محمد مدحت مصطفى - رواد علم الاقتصاد.. روبرت مالتس وأفكاره

في عام 1882م نشر وليم ديلون كتاب بعنوان سرعان ما انتشر في أدبيات علم الاقتصاد، وهو "العلم الكئيب" . قاصدا به النتاج العلمي للكلاسيك، والنظرة التشاؤمية الشائعة فيه. وإذا كان ذلك التوصيف صحيحا إلى حد ما، فإنه يرجع بصفة أساسية لأفكار روبرت مالتس حول السكان. ورغم اختلاف مالتس مع رفاقه الكلاسيك في العديد من القضايا، إلا أنهم اتفقوا جميعا مع التوجه التشاؤمي لروبرت مالتس تجاه الاقتصاد والمجتمع. وللتعرف على تلك الأفكار يلزم التعرف على المناخ الاقتصادي والاجتماعي الذي أفرزها، وكذلك الأفكار الأخرى السابقة عليه، ثم آثار هذه الأفكار على من تناولوا ذلك الموضوع من بعده. ارتبطت النشأة التاريخية لعلم الاقتصاد بمظاهر أزمة التحول من النظام الإقطاعي إلى النظام الرأسمالي. كما ارتبطت فترة التحول في الاقتصاد البريطاني من مرحلة الرأسمالية التجارية إلى مرحلة الرأسمالية الصناعية، حيث أصبح العائد من الصناعة يفوق العائد من الأنشطة الزراعية والتجارية بحجم كبير المآسي الاجتماعية التي ترافقت مع هذا التحول، من انخفاض مستويات الأجور، وطول ساعات العمل، والبيئة غير الصحية للعمل والإقامة، وتشغيل العمال والنساء لانخفاض أجورهم. مع ترافق مشكلة البطالة، وارتفاع أسعار الحاصلات الزراعية. ومما يُذكر أنه خلال القرن السادس عشر والنصف الأول من القرن السابع عشر حدث تدهور كبير لأحوال العمال في أوربا، فقد انخفض الأجر الحقيقي لعامل البناء الإنجليزي، فأصبح أجره عام 1630م يُعادل خُمس أجره عام 1510م. كما أن متوسط أجره اليومي خلال الفترة (1593 - 1632م) أصبح يُعادل 40% من متوسط أجره اليومي خلال الفترة (1451 - 1475م). وهناك دراسات تؤكد نفس الظاهرة في فرنسا، مما ساعد على انتشار بعض الأفكار الاجتماعية التي تُرجع السبب في ذلك إلى سلوك الطبقات الحاكمة نحو استغلال وقهر العمال. إلا أن هناك أصوات أخرى أرجعت السبب في ذلك إلى ارتفاع أعداد السكان، حيث ازداد عدد سكان (إنجلترا وويلز) من 3 مليون نسمة عام 1500م إلى 5.8 مليون نسمة عام 1700م، أي ما يقرب من الضعف خلال قرنين من الزمان. وتشير البحوث إلى أنه في الوقت الذي ارتفعت فيه نسبة المواليد، انخفضت أيضا نسبة الوفيات. وبدراسة متوسط أجور العمال في إنجلترا نجد أنها ظلت على حالها تقريبا طوال تسعون عاما خلال الفترة(1420 - 1510م). لذا فإن السبب الرئيسي لانخفاض الأجور الحقيقية للعمال في أوربا بشكل عام يعود لتغير اتجاه الاستثمار من الزراعة إلى الصناعة .

ومن الأحداث الهامة التي تركت آثارها على تطور الاقتصاد البريطاني كانت الحركة المعروفة (بحركة الأسيجة) والتي استغرقت نحو قرنين من الزمان السابع عشر والثامن عشر. وهي الحركة التي شهدت عملية تجميع الملكيات والحيازات الزراعية الصغيرة في شكل حيازات رأسمالية كبيرة. وقد تمت هذه العملية بعنف شديد، وأرغم المزارعون على ترك أراضيهم وأحرقت منازلهم، ثم صدرت القوانين الخاصة بتسييج هذه الأراضي. وقد ترتب على تلك الحركة:(أ) أن تحولت مساحات كبيرة من الأراضي إلى مراع لتربية الأغنام بغرض إنتاج الصوف، باستخدام عدد قليل من الرعاة بدلا من إنتاج القمح والمواد الغذائية التي تعتمد على عدد كبير من العمال الزراعيين.(ب) ظهور عدد كبير من العمال الزراعيين بلا عمل، تبلور بالعمل الرخيص في المصانع الناشئة، ورغم ذلك ظلت هناك أعداد هائلة بدون عمل فتزايد عدد المتسولين والمشردين مما أدى لصدور قوانين(إغاثة الفقراء).(ج) ارتفاع أسعار القمح بشكل كبير مما أدى لحصول ملاك الأراضي على أرباح مضاعفة سواء هؤلاء الذين استمروا في زراعة أعلاف المراعي، أو من قام منهم بزراعة القمح.(ء) عاد الإقبال على الزراعة من جديد فارتفع الطلب على الأراضي مما أدى لارتفاع إيجارات الأراضي الزراعية.(هـ) وكانت أهم تلك النتائج إلغاء ما عُرف باسم(قوانين الغلال) التي كانت تحرم استيراد القمح كمن خارج بريطانيا حيث شهد البرلمان البريطاني أعنف المعارك بين مصالح الإقطاعيين القدامى وبين الرأسماليين الجدد الذين طالبوا بالسماح باستيراد القمح من الخارج وعدم فرض رسوم جمركية عليه. وقد حُسِمَت هذه القضية في النهاية لصالح البورجوزية البريطانية الجديدة وسقط القانون الذي كان يحرم استيراد القمح.

الأفكار السابقة:
سبق مالتس بعض المفكرين الذين تناولوا ذلك الموضوع إلا أنهم لم ينالوا حظا من الشهرة مثل تلك التي نالها مالتس. فهناك ريتشارد كانتيلون Richard Cantillon (1680- -1734م) الذي نشر كتاب تحت عنوان " بحث في طبيعة التجارة "، جاء فيه " إن قدرة البلاد على احتمال عدد معين من السكان يتوقف على مدى حاجات السكان ومدى إنتاجية الأراضي ". وأن تلك القدرة تتزايد عندما تكون المواد الغذائية المُنتجة من الأراضي الزراعية متاحة للعمال الزراعيين وباقي السكان. أما إذا كان الجزء الأكبر من ناتج الأرض يؤول إلى طبقة الملاك الزراعيين فإن ذلك يؤدي إلى الحد من مقدرة البلاد على إعالة السكان، لأن الملاك الزراعيين ينفقون نسبة عالية من دخولهم على استيراد المنتجات الأجنبية. أما عن التوازن بين السكان والموارد فكان كانتيلون يرى: أن الحروب التي تحدث بين وقت وآخر تكمن أسبابها الرئيسية في الضغط السكاني على الموارد، إلا أن من نتائجها أنها تعيد التناسب بين السكان وضرورات الحياة، وعل ذلك يجب تأخير سن الزواج، وتحديد حجم الأسرة. وبعد كتاب كانتيلون بنحو عشر سنوات نشر جيمس ستيوارت كتابه(مبادئ الاقتصاد السياسي) في عام 1767م. والذي أشار فيه إلى أن العامل الوحيد المحدد لزيادة السكان هو مدى توفر المواد الغذائية اللازمة لهم، وأن هذه الموارد لا تنمو بنفس نسبة النمو السكاني، وهو الأمر الذي يُحِد من نمو السكان في أي بلد. ثم جاء جان باتيست ساى(1767 - 1832م) ونشر(رسالة في الاقتصاد السياسي) عام 1803م ذكر فيها تقريبا نفس آراء مالتس، على الرغم من أنه لم يكن قد تعرف عليها بعد فقال " إن الكائنات الحية تميل دائما إلى التكيف مع احتياجاتها الغذائية، وبالنسبة للبشر فإن القوة الجنسية لديهم تجعلهم يتزايدون بمعدلات أعلى من الوسائل اللازمة لحياتهم، ويجب أن تكون هناك موانع أخلاقية وغير أخلاقية للحد من عدم التناسب بين عدد السكان ووسائل المعيشة ".

الأفكار المالتسية:
خرج روبرت مالتس (1766 - 1834م) القس الإنجليزي في ظل المناخ الذي سبق وأشرنا إليه ليدافع عن مصالح الإقطاعيين و رجال الكنيسة ورجال الدولة. حيث تعرضت مصالحهم للاضطراب نتيجة صعود الرأسمالية الصناعية، فعارض قانون(إغاثة الفقراء)، كما عارض إلغاء(قانون الغلال) الذي يترتب على إلغائه السماح باستيراد القمح. وفي عام 1798م نشر كُتيّبا بعنوان(مقال في مبدأ السكان) An Essay on the Principle of Population أعاد نشره عام 1803م بعد تطويره، قدم فيه نظريته في تبرير ظاهرة ارتفاع أسعار الحاصلات الزراعية، وانتشار البطالة، وبؤس العمال التي قامت على اعتبار أن: " الزيادة السكانية مجرد عملية بيولوجية بحتة لا علاقة لها بالنظم الاجتماعية السائدة. وكما أن الغذاء ضروري لحياة الإنسان فإن العلاقات الجنسية مطلوبة أيضا للحفاظ على النوع. إلا أن هاتان الظاهرتان متعارضتان حيث تتزايد أعداد السكان بمتوالية هندسية بينما يتزايد الغذاء اللازم للعيش بمتوالية حسابية ". ومن هنا يُمكن القول أن مالتس ارتكز في نظريته على فكرتين: الأولى، أن الميل البشرى للزيادة بمعدلات أكبر من معدلات زيادة الغذاء هو قانون طبيعي لا نملك إزاءه شيئا، والثانية، أن قانون تناقص الغلة هو قانون صحيح. ولم يهتم مالتس بإثبات نظريته باعتبار أنها بديهية لا تحتاج لإثبات. أما الحلول التي اقترحها، فإنه قام بتصنيفها إلى مجموعتين: واحدة تضم الموانع الإيجابية Positive Checks ونشرها في الطبعة الأولى من كتابه، وهي المتمثلة في: زيادة معدلات الوفيات بسبب الحروب، والمجاعات ، والأوبئة، وتُعّد من العوامل الطبيعية التي تتدخل إعادة التوازن بين السكان والموارد، وبالتالي لا يُمكن إدانتها. وتضم المجموعة الثانية الموانع السلبية Preventive Checks ونشرها في الطبعة الثانية من كتابه، وهي المتمثلة في: تخفيض معدل المواليد، بتأخير سن الزواج، وكبح الشهوة الجنسية لدى الإنسان، ومنع الفقراء من الزواج والإنجاب. وهكذا يُصبح البقاء للأقوى، لذلك كان داروين من أشد المعجبين بآراء مالتس. ويعتقد الباحثون المحدثون بعد دراستهم التحليلية للطبعة الأولى من كتاب مالتس أن مسألة تزايد السكان كانت تحتل مرتبة ثانوية من تفكيره، وأنه كان يعتزم تقديم بحث في(طبيعة الفقر) أسوة بكتاب آدم سميث بحث في(طبيعة الثروة)، ولكنه أثار عليه ثائرة كل من رجال اللاهوت المحافظين والراديكاليين الاجتماعيين فتحول بذلك مجرى الكتاب في طبعته الثانية واتجه نحو مصالحة هؤلاء المعارضين.

الأفكار اللاحقة:
كانت لأفكار روبرت مالتس فعل السحر لدى المفكرين الاقتصاديين والمصلحين الاجتماعيين، الذين انقسموا بين مؤيدين ومعارضين لها. ومن هنا كانت الشهرة الكبيرة لروبرت مالتس بين علماء الاقتصاد، وعلماء الاجتماع. ومن المفكرين الذين اندفعوا في تأييد الأفكار المالتسية في بداية أعمالهم، ثم تراجعوا عن ذلك التأييد في كتاباتهم التالية كل من: جون رمزى مكولوخ (1789 - 1864م)، وليم ناسو سنيور (1790 - 1864م). أما فردريك باستيا (1801 - 1850م) الاقتصادي الفرنسي فكان يرى أن للتزايد السكاني فوائد عديدة فهو يوفر للمجتمع قوة عمل كبيرة يُمكن لها أن تتسبب في التقدم الاقتصادي للمجتمعات. ويرى فيلهلم روشر (1817 - 1894م) وهو اقتصادي ألماني أن الكثافة السكانية تمكن الدول من التوسع في تقسيم العمل، وبالتالي تسهم في زيادة ثروة البلدان، أما الزيادة السكانية التي تحدث في مجتمع راكد ومتخلف يكون تأثيرها سلبيا. فحجم السكان أحد العوامل الهامة المحددة لحجم السوق، وكذلك أحد العوامل المحددة لإمكانيات تقسيم العمل والتخصص. بل إن النمو السكاني يساعد على اتساع مساحة الأرض المزروعة، وان كان له أثر على رفع أسعار المنتجات الزراعية، فإن ذلك يُمكن تعويضه من مزايا أخري. ثم قام بتصنيف البلدان إلى مجموعتين: واحدة ذات خفة سكانية، وأخرى ذات كثافة سكانية عالية.

بعد هذه الفترة تغير العالم كثيرا حيث قدمت بلدان المستعمرات الغذاء الرخيص لأوربا وكذلك المواد الخام، وخففت من النمو السكاني الذي حدث في أوربا عن طريق الهجرة إليها. ترافق ذلك مع ظهور مدرسة النيو كلاسيك التي أخذت تُخفف من الآثار التشاؤمية لروبرت مالتس. فهناك على سبيل المثال ريتشارد جونز (1790 - 1855م) الذي ذكر أن السكان يميلون إلى ضبط أعدادهم كلما ارتفع مستوى معيشتهم، وذلك باستخدام الموانع الوقائية. أما وليم ستانلي جيفونز (1835 - 1882م) قطب المدرسة الحدية الذي أفرغ علم الاقتصاد من مضمونه الكلاسيكي، وأعلن أن مشكلة علم الاقتصاد هي البحث في حسابات اللذة والألم. لذلك فقد استبعد جيفونز السكان عند تحليله لنظرية التوزيع وأكد أن الأجور تتحدد بناء على الإنتاجية الحدية لعنصر العمل، وكان فون ثونين قد سبقه إلى ذلك التحديد للأجور. تماما كما فعل ثونين. وجاء جون اليوت كيرنس (1823 - 1875م) فقال إن قضية السكاني لا تُتعد من الموضوعات الرئيسية لعلم الاقتصاد، وأنه يُمكن أن يُنظر إليه باعتباره متغيرا من الدرجة الثانية من درجات الاهتمام، لذلك لم تتضمن أعماله هذا الموضوع. واعتقد كيرنس أن الحد من النمو السكاني يحدث من خلال تحسين شروط الحياة والعمل. أما هنري جورج (1839 - 1897م) فقد رفض تماما نظرية مالتس في السكان بوضوح تام، وقد عُرِفَ عنه شدة الدفاع عن الفقراء. وكان يرى أن سبب انخفاض أجور العمال ليس زيادة أعدادهم كما قال مالتس ولكن بسبب الظلم الواقع عليهم. وأن الزيادة السكانية من شأنها أن تؤدي إلى زيادة تقسيم العمل، وبالتالي زيادة الإنتاج، ورفع مستوى المعيشة إذا كانت هناك عدالة في التوزيع. ثم جاء الفريد مارشال (1842 - 1928م) فلم يهتم بقضية السكان إلا عندما تحدث عن قانون تناقص الغلة والذي كان مقتنعا به أشد الاقتناع.

خَفُتَ الاهتمام بمشكلة السكان خاصة بعد الهجوم الذي تعرضت له النظرية المالتسية وقانون تناقص الغلة وحدث نوع من الاطمئنان النسبي. وساعد على ذلك ما تم استنزافه من ثروات المستعمرات، التي كانت أيضا سوق جيدة. وعلى ذلك فقد خفف النيو كلاسيك من حجم التشاؤم المالتسي، وان كانوا ظلوا مؤمنين بقانون تناقص الغلة. وتلا ذلك الاهتمام بموضوع الحجم الأمثل للسكان. ويعتبر كنوت فيكسيل (1851 - 1926م) أول من استخدم ذلك المصطلح عام 1901م، ثم تلاه ادوين كانان في كتابه بعنوان(تاريخ نظريات الإنتاج والتوزيع في الاقتصاد السياسي الإنجليزي). حيث أشار إلى أنه توجد نقطة معينة تبلغ فيها الإنتاجية أعلى مستوى لها، بعهدها تبدأ الغلة في التناقص إذا تزايد عدد السكان. بيد أن هذه النقطة ليست مطلقة، ولكنها تتغير من وقت لآخر تبعا للتقدم الفني. حتى استقر مفهوم الحجم الأمثل للسكان عند التعريف الذي وضعه كار سوندرز وقال أنه " العدد الذي يُنتج أعلى متوسط للعائد بالنسبة للفرد الواحد. إذا أخذنا بعين الاعتبار طبيعة البيئة، ودرجة مهارة السكان ، وعادات الناس وتقاليدهم. وهذا الحد ليس مطلقا أو ثابتا، وإنما يتغير باستمرار كلما تغيرت الظروف والعوامل المشار إليها ". ومن هنا أصبح العلماء لا يتحدثون عن شبح مالتس، وانما يتحدثون عن الحجم الأمثل للسكان. حتى جاءت النظرية الكينزية التي لم تنظر للسكان كمشكلة إلا من زاوية البطالة والعمالة. كما أن زيادة عدد السكان تؤدي إلى زيادة حجم الطلب الكلي الفعال.




أعلى