وثائق نوبل السرية : لهذا السبب استبعد بورخيس

في كتابه، "بورخس: حياة"، الذي تناول فيه سيرة بورخس، يذكر إدوين وليامسون أنه كان من المرجّح أن يحصل الكاتب الأرجنتيني على جائزة نوبل عام 1976 لولا زلته السياسية المتمثلة بحضوره، في العام نفسه، حفل عشاء أقامه قائد الانقلاب العسكري في الأرجنتين الجنرال فيديلا، كذلك، أُخذ عليه تجاوبه مع شريكه بالجريمة التشيلي الجنرال بينوشيه.
لم يكن واضحاً على أي شيء بنى وليامسون افتراضه هذا، غير أنّ ذلك، قد تبين بعد عشر سنوات، حين غدت مداولات لجنة نوبل لعام 1976 متاحة للعموم. إن إسقاط بورخس من حسابات الجائزة كان لأسباب سياسية، وقد سبق أن لمّح إلى ذلك، أكثر من مرة، آرتور لوندكفيست، عضو الأكاديمية السابق ورجل نوبل للعالم الناطق بالإسبانية، كما في مقابلة معه لمجلة "كيميرا" الأرجنتينية في بداية عقد الثمانينيات. إنّ استبعاد بورخس من الفوز بالجائزة يجب أن يُعد من أشنع أخطاء الأكاديمية السويدية.
في لوائح الجائزة شرط ينص على مراعاة "الاتجاه المثالي" في نتاج الكاتب، وهو ما قد يفسّر الموقف من عزرا باوند الذي كان يُرشَّح سنة بعد أخرى خلال الخمسينيات ويستبعد كل مرة من مناقشات اللجنة مع الإشارة إلى آرائه الفاشية القوية والواضحة، التي تنطوي أيضاً على نزعات معاداة السامية وبشكل أساسي معاداة الإنسانية، وهو ما يتناقض بشكل واضح مع مغزى جائزة نوبل. وأخيراً سقط باوند بسبب معيار السن وهو معيار اعتباطي وقع ضحيته من قبل الروائي البريطاني إي إم فورستر، من بين آخرين. بنفس القدر انسحب الأمر على التوجهات الشيوعية، على الأقل حتى منتصف الستينيات ولهذا السبب رُفض بابلو نيرودا مرتين قبل نيله الجائزة عام 1971.
لكن إذا كان صحيحاً، الآن، أن المطاف انتهى بخورخي لويس بورخس إلى قائمة المحظورات كما هو الحال مع باوند، إرنست يونغر (كاتب وضابط ألماني) ولويس فيرديناند سيلين، فإن ذلك بلا شك يدعو للسخرية في ضوء موقفه المعادي للفاشية قبل وخلال الحرب العالمية الثانية، هذا الموقف ذاته، أي من الفاشية تحوّل بعد الحرب إلى مناهضة للبيرونية. كما أن بورخس الشاب، وخلال العشرينيات قد كافح ضد كل الدعوات المعادية للهجرة وقد رأى فيها انتهاكاً للكريولية وطالب بدلاً من ذلك بدمج مئات الآلاف من المهاجرين من أوروبا والشرق الأوسط، في تعريف جديد ومفتوح للأمة الأرجنتينية، وهو بذلك يقف على الضد من مواطنه الكاتب "القومي" ليوبولدو لوغونيس، الذي كان يُظهر خلال ثلاثينيات القرن المنصرم، نزعته الفاشية، أكثر فأكثر. لقد اتُّهم بورخس عام 1934 من النازيين، الذين جعلوا من الأرجنتين المعقل الأكبر لهم خارج ألمانيا، بمحاولة إخفاء أصوله اليهودية المزعومة، ليردّ على هجومهم بنص رائع، حمل عنوان "أنا يهودي"، وفي الوقت الذي كان قسم كبير من النخبة الأرجنتينية خلال الحرب قد توحد إلى جانب دول المحور، ثبت بورخس على موقفه المناهض لما هو قومي، وبعد الحرب أصبح مثالاً للمقاوم النزيه ضد نظام خوان بيرون، الشعبوي.
بلا شك إن البيرونية ظاهرة معقدة تضم طيفاً سياسياً واسعاً، من اليمين إلى اليسار، لكنها وبشكل جلي قومية وفاشية. كذلك فإنه ومما لا خلاف عليه أن بيرون قد فتح أبواب الأرجنتين للنازيين كلاجئين بعد الحرب، وهو شخصياً عندما أُجبر على المنفى عقب الانقلاب الذي أطاحه عام 1955، قد اختار أن يطير إلى إسبانيا فرانكو. بالنسبة لبورخس، كان خوان وإيفيتا بيرون يمثلان كلّ ما يبغضه، العداء كان متبادلاً، وقد ألحقت إيفيتا بيرون الإهانة ببورخس وذلك بفصله من عمله كمساعد في مكتبة بوينس آيرس البلدية وتعيينه مفتش دواجن وأرانب في سوق بلدية العاصمة. بعد تسع سنوات من ذلك قام الجنرال بيدرو أوخينيو أرامبورو، بتعويضه وردّ الاعتبار له بجعله مديراً لمكتبة بوينس آيرس الوطنية، الخدمة التي احتفظ بها حتى التقاعد الذي تزامن مع عودة البيرونية إلى السلطة عام 1973. غير أن دعم بورخس غير المتحفظ لسياسة نظام الجنرال أرامبورو، المناهضة بشدّة للبيرونية أدى إلى أن ينفض عنه العديد من زملائه. خلال الستينيات والسبعينيات كان بورخس يدرك أن الأرجنتين المحبطة تنحدر أكثر فأكثر في دوامة من الخراب الاقتصادي والفوضى السياسية والمواجهة بين الجيش واليسار الثوري. في عام 1970 دخلت حركة "مونتونيروس" المشهد، وهي (حركة يسارية تقوم على العنف وذات أيديولوجيا بيرونية، تأسست عام 1966)، من خلال اختطاف ومن ثم تنفيذ حكم الإعدام بالرئيس السابق أرامبورو، وكان متقاعداً. هذا الحدث قد ألهم بورخس واحدة من أقسى قصصه، هي "المبارزة الأخرى" المنشورة ضمن مجموعته "تقرير برودي". ومع العودة البغيضة لبيرون كان السيناريو الكابوسي قد وصل إلى الذروة وهو ما كان مقدمة لحرب إبادة أو ما عُرف في الأرجنتين بالحرب القذرة. ومع فترة حكم إيزابيل بيرون ـ راقصة الملهى السابقة ـ التي امتدت ثلاث سنوات، ابتدأ إرهاب فرق الموت وعمليات الإخفاء القسري، ولم يكن بورخس الوحيد الذي أخطأ باعتقاده أن جنرالات الانقلاب سيعيدون النظام. عندما بدأ يتضح له وبشكل تدريجي مدى الرعب الذي تسبب به إرهاب الدولة أخذ هو مسافة واضحة من "النظام الإجرامي" لعصبة العسكر. عندما فكر وليامسون ببورخس ولجنة نوبل لم يكن تحت تصرفه من وثائق اللجنة سوى ما يعود إلى بداية الخمسينيات، فقط. لقد قرأت مداولات لجنة نوبل من 1955 إلى 1966، أي بقدر ما هي الآن علنية، وتبينت من خلالها أن بورخس رُشح أول مرة للجائزة عام 1956، أي قبل سنوات عدة من تحقيقه شهرة عالمية كبيرة من خلال جائزة فورمينتور، سوية مع صموئيل بيكت عام 1961، وأخذت اللجنة تتابع اسمه، ويظهر من تقرير الخبراء أن الاقتراح قد حظي بالاهتمام، لكن بأي حال لن يكون اسمه في مقدمة قائمة هذا العام. لذلك كان التمهّل حتى عام 1962، حينها خُصّ بتقييم ـ رأي أكثر تفصيلاً: "الأرجنتيني، المتفرد، المقالي ومؤلف الحِكم، دون شك هو كاتب ـ مفكر أصيل، يستحق أن يكون معروفاً بشكل أفضل"، لكن وبرغم المديح الذي كيل له، لم يوفر التقرير ملاحظاته عليه، منها، وهي الأهم، تعقّد مجاله الأدبي وبالتالي تعذّر نسبته إلى تصنيف معيّن، ما جعل حظوظه ضئيلة الصلة جداً بأهداف جائزة نوبل، لذا ارتأت اللجنة أنه من الصعوبة الأخذ بالاقتراح.
خلال العامين 1963 و1964 يُرشح ثانيةً ويُرفض الترشيح مع الإشارة إلى التقرير السابق رغم إبداء الإعجاب بالذكاء والتميّز، كسمة لآثاره، مع ذلك لا ترى اللجنة فيه، توافقاً مع الطابع الأساس للجائزة، لذا تعتبره خارج إطارها. حتى الآن التقييم يجري على أسس أدبية لا سياسية. على أن التحفظ الآنف، لم يمنع من أن ينتهي في العام التالي إلى قائمة مع أسماء لا يُستبعد فوزها، وقد كان سند اللجنة هذه المرة هو انتباه الأكاديمية إلى إمكانية تقاسم الجائزة وقد اقترحت ثلاثة آخرين مناسبين: آنّا أخماتوفا ـ ميخائيل شولوخوف ـ خورخي لويس بورخس ـ ميغيل أنخيل أستورياس، وأيضاً شموئيل يوسف عجنون ـ نيللي زاكس.
لكن أندرس أوسترلنغ (رئيس اللجنة)، تحفظ بشكل خاص على تقاسم الجائزة وأشار إلى أن القاسم المشترك الوحيد بين الاثنين: "بورخس ـ أستورياس" هو أنهما يكتبان بنفس اللغة بينما هما بشكل عام مختلفان تماماً في نمطهما الكتابي ومتضادان، تقريباً، في أهدافهما وعوامل تأثيرهما. في عام 1965 نال شولوخوف، منفرداً، الجائزة، في واحد من أكثر الخيارات إحراجاً للأكاديمية، سواء من منطلق أدبي أو سياسي. هذا الواقعي الاشتراكي والمدافع السوفييتي كان واحداً من أبرز المرشحين للسنوات العشر الماضية. على أية حال، في العام التالي، كانت الجائزة من نصيب عجنون وزاكس، مناصفةً. (وكانت زاكس قد ترشحت عام 1966 مع بول سيلان، الذي اعتُبر غير مؤهل للجائزة). وفي عام 1967 ذهبت الجائزة إلى ميغيل أنخيل أستورياس. كان بورخس هو المتحدي الأول لأستورياس، وإذا ما فكرنا بتروٍ فيبدو أن من غير المعقول أن يتم تقاسم الجائزة بين الأرجنتيني والغواتيمالي. وبغض النظر عن كل شيء، كان ينبغي أن يحصل بورخس على الجائزة في السنوات القليلة اللاحقة، غير أن صموئيل بيكيت، الذي انتهى اسمه إلى القائمة القصيرة للجنة وتكرر مرات عدّة، قد أفلح في الأخير بقطف الجائزة وذلك عام 1969، رغم معارضة أحد أعضائها المثابرين، وحده، مثل أندرس أوسترلنغ، وتحفظه على نهلستية صموئيل بيكيت. لقد كان عام 1967 بالنسبة لبورخس الفرصة التي فاتت، ففي العام التالي اختير آرتور لوندكفيست عضواً في الأكاديمية خلفاً، لغونار ايكيلوف، وحتى لو كان لوندكفيست واحداً من الذين قدّموا بورخس بالسويدية، لكنهما كاتبان بمزاجين مختلفين تماماً، والقطيعة بينهما لم تكن فقط سياسية، وقد تعود بدايتها إلى أول زيارة قام بها بورخس للسويد، عام 1964. لوندكفيست طلب عندئذ من أحد زملائه المعجبين ببورخس تقييم بضع قصائد له وتلقى رداً صريحاً. بعد أستورياس لم تمر سوى أربع سنوات حتى كانت الجائزة مرة أُخرى من نصيب أميركا اللاتينية، هكذا وكما نعلم جميعاً، ذهبت في عام 1971 إلى بابلو نيرودا، المرفوض من قبل. وكان قبل ذلك قد نال جائزة لينين للسلام، تماماً مثل عضو الأكاديمية آرتور لوندكفيست.


* المقالة كتبت بقلم أوسكار هيمير ـ داغنس نيهيتر



أعلى