جواد الحطاب - لقاء مع قصيدة.. بعد غياب 40 عاما ألتقيها في ساحة التحرير

1-

إنتقلنا في بداية السبعينيات من البصرة الى بغداد بشكل نهائي، بسبب أنتقال الوحدة العسكرية التي كان يخدم فيها والدي، واستقرارها في العاصمة .
ومثل كلّ القرويين كان والدي يتمنى ان ينشئ عائلة كبيرة، تسند وحدته في بغداد، بعد ان ظلّ اجدادي وأعمامي في البصرة.
ولسبب مبارك مكّن الله والدي من تحقيق امنيته بالعائلة الكبيرة، فكنّا 10 أخوة بين 6 أشقاء ذكور، و4 بنات، وبما اني الولد الأكبر فقد وقع عليّ ثقل المعاونة في المعيشة، وهو ما اضطرني الى مغادرة الدراسة النهارية، الى الدراسات المسائية، والإندراج نهارا في جيش " العمّالة " اللجب في ساحة التحرير، تحت "نصب جواد سليم" أو في ساحة الطيران جوار "جدارية فائق حسن"، ولذلك، عبر التظاهرات الأخيرة لشباب العراق الثوار، كنت أزور بشكل شبه يومي، هذين المكانين للإطمئنان على تكوينات"جواد سليم" وعلى حمامات "فائق حسن".
.
كنت في الأيام التي لا اجد فيها "مقاولا" يشتري مني جهد ساعديّ، أخجل من ان اعود الى البيت مبكرا، لأن العائلة – عادة- تكون بانتظار أجرتي اليومية، ولكي تعتقدني ما زلت في العمل أظلُّ اتسكّع بين مكتبات شارع السعدون، أو أذهب لزيارة بعض الصحف والمجلات، للتعرف على مسؤولي اقسامها الثقافية، او أقابل الأسماء الكبيرة التي تكتب فيها، والتي سأجيء الى ذكرها الموقر في منشور قادم ان شاء الله.
أما الأجرة اليومية فاستدينها من اصدقائي على ان اردّها لهم في أيام أخر، وكان هذا أمر متعارف عليه بيننا.
.
2
.
في المقهى الشعبي الذي يتوسط المنطقة التي سكنّاها " البياع الثالثة" ، كانت هناك شخصية لطيفة، مثقفة، ويبدو ان صاحبها كان ذا مكانة مجتمعية مرموقة، للاحترام الذي كان يسقبله به صاحب المقهى، وكذلك الزبائن ، وأهل المنطقة ..
إسمه "ياسين الدوري" أطال الله في عمره اذا كان حيّا، وشمله برحمته الواسعة اذا كان قد غادرنا.
.
كان الدوري يراني دائما وفي يديّ كتاب، مرّة وفي لحظة مزاح قال لي أمام بعض الاصدقاء: يقولون عنك انّك شاعر ؟!
.. وبتحدٍ - كان اكبر من أعوامي بكثير-، قلت له : ومن أهمّ الشعراء ؟!!
فضحك وقال حسنا ..
لي صديق اسمه "عبد الرحمن الربيعي" وهو المسؤول الأول في مجلة الاقلام اللي مقرها باب الشرجي..
قلت له أعرف المجلة واقرأها ، واسم الربيعي علم من الأعلام.
فاردف : جيد ..
راح انطيك رسالة له، واخذله قصيدة من قصايدك، اذا اقتنع بيها، فراح نقتنع أحنه ايضا، واذا لا.. فأيّ كتاب اشوفه بيدك راح آخذه منك !!
وبين الجدّ والهزل طلب ورقة، وكتب فيها سطرا واحدا لا غير: سلام..ابو حيدر، حامل الورقة من طرفي .. عنايتك !!..
وسلّمني رسالته وسط حماسة شباب المنطقة الذين تجمهروا لمشاهدة المحادثة.
.
3
.
ايام ذهابي الى ساحة التحرير بحثا عن عمل، كانت عيني على وزارة الاعلام التي فيها المجلة، وأتخيّل الربيعي شيخا قابعا بين عشرات الكتب والأضابير، وان مجرّد السلام عليه سيوقعك في "فتنة" ربما لا تنجو منها بسهولة .
وكنت أحمد للمقاول التزامه بالبناء، مما لا يتيح لي فرصة زيارة ذلك الشيخ الكُتُبي !!.
..
الى ان..
في يوم من ايام المقاول، لم يأتنا فيه، وهذا يعني ان لا عمل عندي في هذا النهار، وان عليّ ان أقضي الساعات المعتادة خارج البيت، ثم أعود بعد الظهر باعتباري قد عدت من العمل.. بانتظار يوم عمل آخر.
..
في منطقة "الباب الشرقي" مقاه عديدة تجاور ساحة التحرير، وكذلك عدّة مكتبات، وعادة في مثل فراغاتي التي يغيب عنها العمل، أقضي النهار بالتسكّع بينهن، المقاهي والمكتبات..
وفي هدنة استراحة، اخترت مقهى مقابلا لوزارة الاعلام وجلست أشرب الشاي .. وأفكّر مليّا في خطوتي القادمة .
..
قبل ايام، كنت قد انجزت واحدة من قصائدي واعتبرتها –أنا- "الجوهرة" التي ينتظرها الشعر العربي وليس العراقي فحسب، وبحسب تقييمي هذا ، حفظتها عن ظهر قلب، وعادة كنت – وما زلت – احفظ القصائد التي احبها من أوّل لحظات كتابتها ..
جلست في المقهى بعد ان اشتريت بضع اوراق "A4 " وابتدأت اكتب القصيدة وفي داخلي إصرار شديد على اقتحام مبنى وزارة الاعلام، ومواجهة " الربيعي" متسلّحا بالورقة التي كنت احملها دائما في جيبي انتظارا لمثل هذه الفرصة، ورقة "ياسين الدوري" .
.
بعد ان اكملت نقل القصيدة وراجعتها، دفعت ثمن استكان الشاي وتوجهت الى الوزارة.
.
4
.
في الاستعلامات الكبيرة والأنيقة، والرجال الكبار والأنيقون الذين كانوا يمرون او يسألون عبرها، وقفت امام مسؤول الإستعلامات، وطلبت منه ان أقابل عبد الرحمن الربيعي.
.
وحتى هذه اللحظة.. لا استطيع أن أفسّر النظرة التي ألقاها الرجل المسؤول علي ..
:
ولد صغير السن ..
بملابس العمّالة المبقّعة بالجص، وبقايا الاسمنت، والثقوب المتناثرة في القميص والبنطرون، وحتى اليدين لم تخل من آثار ما تتركه أدوات العمل، وما يعلق منها ما جوار الأظافر، وفي خطوط الكفّين..
هذا الولد الصغير..
يطلب مقابلة واحد من أهم الشخصيات الأدبية فضلا عن كونه يشغل منصبا إداريا مهمّا..
.
سألني المسؤول: تعرفه للاستاذ ..؟
قلت له : لا. لكن صديقه ارسلني اليه.
وبين السخرية وعدم الجدّية رفع مسؤول الاستعلامات سمّاعة الهاتف، وتوقعت انه يكلّم الربيعي، لأنّه سألني عن اسم الشخص الذي أرسلني، فاخبرته، ليغلق الهاتف ويشير الى الطريق ..
.
الطابق الذي أوصلني الى مجلة الأقلام، وضعني في منطقة احراج ما زلت اذكرها الى الآن:
على يميني حائط زجاجي كان يطلّ على شارع الجمهورية حيث السيارات والمارّة المتراكضون لإنجاز أعمالهم، وعلى اليسار كانت هناك غرف عديدة مفتوحة الأبواب..
.
أحسست ان عيون جميع موظفيها تحدّق بي وانا أمرّ، فمن يكون هذا الصغير الذي يتوجّه الى نهاية الممر، حيث ستواجهه مجلة الأقلام.. وهو بهذه الهيّأة ؟!!
.
حين وصلت الى الغرفة التي مكتوب جوار بابها "سكرتير التحرير"، طرقت الباب بتردّد كبير، ورهبة أكبر.. ليأتي الرد : أدخل .
وبين قدم وأخرى ..دخلت ..
.
.
لم يكن الربيعيّ ذلك الشيخ الذي تخيلته، ولم تكن غرفته ملآى بالأضابير والملفات، وانما كان رجلا معافى ، وغرفته أنيقة، وهادئة، وستارة الشبّاك المتقاطعة يتسرّب منها ضوء مريح للنظر والأعصاب.
رحب بي الرجل مدهوشا من وضعيتني كلها، وحين اعطيته ورقة الدوري ابتسم ، وكأنّه توقعني احد مقالب صديقه، ومع ذلك قال لي : تفضل.. بيش ممكن اخدمك ؟.
.
ربما اعتقدني في اللحظة التي رآني فيها، طالب "معونة" او فتى يبحث عن "عمل" ما.. لكن آخر ما كان يتوقّعه، أو ان يخطر في باله، هو انني أضع بين يديه مجموعة من الأوراق ، وأقول له : عندي قصيدة واريدها تُنشرُ في مجلتكم !!
.
الجدّية، التي غلف بها "سكرتير التحرير" ضحكته الخفيّة، الإداريّ والمسؤول الفعلي الأول عن مجلة كانت لجنتها الاستشارية، فقط، تضمّ كبار مثقفي العراق، اذا لم يكونوا كبار مثقفي العرب، ظلّ باهتا أمام طلبي !!
.
الآن، وأنا استرجع تلك الذكرى، أعذر حيرة الكبير عبد الرحمن الربيعي، وتشاغله بكيفية مواجهة الموقف الذي وضعه فيه صديقه الدوري، أو الذي انا وضعته فيه، وكأنه كان يقول لي في سرّه : لِمَ لم تذهب الى الصحف التي تستقبل كتابات القرّاء، وتنشر للعشرات منهم في الصفحة الواحدة بقصد الترويج، بدلا من ان تقصد "الأقلام" دفعة واحدة، والنشر فيها مطمح لكبار أدباء الداخل والخارج !!.
لكن تغلّب عليه تهذيبه الجنوبي، فاستلم القصيدة، وقال ستعرض على "هيأة تقييم" وسلبا أو إيجابا سنردّ لك النتيجة بعد الإطلاع عليها. فاترك عنوانك، واذا اكو رقم تلفون في البيت سجّله أيضا.
ففعلت ..
.
حين خرجت من باب غرفته، كنت اتمنى لو ان لها بابا مفتوحا الى الخارج، على الشارع مباشرة، لأتجنب نظرات الموظفين من خلل ابواب غرفهم المفتوحة..
ومؤكّد ان هذا الذي راودني لم يكن موجودا ، لكنه الإرباك الذي عبّرته لي ملابسي البعيدة عن لياقة مراجعة دائرة تتعامل بالشعر والجمال والرومانسية، فضلا عن صغر سنّي ..
وربّما، أيضا، الأوراق التي بقيت في يدي مما فاض عن حاجة القصيدة، وخوفي من ان يظنّها البعض استرحاما، أو عريضة طلب مساعدة ما !!
.
5
.
في المقهى ..
وضعت لقصيدتي عنوان " أتكابر بالعشق يا وطني " وفكّرت، وانا أضع هذا العنوان، يجب ان اضيف له شيئا آخر، شيء يترك لدى القارئ انطباعا، بان شاعر هذه القصيدة هو احد المثقفين المحيطين بما يدور في "الأمة" من صراعات، وتضحيات من أجل الحرّية والأمل، وان له موقفا منها، وليس شاعرا هامشيا أو طارئا على الإبداع..

فكتبت اهداء.." الى ثوّار الجزيرة العربية " !!
علما انني – حتى اللحظة - لا اعرف من هم ثوّار هذه الجزيرة، ولماذا ثاروا، لكن كان أسمهم في تلك الأيام يتردّد بكثرة في الصحف والأخبار، ووجدته "فخما" وذا هيبة .. فأدرجته.
.
وانا اجتاز باب الاستعلامات الى الخارج، وقفت ملء هدوئي وتنفّست بعمق، وفي المقهى القريب الذي عدت اليه لاسترجع ما مرّ بي، تملّكتني الضحكة نفسها التي لم يجرؤ ان يطلقها بوجهي عبد الرحمن الربيعي، حين استلم مني القصيدة وسمعني وأنا أطلب منه نشرها في مجلته " الأقلام " و"أفيده" بانني لم انشر سابقا في أي مطبوع، وهذه هي محاولتي الأولى !!
.
6
.
طوال أمسيات لاحقة لم أذهب الى "مقهى ابو محمود" لكي لا التقي بياسين الدوري، وأسئلته التي ربما سيحرجني بها عن مقابلتي للربيعي..
لكن حدث ما هو متغير وجعلني أنا من يقصد المقهى هذه المرة، وفي وقت مبكّر على مجيء من أريدهم.
.
حين عدت ذات مساء من العمّالة، سلّمتني "بدريه نعمه" والدتي السومرية المعظمة، مظروف رسالة، قالت ان "ساعي البريد" قد جاء به نهار اليوم !!
.. كان المظروف يحمل ختم وزارة الاعلام، ومعنون الى" الأستاذ الشاعر جواد الحطاب" مع التقدير.
بلهفة مزّقت غلاف الظرف، لأجد فيه رسالة من مجلة الأقلام تقول ( قصيدتك المعنونة " اتكابر بالعشق يا وطني" أحيلت الى لجنة الخبراء وسوف نعلمك برأيها لاحقا )..
.
لو كنت أملك اللغة التي استطيع بها ان أنقل لكم زهوي في تلك اللحظات، لفعلت، ولكن الأمر يحتاج الى ما يسمى -ربما- رحلة عبر الزمن ..
.
انا "عامل الطين" الذي يعود من "العمّالة" مباشرة الى الثانوية المسائية، ها هي وزارة الاعلام، بجلالة قدرها، تخاطبني بـ" الاستاذ الشاعر" وتضع "تقديرها" لي في آخر الخطاب وترسله عبر البريد، ويجيء به ساعٍ يركب دراجة هوائية، ويطرق باب بيتي ..ويسأل والدتي : هل هذا بيت الشاعر الحطّاب !!..
.
بيدي المظروف الذي تمزّق في اكثر من مكان نتيجة الاستعجال في فتحه.. ورسالة الوزارة التي أرسلته..
وضعتهما بعناية تحت القميص، وقصدت مقهى "ابو محمود" لأنتظر ياسين الدوري وبي قبائل من اللهفة، لأرمي الرسالة والمظروف امامه وسط دهشة الاصدقاء واعجابهم المؤكّد، وأريه ها أنا شاعر باعتراف وزارة الاعلام، وليس باعتراف من أرسلني اليها لأطرق باب سكرتير مجلة فيها !!
..
مع تراكم العمل، والجهد في الدراسة ( في الثانوية النهارية " اعدادية الأمين" كان معي الحاج هادي العامري، واللواء او الفريق مهدي الفكيكي، الذي قلت له حين اخبرني بتلك الزمالة أنني لا أذكرها، فقال أكيد لا تذكر.. فانت كنت معروفا لجميع الطلبة) !!
المعروف نهارا، انتقل للدراسة المسائية، وأصبح معروفا أكثر للمقاولين والـ"خلفات" وانحاز أكثر للشعر، لعلّه، نعم لعلّه ..
.
تناسيت متابعة القصيدة، ورضيت منها بالرسالة التي وصلتني، كما رضي امرؤ القيس بالإياب من الغنيمة، وان ظل طموحي على حاله، بل وفي أشد عنفوانه وهو أن ارى"اتكابر بالعشق" منشورة..
لكنّها " الأقلام" !!
.
7
.
في يوم لم يأتنا فيه المقاول، بَدَأتُ رحلة تسكعي المعتادة بين مكتبات شارع السعدون التي صار اصحابها من اصدقائي بحكم مروري المستمر، وعدم شرائي أيّ كتاب لأن أسعار كتبهم مرتفعة قياسا بـكتب"عربات" شارع المتنبي، ووجدت – وانا اتصفّح المنشورات الحديثة -عددا جديدا من مجلة الأقلام، فركضت الى فهرسته بلهفة ..
لأصدم.. فيما قرأت ..
تناهبت أصابعي الصفحات لتصل الى رقم 58..
وأصاب بالدهشة : قصيدتي موزعة على صفحتين متقابلتين – 58 - 59 (وهذا نادر في منشورات العدد، بالنسبة للقصائد، وأسجّل شكري هنا لـ "ثوار الجزيرة" فربما هم من القوا بثقلهم على المصمّم ففرشها هكذا) !!.
هذا أولا ..
ثانيا :
ما أثار انتباهي هو ضخامة الأسماء التي نَشَرَتْ معي (ولم أنشر معها أنا، ليكون ذلك في بالكم) !!
:
الشاعر البديع حسين عبد اللطيف،
والمذهل عيسى الياسري،
والمفكر د. عبد الوهاب المسيري،
والمصري محمد ابراهيم ابو سنه،
ويوسف العاني، والناقد الاستثنائي محمد الجزائري، والدكتور جليل كمال الدين، والعلامة محمد حسين الأعرجي ..
هؤلاء كلّهم : نشروا معي ..
( ارجو ان لا يعتبرني احد منكم مغرورا او نرجسيا ..
.
في ذات مناقشة لقصيدتي " التماثيل" طال الحديث عنها حين القى حولها الناقد الكبير ياسين النصير بحثا كاملا، ومن حنق وغيرة احدهم وقف وسط القاعة وادّعى بان تماثيل الحطاب، قريبة من قصيدة احمد شوقي التي يصف فيها "ابا الهول" ..
وحين احتدم النقاش، حول بُعدِ هذه عن تلك، طلبت الأذن وقلت للجميع حين سمح لي بالكلام: ايها الأصدقاء سأقول لكم سرا قاطعا للجدال.. ان الشاعر احمد شوقي هو الذي تأثر بي حين كتب هذه القصيدة ..
ووسط المرح الذي عمّ القاعة قال لي الدكتور عبد الرضا علي : ما اشدّ تواضعك يا جواد ) !!
.
كان العدد الذي فيه "أتكابر" قد صدر منذ فترة تسبق اطلاعي عليه، ولذلك قلت في نفسي، ان من اللياقة أن اذهب لأشكر الاستاذ الربيعي ، وأرتأيت ان أزوره ومعي قصيدة جديدة، فأنا الان شاعر معترف به !!
وفي المقهى التي اعتبرتها صاحبة فأل حسن لي، دبّجت قصيدتي "إمرأة من بيروت"، وقصدت "الاستعلامات" وبي فخر الدنيا كلها، وحين طلبت مقابلة سكرتير التحرير، أجبت على تساؤل المسؤول : عندك موعد؟ بأن فتحت له المجلة وأريته قصيدتي، فأشار باسما الى السلّم، لأمرّ على الأبواب المفتوحة وانا أنظر هذه المرّة عبرها الى الجالسين وراء مناضدهم وهم لا يعرفون من يمرّ بهم في هذه اللحظة ؟!!
.
لكنّ هذا الزهو كله أربكه لي السيد سكرتير التحرير، وبشكل غير متوقّع..
فبعد الترحيب وإبداء الإعجاب بالقصيدة، وتقبّله لقصيدتي الجديدة
قال لي، وانا أستأذنه بالإنصراف : جواد ( هكذا حاف، فقد أخذ الرجل عليّ، وصار صاحب "ميانة" معي) مرّ على المحاسب يا جواد . ثاني غرفة على يمينك !!
.
من باب غرفته الى باب غرفة المحاسب، إمتدت مسافة وسعها قلق كونيّ إجتحاني، وعصف بكل الكبرياء الذي جئت متلفّعا به، فعبد الرحمن الربيعي، الإنسان الطيب، والروائي الذي ملأتني قصصه ورواياته بالدهشة والإكبار، ينصب لي كمينا هكذا، ويطلب مني ان أمرّ على المحاسب لأدفع أجور النشر ؟!!
في محاورة سريعة مع روحي، قلت سأقول للمحاسب اذا طالبني : إعذرني فها انت تراني جئت من العمل، وسأمر عليك في يوم آخر لأدفع المستحق.. وقطعا سيتفهم ما انا فيه، واذا أصرّ سأطلق لساقيّ الريح ، فالدرج قبالتي.. وليتفاهم الربيعي، فيما بعد، مع ياسين الدوري..
المهم ..
ولجت في باب المحاسب، وقلت له الأستاذ سكرتير التحرير قال لي ان أمرّ على جنابك ..
تفحصّني الرجل مليّا، وسألني عندك شي منشور ؟
فوضعت المجلة أمامه وأشرت الى قصيدتي، ليسحب الرجل قائمة من مكتبه، (أوصل بها قلبي الى جوربيّ)، ثم أشار الى حقل وقال لي وقع هنا .. فوقّعت بيدٍ مرتعشة ..
ليعيد القائمة الى المجرّ ويلتفت الى قاصة قريبة منه، يفتحها ويسلّمني 10 دنانير، مكافأة عن قصيدتي المنشورة !!
..
الى الان ، وانا اكتب هذه الأسطر، استعيد الفرح، والخَبال الذي اجتاحني، لأن هذه الـ10 دنانير، كانت أكبر مما اتقاضاه من عمل شهرين بالعمّالة، من ضمنها التوسّل بـ" الأسطة " وتحمّل مزاجيات "المقاول" ومعاناة الطقس والأجواء، ولذلك ما أن استلمتها، واستلمت الشارع حتى صرخت بكل حنجرتي، وسط دهشة المارّة وسواق التاكسيات : أنا شاعر .. !!
ثم ذهبت الى اقرب بائع فاكهة، وارقى محل حلويات، وركبت سيارة تاكسي، من دون ان أفاوض على الأجرة، فقط قلت له : البياع .. الثالثة .
.
المجلة، تلك التي اشتريتها من مكتبات شارع السعدون، مضى على صدورها ما يقرب من 40 سنة او يزيد، ضاعت مني مثلما ضاع العديد من الكتب التي اضطررت الى بيعها ايام الحصار، أو أحرقت وأنا في "الجبهة" .
والقصيدة التي فيها نشرت في ديوان " سلاما ايها الفقراء" وبالاهداء القديم ذاته "الى ثوار الجزيرة العربية"، الذين لا أعرفهم، ولا أعرف لماذا، ومن هم هؤلاء الثوار، لكنني –هكذا – أشعر انني مدين لهم في الأقل بالتصميم وفرش القصيدة على صفحتين، ولشاعر غير معروف وينشر للمرة الأولى ؟!!
.
8
.
المفاجأة، في عام 2020 ..
واننا اتردّد دائما على ساحة التظاهر تحت نصب الحرية، وفي النفق الموصل بين ساحة النصر والخلاني، وجدت في مكتبة عامة أقامتها خيمة متظاهر ذوّاق، وبين الكتب المرصوفة أمامه، مجلة الأقلام القديمة، نفسها، بثوارها القدماء، وبذكرياتها المعتّقة !!
.
بعد 40 عاما أجدها في المكان الذي تصفّحتها فيه أول مرّة : مكتبات شارع السعدون.. يا للمصادفة العجيبة..
فأستأذنت المتظاهر أن أصوّر المجلة وأعيدها اليه، لأنّها تشكّل لي نقطة إلتقاء بين ماض ابتدأت به مغامرتي الشعرية الأولى، وبين حاضر ما زلت أمارس فيه تلك المغامرة، وبذات الإحساس بعدم الوصول الى اليقين، لأن اليقين في الشعر – بالنسبة لي - يعني النهاية .
.
شكرا ابو حيدر ، ايها الربيعي الكبير..
ولم يكن دفاعي عنك، يوم هاجمك الذين كانوا يعلنون – زورا- أنّهم عراقيون، وكانوا يتاجرون بالوطن أينما استقبلتهم بلاد .. ردّا لجميل قدّمته لي قبل عشرين عاما من تاريخ رسالتك - الوثيقة، وانّما هو واجب وطني وأخلاقي، تعلّمت درسه منك، ومن عبد الرضا علي، ومن ياسين النصير، ومن عشرات النبلاء الذين كانت أكتافهم ترفعني وأنا أزرع أحداقي، وأغني معهم من أجل شمس غد قادم.
.
.
شكرا لمجلة الأقلام، عرّابة قصائدي
وشكرا للمحاسب، ولمسؤول الاستعلامات كذلك.
.
وتبقى القصيدة هاجسنا الأزلي .. ما دمنا على قيد الكتابة .
.
.
أعلى