عقل العويط - لا تـنحنِ إلاّ لـلحـب تقول بـــاريس.. في حدائق الشعر وماتيس وبيكاسو وساره بـرنار وكيار وستامـي

كنا نعتقد للتو أن الخريف الباريسي لن يكون أكثر رأفةً وذكاءً من أيّ خريف آخر، أو أنه لن يكون أشدّ امحاءً من العينين. لكن ذلك تبدّد في لحظة واحدة عندما شاء الخريف أن يكرّم شعرية الحياة بفاكهته البصرية العذبة وأن يمنح الوقت فرصةً أن ينزلق الى أمزجته الحرة. لم يخطىء الوهم الرومنطيقي حين جعلنا نستقبل بشبق غامر ذاك الكثيرَ من النضج المثقل بخمرة الشمس، وذاك القليلَ من الليل الفجريّ، ومن جروح المطر، وأيضاً من رذاذ البرد الناعم كشهقة امرأة، وهذه كلها أنعشت الروح صباح ذلك السادس من تشرين الأول.


باريس...

كنا قد التقينا نحن الثلاثة عند فم مترو كليبير في الثامنة والنصف صباحاً. لم نكن قد شربنا القهوة، وكان من الصعب أن نتفاهم مع وجع البوهيمية أو مع أرتال الشجر المتراصفة كملائكة في الطريق المفضي الى آخر خيالاتنا. صحيحٌ أني قبّلتُ بحركةٍ من يديّ وشفتيّ الأشجارَ والورقَ المتساقط الى حيث لا أدري، وصحيحٌ أني لم أشأ أن أُحزن المساء الذي فات، لكن المشوار كان سيكون مستحيلاً بدون القهوة. وكذلك الكلام. ولأجل هذا السبب كانت الابتسامات، ابتسامات الأخوّة والصداقة، غائبةً وغائمةً على غرار غيبوبة الضوء في الصباح الأليم.

ومع أننا دلفنا نحن الثلاثة الى السيارة المرسيدس، لم نشأ أن نخرج من باريس قبل أن نجلس قليلاً ونسلّي الأمزجة بغمام القهوة المرتمي على زجاج المقهى.

النظرات الهاربة مع الريح الخفيف شاءت أن تكون هي رسالة الصباح وفطوره وحواره الأعمق من المعاني. ولأجل هذا امتلأنا بالعزاء المنتظَر ويمّمنا شطر جيفرني التي قيل إنها سبب عبقرية مونيه. أو هي أحد أسبابها في أقلّ تقدير.

كان ذلك مشتعلاً للغاية بمعاني باريس المطلقة، لا كمدينة ذات دلالات إكزوتيكية تنعكس على زوارها السيّاح أو الغرباء المتعددي الأهواء والمشارب والميول، بل كمكان للشعر والفن والجمال. ولن يغيّر في شيء أن تكون بيروتنا تتهيأ آنذاك لاستقبال القمة الفرنكوفونية التاسعة، فما كنا نشعر به يتخطى أحاسيس الهنيهات والمناسبات الى الأفكار والمبادىء المنسوجة في الجوهر. جوهر الإنسان وجوهر الأمكنة وجوهر الثقافة. وهذه كلها تتألق حيناً وتتفجر أحياناً وقد تنحسر مرةً، لكنها موصولة على الدوام بالخيارات الأدبية الحاسمة. وبفكرة الحرية.

ربما هي اللغة الفرنسية تجعلنا ممهورين بالانحياز الى الشعرية الفرنسية. ربما شعراؤها وروائيوها وفنانوها. وهم بالتأكيد آلهتها وأيقوناتها. ربما هي هذه التراثات الأدبية والفنية التي تحملها اللغة الفرنسية تحرّك فينا هذا العشق الدفين. ربما المدينة.

هكذا هي باريس ولن تتغير إلاّ الى الأكثر والأعمق. فمدينة السؤال والشك تزداد بنفسها وبالآخرين الذين تحتضنهم من دون أن تنوء بهم. وكلما اشتدت أزمنة الضيق في الكون، كان لها أكثر من كتاب وموقف ورأي، وخصوصاً في مجالات الثقافة وتعدد الرأي وشجون العولمة والنظام العالمي الجديد وحقوق الإنسان والهيمنة الأميركية على العالم واشتداد النفوذ الصهيوني في العاصمة الباريسية الذي بات موضع امتعاض وتذمر كبيرين. ولهذا السبب سيشتد فيها الآن السؤال الحائر حول دلالات الاصطفاف الدولي وغياب التعدد وحول الحروب في أفغانستان وفلسطين والعراق. وستكون باريس بدوائرها الثقافية أشدّ قلقاً من أي وقت مضى حيال معناها كمدينة كونية غير قابلة للانضمام الى القطيعية السياسية والثقافية الجاري تطبيعها وفرض عوامل استبابها في أنحاء العالم.

نحن كنا في طريقنا الى الهرب من كل شيء، ولم يكن ثمة شيء أدعى الى خفة الجسد من القفز في الوهج المنحدر الى أعمق والى أدنى. تلك كانت حقيقة الحطب المشتعل بصمته وصوّانه، كما كانت حقيقة الجمرات التي تضيء خيال الطفولة ولذة التلاشي في رحلة البحر تلك.

فنجانَي قهوة كثيفين، لا فنجاناً واحداً، شربتُ، وآنذاك فقط انفرجت أرواحنا نحن الثلاثة، وابتسمت لنا الحياة الصباحية رغم المطر الذي صار كثيفاً في الخارج ثم انحبس مدى الأيام الثمانية الأخرى. كانت عشر دقائق كافية لنلملم أجزءانا الهائمة في الفضاء وفي أعماق الرشد. لم نشأ أن نطيل المكوث كي لا نؤذي ما يلي من تفاصيل، فخرجنا من باريس الى الأخضر المجرَّح بعذاب الاكتمال وشبق الاختمار. هو الأخضر الذي يشبه تمام الأشياء عندما تصير الى حياتها المذهبة.


في عهدة كلود مونيه

قبل أن نصل الى دوفيل في النورماندي، وهي مدينة الكازينو المتشاوفة والمبرجزة مثلما هي مدينة البحر المفتوح على الريح، شاءت شهقة الألوان أن تجعلنا نمضي صبيحتنا في جيفرني، مبيت كلود مونيه، وحديقته، وهي الأشهر في فرنسا.

قبل ذلك، كنا نعرف أن قدر الطبيعة الفرنسية يملي عليها أن تكون خلاّقة. فهي صنيعة ثقافية مثلما هي صنيعة الهوس الجمالي المأخوذ بأسراره وكيمياءاته غير القابلة للوصف. وربما لأجل هذا السبب سيعجز أحدنا عن الوصف لأنه قليل، وسيعجز عن إقامة الجسر المفضي الى التشبيه لأنه سيكون جسراً الى هاوية المطلق. فهذه الطبيعة لا تملك سوى أن تكون شبيهةً بالفن الأصلي للفصول الأربعة، وأكاد أقول الفصول كلها، وخصوصاً تلك التي نحدسها ولا نعرفها. أي ما ليس له رقم وزمن، وما ليس له نهاية.

وأراني، وأنا أقترب من جيفرني الماثلة على بعد سبعين كيلومتراً من باريس، عبر طريق A 13/ اتجاه روان، في معية السيدة رلى الجابري العيطة والكاتب السعودي صاحب رواية "الحزام" بالفرنسية أحمد أبو دهمان ــ والأجدى أن أسمّيهما صديقين لأن الصداقة أغلى الأسماء ــ، أراني أقترب من شيء لا يريد الكلام أن يعبّر عنه لئلا يخفف معناه: شبق الجمال.

عندما أوقفنا السيارة في الموقف المسحوب الى لجة الأخضر والأزرق، والمسلوبة روحه من جرّاء الاستسلام الى المكان، كنا قد اجتزنا ما يشبه النهر أو البحيرة الساهيين عن الزمن الأرضي، في طريق من شأنها أن ترفع الحياة الى غيومها السابحة في غوايتها وأن تدفع الشرود الى مداه وأن تقود الى الفردوس لا الى مكان في ذاته، بل من شأنها أن تمهّد إناء الجسد الى تتبّع اللذة الروحية القصوى.

كان مونيه في بدايات الثمانينات من القرن التاسع عشر قد أقام نهائياً في جيفرني، بعدما شاء أن يسلّم تلك البلدة عينيه ويديه ومتاهات الجمال في روحه. وأعتقد أنه أراد لحريته في التشكيل أن تشغف بالتلاشي البصري وأن تصبح أسيرةَ التخييل المولود من المشهد الماثل أمامه والمتفلت من حدوده وقوانينه في ما بعد.

لا أريد أن أتفلسف أو أن أطيل الكلام حول التأويل الوجداني للمكان. فقد دخلنا الى المحراب، وكان جديراً بي أن أقول أحد منازل الله. والآن أقول: لِمَ لا!.

لم أدفع ثمن بطاقة الدخول لأن بطاقة "النهار" التي أحملها، هي سارية المفعول هناك أيضاً وينمّ التعاطي الفرنسي مع هذا النوع من البطاقات على احترام للآخر الآتي من الضفة الشرقية للمتوسط. وهذا ليس وقفاً على حال المسارح والمتاحف في العاصمة باريس فحسب، بل عرف ثقافي يشمل الأماكن الثقافية والفنية في فرنسا كلها، لأنه يعكس تصرفاً شمولياً حيال قيم الثقافة الفرنسية، إجتماعياً وخلقياً وأدبياً وفنياً. فقد كنتُ مثلاً كلما دخلتُ الى مكتبة لأشتري كتاباً، أحظى بحسم رمزي مقداره خمسة في المئة. أما كتب المتاحف فكان الحسم عليها أعلى بكثير.

في جيفرني لم "ينقل" مونيه المكان ومشهده وألوانه وتحوّلات المزاج في الفصول الى اللوحة. هو كان "يتخيّل" ما يراه وما ينام في ضمير عينيه، وخصوصاً تلك الحديقة التي صارت "ذريعة" لوحاته الوحيدة. لم يرسم المشهد بل اخترعه. هذا في الأقل ما يقوله نقّاده ومؤرّخو فنّه، وما يحلو لعين المشاهد أن تلحظه لدى المقارنات التي تقيمها بين الواقع المرئي و"واقع" اللوحات.

بعد وفاة مونيه، انزلقت الحديقة والمنزل، رويداً رويداً، الى عالم الإهمال والنسيان. لكن فرنسا الثقافية لا تهمل شيئاً، فها هو المكان يعاد ترميمه ويُفتح أمام الزوار فيستعاد البيت بعدما نام في نسياناته وتذكاراته. وهو، مع حديقته، اليوم، محجة "تشكيلية" وسياحية لا تزال تنبض بالألق الذي حرّك سرّ الجمال في ريشة مونيه.

والآن، أراني أعرف بالعين وبالصمت بل وبإغماض الحواس الخمس كلها لماذا تفجرت عبقرية الرسّام هناك. بل أراني أقول إن الشخص المهيّأ في روحه وجسده وفي نسيج مزاجه القدري ليكون وسيطاً يتلقى أسرار العبقرية، لا بدّ أن ينتقل الى ما ليس متاحاً التعبير عنه سوى للخلاّقين. كلود مونيه هو واحد من هؤلاء الوسطاء. وسأعرف أن كلود مونيه حقق في سنواته النورمانية تلك نضجه الفني الأعلى وترك لوحات أفضت، في سنواته الأخيرة، الى أعمال شبه تجريدية.

سأقول إن المرء، إذا تمرّنت نفسه على الجمال، يصير لا يشبع. وهو، في كل الأحوال، ليس جديراً به أن يشبع حيال هذا النوع من الجمال، بل حيال كل جمال أرضي وبشري، فكيف إذا توهّج الجمال وانصرف انصرافاً جنونياً الى انتهاب لذته. فشأن المرء آنذاك أن يهجم على الجمال وأن يموت به وفيه. وهذا هو قدر أهل النهم. وكلود مونيه هو واحد من هؤلاء. بل هو واحد من صانعي هذا النهم.

وأنا، في زيارتي تلك، رأيتُني أنضمّ الى قافلة أهل النهم لأشهد لهم. ولم أكن، في الحقيقة، محتاجاً الى برهان كهذا، لأن نفسي جعلتني في هذا المقام منذ قبل الولادة.


في النورماندي

كانت الطريق الى دوفيل لذيذة ومخدِّرة. هو الخدر الناجم، ربما، عن الشوق الى البحر. لا شوقي أنا وشوق صديقيّ، بل أعني شوق تلك الغابات الخضراء اللامتناهية الى ما يجعلها تهرب من سياجاتها وتطير في الأفق الملعون بفتنة غموضه. كنتُ لا أزال أعتقد أن هذا النوع من العلاقة بين أخضر الغابات وأزرق البحر موصول بتوق الأشجار، لدى ارتقائها الى أعلى وريقاتها، الى الصعود، أعلى فأعلى، حتى تحترق بشبق الغيوم وأزرق السماء. فلربما كانت تلك الغابات تقول إن الوصول الى أزرق البحر أقرب في ظنونها من أزرق الفراديس السماوية. وقد تكون "نار" دوفيل، هي التي جعلت الغابات تنحدر رويداً وسريعاً الى حيث تغرق في لجة الأطلسي من تلك الناحية.

لم نصل الى دوفيل إلاّ في تمام الأولى بعيد الظهر. جعلنا السيارة مركونةً في موقف عام قبالة الكازينو تقريباً، والأحرى، على الحدّ الفاصل بين اللعب بالجمال البحري والمقامرة بالحظ والصدفة. كانت وجهتنا هي البحر بالتأكيد نحن الثلاثة. ولا أعرف لماذا لم أكن مهتماً البتة بشأن الكازينو رغم أني مولع بالاستسلام للحظوظ والصدف، ومنها الصدفة الشعرية، ورغم أن أصدقائي، جميع أصدقائي تقريباً، وخصوصاً شعراءهم، مولعون بممارسة جنون التلاعب بفتنة الإهراق والتبذير حتى الشهقة الأخيرة.

كان البحر من أمامنا ولم يكن ثمة عدوّ وراءنا البتة سوى الشعور بأننا لن نستطيع النوم هناك. الطيور البيضاء البيضاء كانت رفيقةً بنا. هي اكتفت بالتلويح، وحين اقتربت لم تشأ أن تؤذي الاستعراض الجمالي الذي تكرّسه للفضاء. لم يكن الرمل قليلاً، وما زلت أعتقد أن الفسحة الرملية الممتدة من الماء الى المقهى ــ المطعم حيث جلسنا، تشبه الى حدّ ما المدرج المفتوح أمام المرء ليسافر كي لا يعود أدراجه. كي لا يعود البتة.

المطر الصباحي الخفيف الذي تركناه في باريس ووعدنا بألاّ يضايقنا ونحن في الطريق الى البحر، سلّم أمره لشمس الخريف النزقة. لهذا السبب كان ثمة أناس يسبحون وأطفال يتلاعبون بالهواء ويراودونه عن نفسه بطائراتهم الورقية. كان ثمة أيضاً وخصوصاً عشّاق ملتهبون بأجسامهم وبصعود أمزجة النار الى فضاءاتهم، حتى لكأن العالم كان مختصَراً بضمة أو بقبلة. وما كان أحلاها تلك اللحظات في دوفيل، أو في تروفيل أو في أونفلور. وستكون هذه المدينة الأخيرة هي الأشد قرباً من روحي. الى درجة تمنيتُ أن أولد هناك الآن، فيكون لي مسقطان، واحد في بزيزا وآخر في أونفلور. أما الأول سيظل الى الأبد يحتل المقام المطلق.

منذ أن وطئت قدماي أرض المطار الباريسي كنتُ أعرف أن نصفي هو الذي جاء الى باريس وبقي نصفي الحقيقي الآخر في مكان ما على الضفة الشرقية للمتوسط. لهذا السبب كنتُ موصولاً به لئلا أختنق، بقدر ما كنتُ موصولاً به كي يكون معي في لذة الوصال الجمالي هذه. وكي يكتمل أحدنا بالآخر، وفيه، ضمن هذه الفذلكة الكونية التي تُدعى الجمال.

كان طعام الغداء لذيذاً وفاخراً: البحر والسماء والرمل والهواء. ثم النبيذ، ودائماً النبيذ، مدى الايام الثمانية أفخره وأعتقه، وفاكهة البحر وأسماكه. وهلمّ.

في الطريق الى أونفلور، عبر تروفيل وليزيو، وهذه الأخيرة مسقط رأس القديسة تريز التي لا تزال ذخائرها تقيم منذ أمد في لبنان، كان الجمال يشتدّ أواره. حتى تلك اللحظة كنت أعتقد أن أونفلور ستكون نسخة عن الجمال الذي رأيته في الهافر وفي دينان ودينار وكانكال وسان مالو، أو في إيتروتا التي أخذني إليها في العام الفائت الشاعر عيسى مخلوف. ومع علمي بأن لكل مكان جماله، فقد تيّمني جمال أونفلور. جعلني كائناً طفلياً هائل الصمت والشرود والوداعة. وأعتقد أن الجمال يفعل بي دائماً هذا الفعل. ففي أونفلور أكتشفتُ معنى أن لا يكتفي الجمال بقيمته الأرضية والحسية، إذ ثمة فيه ما يجعله على منتصف اللقاء بين التخييلي والواقعي.

هي كانت مدينة على بحر، وساحتها شبه المستطيلة كأنها مصنوعة من أجل الماء. وهي تشبه القلب. فإذا كانت الكنائس تودَع في قلب الساحات فإن كنيسة هذه المدينة كانت المياه التي جعلت نفسها بمثابة ميناء لتلك المقاهي الناعسة والمستلقية على هذه الجهة وتلك في دوار يشبه لذة الموت على صدر امرأة.

وكان عليَّ أن أذهب الى كابور لكي "أرى" مارسيل بروست. لكني لم أستطع.

مشينا طويلاً وعميقاً، وجلسنا طويلاً وعميقاً، وتبادلنا أحاديث مع أناس كانوا على مقربة منا. من الشعر الى الشجن الثقافي الى لبنان الى الهاجس الكوني المتمثل في الحروب وآثار الحادي عشر من أيلول والهيمنة الأميركية على العالم، وخصوصاً ما تمثله هذه الهيمنة من تهديد للقيم الأوروبية والفرنسية تحديداً. وكان الحديث كأنه يختصر موقفاً فرنسياً جمعياً يريد التعبير عن استهجانه لغسل الدماغ الذي تمارسه أميركا على العالم.

ثم شربنا القهوة والتقطنا صوراً. ثم أخذنا الخيال الشارد. ثم مشينا مجدداً واكتشفنا معرضاً لافتاً لرسام مصري يدعى، على ما أعتقد، عمر النجدة. وعندما عدنا أدراجنا كان الوقت قد آل الى نحو السابعة مساء. ولم نشأ أن نغادر قبل أن نكتشف مكاناً يدعى la ferme de saint simon قيل إنه من أكثر الفنادق المعتقة رومنطيقية وانشلاحاً في فرنسا. رأيناه ساهياً على تلة، وليس أمامه سوى الأفق، على غرار ضريح شاتوبريان في سان مالو، النائم سعيداً في أحضان صديقيه الريح والبحر.


ماتيس/بيكاسو

قبل نهار من ذلك، أي يوم السبت 5 تشرين الأول، كنتُ بناء على "تعليمات" صديقي الرسام أمين الباشا من بيروت، قد قصدتُ "القصر الكبير" في باريس لأرى شيئاً بدا لي للوهلة الأولى متناقضاً وغريباً: معرض مشترك لهنري ماتيس وبابلو بيكاسو. فيا لوهج الغرابة.

دخلتُ لأجد معرضاً يجمع بين رسامين هما المعلّمان اللذان غيّرا مصائر فن الرسم في القرن العشرين.

سأرى في هذا المعرض المثير كيف أن الحوار البصري التشكيلي ينعقد جوهرياً، وبالسرّ، بين هذين الفنانين، لينجلي على حقيقة تشكل أحد ينابيع الفن في القرن الفائت.

وسيكون الفضل الأول في هذه الفكرة لشاعر فرنسي عظيم يُدعى غيوم أبولينير، إذ كتب في مقدمة الكاتالوغ الذي نُشر في عام ،1918 بياناً صحافياً مقتضباً يعلن افتتاح المعرض الأول لهذين الفنانين في غاليري بول غيوم. ولا بدّ أن تكون إدارة المتاحف الفرنسية قد أرادت اليوم، وعلى مدى أوسع وأشمل، أن تعيد "جمع" هذين الرسامين الأكثر شهرة واللذين يمثلان الإتجاهين الكبيرين المتعارضين في الفن المعاصر. وسيعرف متابعو الفن أن اللوحات والمنحوتات جُمعت من متاحف فرنسية وإنكليزية وأميركية عدة، وهي تالياً حصيلة جهد كبير وباع طويل في المتابعة والمقارنة.

لا يكتفي المعرض بجانب واحد من الخبرة التشكيلية بل يلملم العناصر لملمةً متكاملةً: من الأوتوبورتريه الى الوجوه، ومن الطبيعة الصامتة الى المرأة، ومن الموسيقيين الى الأشكال المكسورة والمكعبة وشبه المجردة، يريد المعرض سبر أغوار الحوار الخلاّق الذي نما بين هذين الفنانين ، والذي سحر مجايليهما وكان، مدى الوقت، مثار تحليل ونقد وسجالات متواصلة. وهو يقدّم في جملة ما يقدّم، لا "التعارض" في جوهر العملية التشكيلية لدى كل من هذين الرسامين النحاتين، بل النسيج الخفي الذي يجمع فن هذا الى فن ذاك، كما لو أنهما شقيقان لدودان.

ولعل أكثر ما يلقي الضوء على خصوصية هذا المعرض الثنائي ما قاله بيكاسو في شيخوخته حول هذا الموضوع: "لم يعرف أحد أن يشاهد جيداً رسم ماتيس مثلما فعلتُ، ولا أن يشاهد رسمي مثلما فعل هو". وفي الكاتالوغ الضخم الذي وضعه المتحف للمناسبة نكتشف عبر اللوحات والمنحوتات ما هي عناصر التنافر والتلاقي لديهما معاً، في البناء والخطوط والألوان بل في الرؤية التشكيلية برمتها. فباريس في هذا المعنى ليست فسحة للعرض إنما هي خصوصاً سبرٌ لأغوار الحقائق عبر جمع متناقضاتها ومتباعداتها لتأليف المعنى الجامع فيها.

كان عليَّ أن أذهب الى المكتبات لأجد رفوفها وطاولاتها عامرةً خصوصاً بالروايات، وكنتُ أبحث عن الشعر لكني لم أجد إلاّ قليله في الهاجس الباريسي. وكان عليَّ أن أجلس في المقاهي لأنها شاهدة للزمن وعليه. وكان عليَّ أن ينزل قلبي من شجو أغصانه الى الشوارع والأرصفة وأن يرتاح على الجسور وقد فعل. أو كان عليَّ أن أطيّره ليهيم مدى نهر السين وقد فعلتُ. وكان عليَّ أن أزور حديقة لوكسمبور وقد زرتُها. وكان عليَّ أن أمشي وقد مشيتُ. وكان عليَّ أن أنسى وأن أتذكر. وقد نسيتُ وتذكرتُ.

وكان عليَّ قبل كل شيء وبعد كل شيء، أن أكون عاشقاً، وقد كنتُ كذلك، مثلما أنا دوماً، وحيدين أمشي الى النبع الأخير.


ساره برنار/فاني آردان

في المسرح التاريخي الجليل والمضمَّخ بعبق الزمن خلف الأوبرا، حاولتُ أن أصيخ حواسي الى فاني آردان وهي تؤدي دور ساره برنار، وفي معيتها الممثل الفرنسي الشهير روبير هيرش. ما كنتُ أعرف أن هذه الممثلة السينمائية الرائعة يمكنها أن تكون ممثلة خشبة أو أن تحبّبني بالمسرح الى هذا الحد. معها اكتشفت بعداً درامياً وجمالياً كان غير مرئي لي في أدوارها السينمائية، ورأيتُها حيةً متلويةً حارةً قاتلةً ومضرّجة. ورأيتُ لا فاني آردان فحسب بل ساره برنار نفسها. في أحوالها، في أمزجتها، في ذكريات جنوحها، في غيوم نزقها، في ليل جسدها ولذتها، في غوايتها وخصوصاً في وجعها الأليم الهائل الذي أودى بجمال جسدها. وإذا كانت ساره برنار فنانة عظيمة القدر فستكون فاني آردان هي الأخرى غنيةً وعميقةً وجليلة القدر على الخشبة، مثلما هي على الشاشة. وربما أكثر.

كنتُ منذ زمن بعيد، كلما مررتُ بمنطقة الشاتليه، أرى ذلك المقهى الذي يحمل إسمها، وأحياناً أجلس فيه وبي رغبة جامحة في أن أتعرف الى تلك المرأة التي "خرّبت" عقل الخشبة وعقول الذين عرفتهم، الى أن تيسّر لي ذلك في الأمس. وقد كان ما رأيتُه يستحق التقريظ وهذا ما فعلته غالبية الصحف والمجلات الفرنسية. كانت فاني آردان قد أشعلت نيرانها في القاعة منذ اللحظات الأولى، عندما رأيناها مستلقية على ذاك الكرسي، ممدودة الرِجل، وفي يدها تلك المروحة، وعلى مقربة منها تلك العصا، وخلفها ما يشبه البحر والشمس. ما كانت تحتاج الى الكثير لتحرر وقت العرض من زمنيته ولتنقلنا الى زمن ساره برنار نفسه في خريف حياتها، متقمصةً الشمس التي ستظل تحترق الى الأبد. فهذا من شيم الممثلة القديرة بلا شك. وهذا ما فعلته طوال العرض الذي استمر نحواً من ساعتين إلاّ قليلها. رأيناها في جولتها في أميركا وفي علاقاتها مع جورج برنارد شو وأوسكار وايلد، ورأيناها في غرامياتها، ورأينا شقيقتها المدمنة وأمها الجائرة والحادث الذي أفضى الى قطع رجلها.

وإذا كان لي أن أضيف شيئاً يعطي بعض الحق لهذا الممثل الذي يُدعى روبير هيرش، فخلاصة القول إنه فنان حتى آخر لحظة من جسده وكيانه، حين راح يضارع فاني آردان وينافسها، وربما يتقدم عليها (أعوذ بالله!)، في البراعة الدرامية، من خلال الدور الذي اضطلع به، سكرتيراً تملي عليه آردان ذكريات مستعادةً لممثلة ترفض أن تسدل الستار وتتقاعد، فضلاً عن أدواره، أماً وأختاً وزوجاً وإبناً وعشيقاً وهلمّ. ولأجل مثل هذا العرض يستعيد المرء ثقته بالخشبة وقدرتها على ممارسة حضورها في هذا العصر الذي يزعم قيماً فنية وجمالية ربما لن يكون فيها للشعر ولا لمثل هذا المسرح مكانة حقيقية.

كان أصدقائي جميعهم قد نصحوني بحضور هذه المسرحية، وخصوصاً منهم فؤاد نعيم الذي بات الآن المدير العام لـ"إذاعة الشرق" في باريس، بعدما عرفته مخرجاً ورساماً ومثقفاً وصحافياً، بل شاعراً في الحياة قبل كل شيء.


السينما الأخرى

في باريس أيضاً كان عليَّ أن أذهب الى السينما لمشاهدة فيلم "يد إلهية" لإيليا سليمان الذي لا يزال يلقى ترحيباً كبيراً في الأوساط الفنية والثقافية الفرنسية، كأن ثمة شعوراً تريد فرنسا من خلاله أن تعوّض عن عدم قدرتها على إحداث توازن في السياسة الدولية يساهم في وضع حدّ للعنجهيتين الإسرائيلية والأميركية حيال القضية الفلسطينية. وإذا كان الفيلم ينبىء بذكاء المخرج وبراعته وحيويته، ويقدّم مشاهد ولقطات نادرة في إصابتها المعنى العميق للمسألة الفلسطينية وفي كشفها منطق الطغيان الصهيوني، فهو يعد عبر لقطاته البوست مودرن بتفوق هذا المخرج وبمفاجآته المحتملة، لكنه سيظل ربما محتاجاً الى ما يؤكد كونه فيلماً مشدوداً بعضه الى بعضه كعمل سينمائي.

وفي باريس، فيلم عباس كياروستامي الجميل جداً: "تن" (عشرة). ويدور داخل سيارة تقودها امرأة جميلة مطلّقة، ويروي علاقتها الملتبسة والمتوترة بابنها بعد زواجها من رجل ثان، مثلما يروي مشاهد من حياة المرأة الإيرانية في علاقتها مع ذاتها ومع المجتمع. وخلال هذه المشاهد العشرة يقدّم كياروستامي بذكائه السينمائي وبإضماراته وإلماحاته غير الفجة وبثقافته المجتمعية عملاً سينمائياً قوياً، خفراً، رومنطيقياً، شجاعاً، جريئاً، دلالياً، وقادراً على اختراق "التابو" وعلى فعل فعله في المجتمع الإيراني.

لا يبغي كياروستامي أن يقدّم مواجهة عنيفة مع نظام القيم الدينية والمجتمعية والطقوسية بقدر ما يلج الطبقات التحتية والمعتمة من هذا النظام بهدوء وصبر، محاولاً جعل السؤال في دائرته الحميمية ليضفي عليه مشروعية فردية وخصوصية أكثر إنسانية. سنشاهد الموضوعات كلها وهي مدرجة على مائدة الحوارات في داخل تلك السيارة، من الدين الى الزواج والأولاد والطلاق الى الحب وأحلامه وانكساراته فالى الدعارة وهلمّ. ولن يتورع كياروستامي عن تحميل أبطاله الهواجس والأسئلة، لكنه يفعل ذلك بعزم من يحفر جبلاً.

كان عليَّ أن أذهب أيضاً الى متحف أورسي لأحضر معرضاً مشتركاً لمانيه وفيلاسكيز، والأحرى هو معرض يكشف البعد الإسباني في لوحة الرسام الفرنسي. لم أكن أعرف الكثير عن الجانب الإسباني في لوحة إدوار مانيه حتى ذهبتُ الى ذلك المعرض الذي منحني برهاناً عالياً على تلاقي الأنهار الفنية والثقافية، وعلى تداخلها. ليس المعرض وقفاً على مانيه وفيلاسكيز، بل هو يلقي الضوء على "الطريقة الإسبانية" في الفن الفرنسي. وكم سأدهش عندما أرى لوحات مانيه الواقعية والكلاسيكية والدينية والزخرفية والفولكلورية، فضلاً عن تلك الانطباعية، ولاسيما تصويره النساء والقديسين والموسيقيين والفرسان والوجوه وحلبات المصارعة، ما سيجعلني أقرب الى فهم تلك المناخات التي صنعت نهضة القرن التاسع عشر في أوروبا وفي فرنسا خصوصاً.


في القهوة والشعر

كانت القهوة دليلي ومرشدي الى الصفاء. كنتُ كثيراً ما أشربها وحيداً في المقهى، وحيناً مع الأدباء والفنانين ولاسيما منهم الشاعر والباحث عيسى مخلوف الذي يعرف باريس الأدبية والفنية مثل أهل البيت وهو الذي سيكون له يد طولى في منح أسبوعي الباريسي هذا كل أسباب نجاحه ونبيذه، ومنهم الرسام يوسف عبدلكي الذي يلتقي صفاء روحه مع غموض الأمكنة وإيقاعاتها، ومنهم الكاتب أحمد أبو دهمان الذي طوقني بـ"حزام" محبته وصرف الكثير من وقت صداقته معي، ومنهم المخرج المسرحي نبيل الأظن الحاضر بكثافة هناك. لن أعدد الذين التقيتهم من الأدباء والفنانين العرب والفرنسيين، فهم كثر. لكن موضوع حرية الصحافة في المشرق العربي كان ماثلاً بقوة، ومثله "تأميم" الرأي المستحدث في الغرب. كانت ترجمة الشعر حاضرة في كل اللقاءات التي عقدتُها مع شعراء من هناك، ومعه مسألة الخيانة والأمانة للنص. ومعه أيضاً عدم وجود حركة ترجمة حقيقية تلقي الضوء الموضوعي والمنصف على التيارات والأسماء الفاعلة في الشعر العربي الحديث. وقد حدّثني الشاعر جاك لاكاريير عن أهمية ترجمة الشعر "الآخر"، مشدِّداً على الأثر الذي يحدثه تلاقي التجارب الشعرية المختلفة في فتح الآفاق أمام الأدب اليوم. وكذلك فعلت ايتيل عدنان. وكنتُ في مناسبات أخرى قد التقيتُ الشاعر والمترجم ومعدّ الأنطولوجيات عبد القادر الجنابي وتحادثنا في شجون قصيدة النثر وفي الترجمة وفي حال الشعر اليوم وفي الصداقات. وكم أكبرتُ الشاعر جان ــ لوك باران الذي حاورني في شأن عمله حول أرتور رامبو واللوحات المنسوبة خطأ اليه وعرض عليَّ عملاً تخييلياً مشتركاً يندرج في سياقه التحقيق الذي كتبتُهُ في "الملحق" حول هذا الموضوع.

كنتُ أولاً وأخيراً أشرب القهوة في البيت. منذ الصباح الباكر كان صديقي الرسّام والباحث الإيقونوغرافي محمود الزيباوي الذي استقبلني لأقيم في ضيافته طوال أسبوعي الفرنسي هذا، يعدّ تلك القهوة ويحضّر معها أرغفة الصعتر. ولم يكن ثمة شيء أجمل من الاستماع الى صوت فيروز، مختاراً بذوق هذا الذي يعرف ما لا يعرفه بعض أكثر عشّاق هذا الصوت. كما لا شيء أجمل من كؤوس كنا نحتسيها لدى عودتنا بعد منتصف الليل.

كان خلال النهارات تلك لا يزال منصرفاً الى إنجاز كتابين عن الفن المسيحي القديم سيصدران قريباً وينضمان الى قافلة كتبه البالغة الأهمية في هذا المضمار. وكنتُ أنا منصرفاً الى غرقي في المدينة ومكتباتها ومقاهيها ومتاحفها وشرود أرصفتها وجسورها لأشرب بعض روحها بالنهم الذي لا يحلو لي أن أعيش خارج طقوسه.

عندما ذهبنا الى تلك السهرة الراقصة، كنا كثيرين ومعنا زهور وخمرة وحوارات. كانت تلك هي ليلتنا الأخيرة. وكنتُ في صحبة ابن شقيقتي. تذكرتُ رينه شار: لا تنحنِ إلاّ للحب.

لم أكن في حاجة الى التذكر لأن هذا الإنحناء فعلتُهُ من أجل باريس المدينة وأفعله من أجل لغة بودلير ورامبو ــ وهي الآن ضيفتنا عبر القمة الفرنكوفونية في بيروت والتي عساها تساهم في حماية فكرة الحرية والديموقراطية والتنوع كي لا يذهب لبنان ضحية الاستبدادات والمصالح العالمية والإقليميةــ وقبل هذا وبعده أفعله للمرأة التي أحب.
أعلى