سلام إبراهيم - صديقي الجندي..

كنتُ أنتظرهُ على جمرٍ، فقد أصبحَ "مطر" يخفف كثيراً من ثقلِ يوم الجبهة الطويل والعمل الشاق بسحر قصصه التي يأتي بها من قريته ومغامراته، في الأيام السبعة مدة الإجازة من كل شهرٍ. قلتُ أنتظره إذ كَفَّ عن روايةِ قصصه للجنود الذين كانوا يسخرون منه بعد أن يفرغ منها بالانهيال عليه قذفاً بالبساطيل الثقيلة وصفعاً على الرأسِ صارخين:
- كصاص .. كصاص .. أكبر كصاص!.
وسط ضجيج ضحكهم الهستيري.
عجزتُ عن حمايته بالرغم من الاحترام المفرط الذي يعاملونني به، إذ عدتُ قبل عام فقط من هروبي الطويل، وهو فعل عجزوا عنه أولا، وثانيا كوني خريج جامعة، مُخَمنينَ أن خلف هروبي موقفاً سياسياً وهم محقين بذلك، فقد عدتُ متسللا من بين ثوار الجبل متخفياً بين المدن وحينما انسدتْ أمامي السبلُ ولم أجد من يؤويني، اضطررتُ إلى التسليمِ مستغلاً عفواً عاماً فأعادوني إلى وحدتي التي هربتُ منها قبل سنتين.
عجزتُ فأشرت له أن لا يروي لهم، كنا قد ابتعدنا وصرنا قريبين من ساتر البطرية الترابي البعيد، مخلفين مدافعها الستة خلفنا. لزمَ الصمت مطرقاً يحملق بالترابِ مما أتاحَ لي ولأول مرة تأمل قسماته وتفحصها عن قربٍ؛ وجهٌ ناعمٌ وبشرةٌ لوحتها الشمس، وقسمات منحوتة بتلك الأحجام والنسب التي يبدو أن الرب لم يعتنِ بها، بل جمعها على عجلٍ فبدتْ غير مصقولةٍ، وغير منسجمةٍ، أشكال ميّزتْ وجوه فلاحي ريف جنوب العراق، وجوه مسالمة مطيعة. فصاحبي خاض كل معاركِ السنوات الخمس المنصرمة، ونجا من ميتات عديدة حكي لي العديد منها في جلساتنا التي كثرت في بحر يوم الخنادق الطويل؛ كان يخفف على وطأة الموت قائلاً:
- سلام خويه الأعمار بيد الله .. ها تشوفني "عَدِلْ" خمس سنوات ما ظلتْ معركة ما اشتركتْ به!
أطالَ التحديق بالترابِ، وأطلتُ في تأمله إلى أن رفع رأسه وحدقَ في أفقِ الغروبِ الكابي فارتسمت ملامحه جانبياً؛ عين واسعة ورموش سوداء وحاجب كث وأنف كبير وفم بشفتين مشققتين، والقسمات كلها بدت مثل محروقة بالشمس وبدأ جلدها يتقشر. أبحرَ في الأفقِ والشمسِ التي توارتْ تاركةً لطخاتٍ من لونها الدامي في عمقِ السماءِ، ثم التفتَ نحوي فرأيتُ في عينيه الواسعتين فاتحتي الصفرة دفء ومودة طافحة وأجاب:
- أشْ يخلصْ أيامْ الحربْ إذا ما واحدْ يسولفْ!.
- ...
انتظرت فقد أحسستُ أنه لم يُكْمِل فكرته، فأردفَ بعد فاصلة صمت:
- هذي الناس ما تفتهم!.
كان يقصد رفاقنا الجنود، وردود فعلهم على رواياته، فاقترحتْ عليه:
- "مطر" كلما ترجعْ من الإجازة سولفْ بَسْ إلي.
راقتْ لهُ الفكرة فأمسينا نختلي بعيداً عن بقية الجنود نفترشُ الترابَ قربَ الساترِ، ليبدأ السرد عن غزواتهُ الجنسية التي تجري أغلبها تحتَ ستار الليلِ، أو في عمقِ البساتينِ أوقات الحرِ في الظهائر، أو بين سنابل القمحِ في الحقولِ الشاسعةِ، وفيها دوماً هو "الديك" الذي يستطيع أن يمارس الجنس أكثر من عشر مرات في الليلة، يقول ذلك ويستدرك:
- شنو عشرة سلومي، يضيعْ العَدْ لَمْنْ الديكْ يَصيحْ ويْطرْ الفَجِرْ!.
كنتُ أحملق بهِ مدهوشاً، وهو ينسج قصصه، فيصور المكانَ بجمادهِ وأصواتهِ، قبلَ أن يبدأ بحركةِ كل قصة ليله؛ مغادرة فراشه بعد أن يخلد الجميع إلى النومِ باحثاً عن صيدٍ دسمٍ كما يسميه، كنتُ لا أسخر منهُ أبداً مقدراً وأنا كاتب القصة جهده في تكوين قصته، لم أفكر فيها تأليفاً، فعالم الليل في مجتمعات الكبت والقسر كمجتمعنا تَحتمل كل فنتازيا العقل والخيال. فكل قصة حتى لو كانت من نسجِ خيالٍ ممكن وقوعها. ولما كنتُ في مراهقتي متلصصاً من الطراز الأول، إذ لم ينكشف أمري مرة، فقد كنتُ أصغي بذهولٍ ونبرة صوتهِ الخافتةِ المنفعلةِ تصور المشهدَ بدقةٍ؛ ليلٌ دامسٌ يعتمد على التخمين لا النظر، الحركةُ بطيئةٌ حتى حفيف الخطو يجبُ أن لا يصدر أي صوت. كانَ يفيض في الوصفِ والحركةِ فيستطيل الانتظار والترقب، ويكتم أنفاسي بينما هو يلهث وكأنهُ يمارس غزوته الآن، كانَ يُخْفِتْ صوته حد الهمس في هدوء جبهة شرق البصرة الشاسعة، حتى أضطرُ إلى تقريب أذني منه بالرغم من مكاننا المنعزل وخصوصاً في مقاطع الخطر، ففي أحداها وصف لي كيف سطا على بيتِ عروسة صغيرة شابه زَوَجُها شيخٍ من شيوخ القرية يكبرها ثلاثين عاماً. زارتهم مرةً لمعرفتها بأختٍ من أخواتهِ كانتْ معها في مدرسةِ القريةِ، فبادلها الحديث وارتاحتْ له، أضحكها برواية نوادر مضحكة عن الشيابِ، وَغَمَزَ لها في غفلةٍ من أختهِ، فتضرجَ وجهها وضحكتْ شاردةً بنظرها، لم يهمل الإشارة طويلاً، في الإجازةِ التاليةِ، قرَّ عزمه على السطو، ولما سألتهُ بكلِ جدٍ:
- مطر ليش ما واعدتها بالحقول .. بالبساتين!.
- مستحيلْ هي أجتْ حتى تأخذْ قياسات لثوبْ تخّطيه أختي، بعدين هذوله الشيوخ يخافون على زوجاتهم، لأن ما يشبعوهن! "رأس واحد ويشخر" فتظل المرأة تلوب الليل كله مثل سمكة مزهورة!.
قالها ضاحكاً وعادَ إلى قصتهِ بوجهٍ جدي منفعل، كيفَ عَبَرَ السور وخطا في الحندسِ نحو غرفتها المتطرفةِ عن غرفِ العائلةِ والزوجةِ الأولى الكبيرة، معتمداً على الذاكرة مقدماً ذراعيه وسائراً ببطءٍ شديدٍ حتى لَامسَ آجر جدارها البارد، وَجَدَ الباب مردوداً، فلبث يتّسمع طويلا قبل أن يدفعها مليماً مليماً حتى انفرجتْ بما يتيح له الولوج. غَمرهُ دفء الغرفة. وَسَكنَ جوار الباب دقائق ينصت لشخيرٍ خفيفٍ يصدر من عمقها، قطعَ سرده بجملةٍ عرضيةٍ تزيد من لحمةِ القصة:
- سمعتها تِشْتكي لأختي من قلة النوم بالليلْ "الشيخ يشخر بأذني"، فأعانتني على معرفة موقعها بالظلام!.
ثم رجع إلى تصور التفاصيل، كيف دَبَّ مثلما دبيب النمل قاطعاً المسافة إلى سريرهم حابساً أنفاسه حتى صار جواره، أزاحَ عنها الغطاء وحملها، كانتْ صغيرةً خفيفةً، بعد أن أطبق بكفه على فمها قائلا:
- سلومي ماتتْ أبينْ أيديه!.
تخيلتها وقد أخرسها الرعب فتخشبتْ بين ذراعيه كالجثةِ، وخلفَ الغرفةِ تحتَ نافذتها الواطئة همستْ له مرعوبةً:
- هذا أنتَ "مطر" عزَ العزاكْ!.
لكنها استجابتْ وساعدتني في خلع سروالها قائلةً:
- بسرعة .. بسرعة تره ننقتل .. بسرعة!.
ووصفَ تفاصيلَ ما جرى وكأنهُ يرسمها بريشةِ رسامٍ ماهرٍ يُظهر أصغرَ وأدقَ ما يراه، ثم ختمها:
- أشكدْ كانتْ ناعمة وفرجها رطبْ!. وَداعتكْ ما طلعته ثلاثة "رؤوس"!* وما هدّيتها إلا والفجر بيَّنْ!.
كنتُ أنتظره على جمرٍ ليرحل بيّ من أجواءِ الجبهة، وعملها الشاق في نقلِ العتاد، وحمل القنابل، والرمي والقصف المتبادل، ورعب القذائف المتساقطة التي أصابتْ العديد من زملائنا وأخذتهم إلى العالم الآخر، من الخوفِ ورعبِ لحظة القبض عليّ حال انكشافي أمري "متسللاً من بين العصاة المسلحين"، من توتر الحاضر، من اليأس الذي يصيبني بالكآبة، من.. ومن إلى عالم القرى في الليالي " ومطر" يجوب فيها مثل خفاش يسطو على، المطلقات وأرامل الحرب المتكاثرات كلما طالت، واللواتي حسب تعليقاته على قصصه، ما أن يذهب رعب اللحظة الأولى وتطمئن، حتى يقبلنَ بلهفةٍ فتستحيلْ المضاجعة إلى عراكٍ وصرخاتٍ مكتومةٍ وفحيح على حد وصفه، رأيتُ عشرات القرويات العراقيات اللواتي لم أتعّرف عليهن في الواقعِ بالرغم من عملي مشرفاً زراعياً في الريفِ لسنواتٍ إلا من بعيد. وكنتُ أراهنَ بوجوههنَ الشاحبة الضعيفة وأجسادهنَ الهزيلة وملابسهن الرثة السوداء غالباً مسكينات واقعات تحتَ قبضةِ القيم والأعراف القاسية والفلاح العراقي الجلف، وكنت لثوريتي الطافحة وتعاطفي قد أخصيتهن بذهني. ولم يخطر ببالي أنوثتهن ورغائبهن بالمطلق. لكنه "مطر" أخذني إلى عالمهنَ الخبيء الصارخ في الصمتِ والظلامِ بما يكتنز في أجسادهن من شهواتٍ جسّدتها حكاياتهِ الشيقة.
إلى أن عاد من إجازةٍ ليعكف في الملجأ مخفياً جسده تحتَ البطانيةِ العسكريةِ القديمةِ رافضاً الكلامَ، فأتوا إلى ملجأي ضاحكين طالبين مساعدتهم في معرفة ما جرى له فسألتهم عن الموضوع فأجابوا:
- وجهه مشوه وعينه اليمنى وارمة، يعني مبسوط بسطة زينة، ومن أجه قبل ثلاث ساعات ما طلع رأسه من جوه البطانية!.
تخيلتُ تكوره وتجاهله توسلاتهم قلتُ لهم:
- أتركوا المسكين بضيمه!.
بعد ثلاثة أيام ألفنا ملامحه المشوهة، وعاد يتحرك بعفويته الأولى، وحينما اختلينا في ركننا المنعزل وسألتهُ عما أصابه فهمس بصوتٍ متهدجٍ:
- إلا شويه أُخوكْ أجه يروحْ بِها
صمتَ طويلاً فانتظرتهُ:
- فكرتْ بالسطو على قرية مجاورة فأنكشف امري والتموا عليّ شبابها بالظلام، بس أخوك سِلَمْ بجلده بطلعان الروح، وفلتت وما شخصوني وهذا المهم.
ربتُ على ظهرهِ وقلتُ له:
- المهم سلامتك "مطر"!.
وعانقته فأنفجر باكياً مثل طفلٍ، وهذه المرة الوحيدة التي رأيتهُ فيها يبكي.
بعد أسابيع ستأتيني إشارة كي ألتحق بالثوارِ للمرة الثانية بعد أن كاد ينكشف أمري، وقبلَ أن أنزل في أخر إجازة قصدتهُ وعانقتهُ بحرارةٍ مودعاً بصمتٍ، وفيما استدرتُ قاصداً سيارة أرزاق الوحدة الذاهبة إلى البصرةِ أستوقفني ممسكاً بذراعي، فالتفت إليه، لم يتكلم لدقائق بل أكتفى بالغور في عينيّ مما أربكني قليلا فقلت له:
- أش بيك مطر؟
نطقها:
- بَعَدْ ما ترْجعْ مو؟!.
- ...!
أفلتُ ذراعي بصمتٍ وهرولتُ نحو السيارة التي شرعتْ بالتحركِ. ومن عربةِ الناقلةِ الكبيرةِ رأيتهُ يهرول قليلا، ثم يتوقفْ ملوحاً بذراعيه وهذه أخر صورة بقت في ذاكرتي له، كان ذلك في شباط 1985.
عدتُ عقبَ الاحتلال الأمريكي 2003 وبحثتُ عن جنودٍ من أبناء مدينتي كانوا معي في تلك الوحدة فعثرتُ على واحدٍ وأول ما سألتُ عنه هو "مطر"، فأجابني بلا انفعال فقد مرّتْ على ذلك سنوات طوال:
- قبل شهرين من توقف الحرب أستشهد بكمين جماعتكم الأكراد بالشمال. كان يجلس جنبي بالناقلة وطلقه برأسه، مات بلحظتها المسكينْ!.

الدنمارك 17-3-2018

* رأس: اسم يطلق العراقيون على العملية الجنسية

http://www.alkalimah.net/articles?IssueID=187&TypeID=4&fbclid=IwAR3fl_5QjCz1CKu2izVRhR_gFn3uLBxeDVlmIyw6vzck9EAFpoh50fB1uRY

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى