محمد الدفراوي - حلم لم يعشه..

لم يكن الوقت تجاوز ظهيرة الثلاثاء الأسود ، يرتحل القطار المطاوع متجها إلى المدينة العجوز لم تتحول بعد عن أحزانها و الدخاخين الضالة ، ملابسه فاقدة النظام ، متشنجة كمجذوب منزو ، تتطابق مع تعاسته ، في زيف يقبل يد المدينة من غير اقتناع بما يفعله ، يتخلي عن التفكير في مصيره المنتظر و ماضيه ، يعضه الفقر بسادية واضحة ، يركل مؤخرته الضامرة ، يهينه على نحو لاتزال آلامه تملأ حلقه ، يشفق على ما تبقى من كرامته المهدورة ، لن تمنحه المدينة القبول مجانا ، كان الأفضل لمثله الانتظار في غير استعجال حتى يحصل على إذن بالدخول ، لكنه جهز نفسه للرحيل ، متكئا على شبابه المفتول ، لم يحسب للأقدار حسابا ، اعتاد ان يتقبلها منكس الرأس بإرادة كريهة ..
ارتحل تحاوطه أمانيه الخجولة ، كل شيء هنا أعظم دهشة من قريته الكالحة ، النساء و الأضواء و الضجة الكبرى ، تملؤه الحسرة و الإعجاب لايدري كيف اجتمعت فيه المتناقضات ، و أشياء كرهها أكثر إحراجا من التعري ، لابد ان يتخلص منها في اقرب وقت ممكن ، تمنى أن لاتدوم ليوم واحد حتى يتصالح مع نفسه و يعيش ، لكن لا شأن له ببقاء أو زوال شيء ، بتثاقل عجيب اتجه إلي أبأس أحياء المدينة ، كغريب في مرفأ على حافة الأرض ، يغفل ما يتربص به ، فالقدر يتشمم رائحة الغرباء ؛ تصدمه سيارة مارقة ، تفقده ظله ، و ما أصعب أن يفقد المرء ظله ، يتكور مثل قط نائم ، بوسعك ان تتصور بؤسه ، يتدفق الدم الحار و الميت على وجهه ، في أشد اللحظات يأسا ، لايمكن تخيل أمرا أشد فظاعة من أن يقضي المرء البائس ساعاته الأخيرة مغطى بملاءات المستشفى البيضاء ، في حجرة تزدحم برائحة البنيج و أدوية منتهية الصلاحية ، الغبار يزعج رئتيه ، مجهول الهوية لا يعرفه أحد ، تنكره الأوراق الثبوتية ، مثله لا يعثر معه على شيء ، أغلقت الأبواب الإ واحدا مؤديا إلي سماء هائلة تنبسط فوق الأحجار ، يستجديها أن تهبه ما يتمناه و لو لمرة فيحلم لم يعشه بإمكانه أن يصيره ، تحت قهر الاحتضار ، لا يتبقى وقت لأي أمنية ، تنقطع أنفاسه ، تحوم روحه حول ضوء خافت لمصباح صغير .. عاد مع ملابسه ، و شفتاه السمينتان لا ترتجفان و لا يوصي بشيء..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى