ميمون أم العيد - عندما حرّم بعض الفقهاء المغاربة "الكرنتينة" وتدابير الحجر الصحي

بدأت القارة الأوروبية بعض التدابير الوقائية لمنع انتقال الأوبئة منذ ستة قرون، أي نهاية القرن الرابع عشر الميلادي، إلا أن المراجع التاريخية تتحدث عن تدابير تعتمدها كل دولة بمفردها دون أي تنسيق بين الدول والممالك، ولم يكن هناك توحيد الجهود إلا سنة 1851، عندما استطاعت الدول الأوربية عقد أول مؤتمر دولي صحي بالعاصمة الفرنسية، لتدارس إمكانية فرض "الطوق الصحي" على الدول الموبوءة، لمنع تفشي الأوبئة والأمراض المعدية التي عرفها العالم، من طاعون أسود، وكوليرا، وتيفوئيد، وغيرها من الأمراض التي أودت بحياة الآلاف من الناس في مختلف دول المعمور.

La Quarantaine

سمّى المغاربة القدماء تدابير الحجر الصحي بـ"الكرنتينة"، نسبة إلى الأربعين يوما التي تفرض كطوق صحي على المسافرين القادمين من أماكن الوباء، إذ بحسب الأمين البزاز في كتابه "الأوبئة والمجاعات في المغرب خلال القرنين 18 و19"، فإن أول من ذكر هذا التدبير الوقائي هو السفير المغربي ابن عثمان مؤلف "الإكسير"، عندما وصل إلى سبتة سنة 1779 فاصطدم بتدابير الحجر الصحي التي كانت تدوم لأربعين يوما كاملة.

إذ نقل عن هذا المصدر قوله: "وقد ذكروا لنا قبل أنه لا بد من أن نجعل الكرنتينة، ومعناها أن يقيم الذي يرِد عليهم في موضع معروف عندهم معد لذلك أربعين يوما لا يخرج منه ولا يدخل إليه أحد". وزاد صاحب "الإكسير" واصفا ظروف هذا الطوق الصحي الذي يدوم لشهر وعشرة أيام: "ولهم في ذلك تشديد كثير، حتى أن الذي يأتي إلى صاحب الكرنتينة بالطعام يطرحه له من بعد، ويحمله الآخر ولا يتماسان. وإن ورد عليهم بكتاب، ذكروا أنهم يغمسونه في الخل بعد أن يقبضوه منه بقصبة".

بدعة "الكرنتينة"

يورد البزاز في كتابه هذا عن "الأوبئة" مغربيا آخر ذكر هذه "الكرنتينة" وإن بالكثير من التذمر والسخط، إذ نقل عن المؤرخ الزياني أنه سنة 1794 كانت "السفينة التي تقله مع عدد من الحجاج والركاب الأتراك والمسيحيين لم يسمح لها بحرية الدخول إلى ميناء تونس إلا بعد قضاء حجر صحي لمدة عشرين يوما". إذ اعتبر هذا المؤرخ الذي كتب "الترجمانة الكبرى" أن هذا الإجراء "مخالف للشريعة"، إذ كتب: "بعد يومين، جاءنا الإذن بالنزول إلى الكرنتينة الشنعا الممنوعة عرفا وشرعا''. وأردف بسخط وتذمر من هذا الإجراء الوقائي: "وأنزلونا بقلعة تيكي وسط البحر بقصد بدعة الكرنتينة التي جعلوها دفعا للوباء قبح الله مبتدعها".

ويورد الباحث في المرجع المشار إليه آنفا، أنه رغم مرور عقود على اعتماد الدول لهذا الإجراء الاحترازي، بقي الكثير من المغاربة متذمرين من هذا الحجر الصحي، عندما يصطدمون بها في أسفارهم إلى الحج أو إلى أي مكان آخر أثناء الطواعين والجائحات التي تجتاح العالم بين الفترة والأخرى. إذ إن العربي المشرفي في 26 يناير 1841 عاين هذا الإجراء الاحترازي بمصر في طريقه إلى الحج، فوصف "الكرنتينة" التي تتم تحت إشراف الهيئة القنصلية الأجنبية بقوله: "نعوذ بالله من هذا الاعتقاد فلا يموت ميت دون أجله". وهو ما يزكي الاعتقاد الراسخ لدى الكثير من المغاربة القدامى والحاليين بأن الأعمار بيد الله، وأن لكل شيء أجل ولا ضرورة لأي إجراء.

تحريم الطوق الصحي

الأمين البزاز الذي ألف كذلك كتابا بعنوان "المجلس الصحي الدولي في المغرب 1792/1929"، وفيه تحدث عن هذا المجلس الذي كان يشتغل كدركي صحي، أورد أن الفقهاء المغاربة كانت لهم آراء في هذه "الكرنتينة" بعد أن بدأ المجلس الصحي الدولي الذي كان يتكون من قناصلة الدول بطنجة، بتطبيق الطوق الصحي في المغرب بالتنسيق مع السلاطين المغاربة، فقام بعضهم بإصدار فتاوى بتحريم هذه التدابير، ومنها ما أوردها البزاز نقلا عن الناصري: "فالحاصل أن الكرنتينة اشتملت على مفاسد كل منها محقق، فتعين القول بحرمتها، وجلب النصوص الشاهدة لذلك من الشريعة لا تعوز البصير".

وتعليقا منه على بعض التدابير التي أوصى بها أحمد المنصور السعدي ولده أبا فارس عند ظهور الطاعون في عهده بمراكش، كتب الناصري: "وقع في كلام المنصور رحمه الله أمران يحتاجان إلى التنبيه عليهما: الأول إذنه لولده أبي فارس بالخروج من مراكش إذا ظهر بها أثر الوباء، وهذا محظور في الشرع كما هو معلوم في الأحاديث.

وزاد صاحب "الاستقصا" متحدثا عن الأمر الثاني الذي يود أن ينبه إليه المنصور السعدي: "أَمْرُهُ إياه ألا يقرأ البطائق الواردة عليه من سوس، حيث ظهر الوباء، وإنما يتولى قراءتها كاتبه بعد أن تغمس في الخل، وهذا عمل من أعمال الفرنج ومن يسلك سبيلهم في تحفظهم من الوباء المسمى عندهم بالكرنتينة".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى