وتحصل على مؤخر صداقها الكبير). وهكذا يعود هذا الزوج المغامر إلى زوجته الأولى مخذولاً ونادماً.

وفي هذه القصة يقول المؤلف: أغلقت عائشة في مساء أحد الأيام باب دارها من الداخل وذهبت لتعد لأولادها طعامهم والذهاب إلى فراشهم وسمعت طرقاً على الباب فأسرعت بفتحه، وقد وجدت عثمان واقفاً بيده حقيبة ملابس فقال لها: هل تسمحين لي بالدخول، فقد طلقت ليلى، وأرجوك أن تصفحي عني، وتعتبري كل ما حدث نزوة قد انتهت.

فأخذت عائشة الحقيبة منه وقالت:

– مرحبا بك في دارك وبين أولادك، فأنت صاحب الدار وسيد من يسكنها وقد عدت إلى عشك.

وأما مشروع الزوجة الثانية في قصة (الزوجة الثانية) فإنه ينتهي بما يشبه الكابوس عندما يكتشف الزوج أن المرأة التي جلبها معه من مصر مازالت مرتبطة برجل آخر هو زوجها الشرعي، وحتى قصة ” اللهم اكسر رجله ” فإنها تندرج في هذا السياق.

ومن خلال استثناءات قليلة طرق المؤلف أبوابا أخرى بمنأى عن نموذجه التقليدي، وهي جديرة بأن نتوقف عندها، وكمثال على ذلك هناك قصة (الطريق إلى المجهول)، يعرض فيها المؤلف لمغامرة أحد المجندين الليبيين الذين التقطتهم إيطاليا من الشوارع وأرسلت بهم إلى جحيم (إديس أبابا) لكي يحاربوا بالنيابة عن جنودها في قتال الأحباش، أحد هؤلاء المجندين يدعى “بشير المظفر”، كان المجند كما ورد في القصة عائداً إلى معسكره بأديس أبابا عندما رأى فتاة في مقتبل العمر تبكي بحرارة أمام أحد الأكواخ فاقترب منها وسألها ما بها؟، إلا أنها عندما رأته ببزته العسكرية ازداد فزعها وخوفها وصياحها فأشار إليها لتهدأ، ثم كلمها بالإيطالية ثم العربية قائلاً لها: لا تخافي لن أؤذيك، إني عربي ومسلم فلا تخافي.

تمعنت فيه قليلاً، وقالت له:

– إني مسلمة، وقد جئت من بريرة بالصومال البريطاني للبحث عن أخي فلم نعثر عليه، وقامت الحرب، ولم نستطع العودة ودخل علينا جنود صباح اليوم، فقتلوا والدي، ونجوت أنا لأني كنت خارج الكوخ.

وأما تطورات القصة فيما بعد فقد تمثلت في إقدام بطل على مساعدة الفتاة على العودة إلى وطنها ومرافقتها في الطريق المحفوفة بالمخاطر، وهو الذي قرر الفرار من الجندية (عندما كان في ليبيا، إلا أنه لم يوفق ولازمته الفكرة ولم يتخل عنها، وربما هذه الفتاة الحزينة تقدم له فرصة الفرار من الجندية).

(وهذا ما كان، فقد تمكن بشير ورابحة من الوصول إلى الصومال برغم مشاق الرحلة ومخاطرها، فقد غادرا الكوخ متجهين إلى الشرق وكل منهما يحمل كيسه على ظهره، وكل منهما كما يقول المؤلف دموعه في عينه وقلبه ينفطر من الأسى، رابحة حزنا على والديها وبشير خوفاً من المجهول).

تنتهي هذه المغامرة بسلام، وفي الطرق تنمو بذور التفاهم والمودة بين الطرفين لتؤول في نهاية المطاف إلى الزواج، وكان يمكن لهذه القصة أن تتطور في اتجاه آخر غير هذه النهاية التقليدية، وبالفعل فقد رأى المؤلف أن الأمور لا يمكن أن تنتهي عند هذا الحد، فمع انقلاب موازين القوى وكسب بريطانيا وحلفائها للحرب يعتقل بشير ويوضع في معسكر للأسرى الإيطاليين باعتباره مجنداً إيطالياً سابقاً ليقضي فيه أربع سنوات، ثم يفرج عنه ليعود إلى وطنه ويفوز بوظيفة في الإدارة البريطانية بطرابلس، لكنه لم ينس رابحة، وبذلك فقد قرر السفر للبحث عنها في (بربرة)، وهناك يعثر على رابحة أخرى غير تلك التي تزوج بها، كانت (ذابلة الوجه غائرة العينين هزيلة البدن منكوشة الشعر رثة الثياب وكانت متزوجة من رجل آخر).

ومع أن الدكتور وهبي البوري بدأ كتابة القصة في عام 1936، ثم توقفه وعودته إلى الكتابة في نهاية عقد الأربعينيات، ثم كتب عدة قصص في فترة الستينيات من القرن العشرين، فقد ظل يكتب بنفس الأسلوب والحبكة التقليدية والسرد الحكائي فلم يغادر مقصده ولم يستبدل أوراقه ولا حتى مواضيعه، فجاءت قصصه في إطار محاولته لإحياء ذاكرتنا التاريخية باتجاه الأحداث التي مر بها الوطن في الزمن الاستعماري والإنجليزي، فظلت الدموع تنهمر من عيون شخصياته وتبلل وجوههم وظل القدر والصدف هي المحرك الرئيسي لهذه الشخصيات وتحديد مصائرها، كما أنها محكومة على الدوام بالمعاناة والقهر.

ومع ذلك فلا أحد يجادل في ريادة وهبي البوري لفن القصة القصيرة في ليبيا وهو الموقع الذي يستحقه عن جدارة.



أعلى