مهدي عيسى الصقر - عرين القطة.. قصة قصيرة

ركض الصغير، أمامه، حال عبورهما بوابة حديقة الحيوان. منذ مدة وهو ينتظر هذه الزيارة، صاح وراءه أن يتمهل، التفت الصغير ينظر اليه.
“بابا، معلمنا يقول ان الأسد هو ملك الغابة. صحيح؟”
ابتسم، وحدق في العينين المتلهفتين.
“أكثر الناس يعتقدون أنه الملك.”
نظر الولد أمامه، يستعجل لحظة وقوفه، أمام الأسد، وجها لوجه. غير أنه مشى به، نحو أقفاص الطيور، بالقرب من مدخل الحديقة. كانت السماء، فوق رأسيهما صافية، لا أثر فيها لندفة غيم واحدة، في أية رفعة يمتد إليها البصر، والشمس تسطع على كل شيء، وتجعل هواء الشتاء معتدلا، وأشجار كبيرة تلقي بظلالها المائلة، على الأقفاص، وعلى الدروب المرصوفة، والمساحات المعشبة، بين بيوت الحيوانات، والهواء يعج بالثرثرة المرحة، والضحكات، و وقع خطى الرواد، على أرضية الممرات، وخفق أجنحة الطيور الحبيسة، وراء الجدران السلكية، وضجيج أغان و موسيقي ينبعث، من مكبرات صوت، منصوبة، في عدد من المقاهي المتناثرة، في أرجاء الحديقة الواسعة. شعر بالبهجة، ومشى بابنه، متمهلا، يتأمل المخلوقات الصغيرة، داخل الأقفاص، بعضها يدب، على الأرض باستسلام، وبعضها يضرب بأجنحته مضطربا، منتقلا من جدار إلى جدار، بحثا عن منفذ للخروج، والصغير يمشي بجواره صامتا.
“انظر إلى هذا الطاووس، كيف يفرد ريشه الملون!”
نظر الصغير إلى الطاووس، ثم رفع رأسه إليه.
“والأسد!؟ متى نرى الأسد!؟”
“سوف نراه، عندما نصل إلى بيته، بالقرب من نهاية الحديقة”
معلمنا يقول إنه يرج الغابة كلها، حين يزأر، فتفر الحيوانات مذعورة. أما الطيور، يقول المعلم، فانها تهيم، في السماء، لا تعرف إلى أين تذهب!”
“نعم يا ولدي، فهو حيوان شديد البأس.”
وتابعا سيرهما.
شاهد طيور الجنة، و(الغزنت) الصيني، والغرنوق المصري، والنسر الأفريقي. شاهدا البوم، بنظراته الثابتة، وأجفانه التي لا تكاد تطرف، والصقر يجثم على غصن يابس، في شجرة ميتة، مقطوعة الراس. بعد ذلك شاهدا الأرانب تدخل في جحور، تحت الأرض، والكلاب بأنواعها المختلفة، الثعالب، والذئاب، والدببة البيض تميل برؤوسها من جانب إلى آخر، في حركات رتيبة لا تنتهي. وإمام بيت النعامة توقفا دقائق. إراد أن يثير اهتمام ابنه، بهذا الطائر الكبير، ذي الرقبة المطاطية المسلوخة، والريش الأسود، الذي يشبه الصوف، فاشترى قليلا من الذرة، من صبي وقف بجوار القفص، ومد يده به، فوق حافة سياج مأوى الطائر. فجاءت النعامة. رفعت رقبتها، حتى أصبح رأسها، فوق راحة اليد الممدودة، وأخذت تلتقط الحبات الصغيرة، بمنقارها العريض.
لم يلمح على وجه ابنه أي اهتمام، بهذا المخلوق العملاق. حين أنزل يده الفارغة، من حبات الذرة، مشى ابنه مبتعدا. وقفا أمام بركة البط، ورمى عدد من الصبية، كانوا يقفون، على ضفة البركة، قطعا من الخبز، فوق سطح الماء، فصعدت، من أعماق البركة، سمكات صغيرات تلامعت بطونها الفضية، في ضوء الشمس، في حين هرع البط، مقبلا من كل جانب، ضاربا وجه الماء، بأجنحته أرجله، محدثا جلبه، ومخلفا وراءه خطوطا بيضا، على سطح البركة. فتفرق سرب الأسماك على الفور، متلاشيا في اخضرار الماء. سره أن يرى ابنه يضحك أخيرا، وهو يرقب البط يتسابق، لالتقاط فتات الخبز المبلل. إلا أن الصغير بدا يتململ، بعد وقت قصير، ورفع رأسه ينظر إليه، في رجاء صامت.
“أعرف أعرف. أنت تريد أن تري الأسد. وصلنا إليه تقريبا.”
في طريقهما، إلى بيت الأسد، مرا بالماعز الجبلي، يتسلق جبلا ترابيا صنعته الجرافات، وبالخنازير البرية، بوجوهها القبيحة، وبالفيل، والزرافة، وحمار الوحش، وبوحيد القرن، بجلده السميك الأغبر. إلا أنهما لم يتوقفا أمام أي واحد من هذه المخلوقات، هذه المرة.
“والآن هذا هو ملك الغابة!


مهدي عيسى الصقر


* من مجموعة قصص ( شتاء بلا مطر)


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إشارة :
مهدي عيسى الصقر واحد من بين أهم روّاد التجديد في القصة والرواية العراقية. ومنذ مجموعته “مجرمون طيّبون” (1954) التي قدّم لها الراحل الكبير السيّاب، أغنى المكتبة السردية العراقية بقصص وروايات شكلت نقلة في المسار السردي في العراق. ولم يُستذكر الصقر إلّا بعد أن أُصيب بجلطة دماغية قضت عليه بعد مدة قصيرة فأرسلوا إليه باقة زهور. تدعو أسرة موقع الناقد العراقي الأحبّة الكتّاب والقرّاء إلى إغناء ملفها عنه بالدراسات والصور والوثائق وسيكون الملف مفتوحا من الناحية الزمنية لأن لا زمن يحدّ الإبداع العظيم.


أعلى