عبد الجواد السقاط - مع القصيدة الحرة في المغرب في طور شبابها

عرف الشعر العربي منذ نشأته إلى اليوم مراحل عديدة من التلون والتطور، وأشكالا شتى من التقلبات والاتجاهات: إذ في كل مرحلة يسفر الإبداع العربي عن نموذج يبدأ وليدا في أول الأمر، فيتعهده المبدعون بالعناية والاهتمام، ويدافعون عنه إلى أن يستوي قائما على قدميه، ويفرض نفسه في الساحة الإبداعية، سواء تعلق الأمر بالبعد المكاني أو البعد الزماني، ثم يرى النور بعد ذلك وليد جديد يخضع للتعهد والاهتمام ذاتهما، ويحقق من الذيوع والانتشار ما يجعله فنا جديرا بالتاريخ والدراسة، وهكذا دواليك.
وفي هذا الإطار مثلا، نشأت القصيدة الخليلية، واستمر المبدعون يرعونها بالحب والرعاية إلى أن اشتد عودها وقوي ساعدها في العصر الجاهلي،وأخذت من التلونات والاتجاهات ما صبغها بالتميز والتفرد في العصور الموالية، ثم نشأت الموشحات كوليد آخر وجد من المبدعين من تولاه بالاحتضان والعطف، سواء في الأندلس أو في المغرب أو في المشرق، إلى فرض وجوده كنمط من التعبير له أعلامه ومريدوه واتجاهاته وخصائصه، وتسلل إلى كتب المؤرخين والدارسين، بعدما كان منهم من يتحرجون من إدراجه ضمن مصنفاتهم.
وهكذا كان الأمر بالنسبة لألوان أخرى من الأنماط التعبيرية الشعرية، وفنون شتى من الإبداع الأدبي بوجه عام، بدأت شابة غضة العود، ثم قويت وتمكنت من نفسها، إلى أن ظهرت على بعضها ملامح الشيخوخة والهرم، بينما بقي بعضها الآخر مغالبا عجلة الزمن، صامدا رغم ما يختزنه من رصيد الأجيال والحقب.
ولعل الوليد الجديد الذي أود أن أقف عنده قليلا في هذه السطور، وخاصة في الإبداع المغربي، والذي لا زال في طور شبابه وفتوته، هو القصيدة الحديثة، أو القصيدة الحرة، باعتبارها لم تر فجر الحياة إلا في أوائل الأربعينات من القرن العشرين.
وإذا كانت الدراسات الأدبية المعاصرة متفقة، أو تكاد، على أن المهد الذي احتضن ميلاد أول قصيدة من هذا النمط الحر هو العراق، وذلك عام 1947م عندما نشرت الشاعرة نازك الملائكة قصيدتها بعنوان "الكوليرا" مصورة مشاعرها نحو مصر عندما حل بها الوباء على غرار قولها:
طلع الفجر
اصغ إلى وقع خطى الماشين.
في صمت الفجر، أصغ، أنظر ركب الباكين
عشرة أموات، عشرونا.
لا تحص، أصخ للباكين
إسمع صوت الطفل المسكين
موتى، موت، ضاع العدد
موتى، موتى، لم يبق غدُ
في كل مكان جسد يندبه محزون
لا لحظة إخلاد لا صمت
هذا ما فعلت كف الموت
الموت،الموت، الموت
تشكو البشرية تشكو ما يرتكب الموت(1).
أقول: إذا كان الاتفاق شبه قائم على أن العراق هو الرحم الذي أنجب هذا المولود الجديد، وأن نازك الملائكة هي الوالد الشرعي له، فإنني أعتقد أن هذه الأبوة مغربية وليست مشرقية، وأن الانطلاقة الأولى جاءت من الشاعر المرحوم علال الفاسي الذي سبق نازك الملائكة إلى الكتابة الشعرية على نمط الشعر الحر، ودليلي على ذلك قصيدة "النجوم" التي كتبها عام 1942م، والتي جاء فيها:
النجوم
فيها فؤادي يهيم
والكواكب
تبدو بشكل المواكب
تسير سير المراكب
في بحرها المتذاهب
في القبة العلياء
في لازوردي السماء
ذات السنا والسناء
تبدو كمثل المرائي
في عالم الأحلام
ودهشة الإبهام(2).
بل إن الإرهاصات الأولى لهذا الوليد ظهرت عند الشاعر علال الفاسي كذلك منذ عام1933م وهو إذ ذاك لا يزال في ريعان شبابه، حيث نظم قصيدة بعنوان" أغرودة مشتاق" من مجزوء الكامل أولها:
لا ترقبيني في الحديقة فوق سقف الياسمين
في مجلس كنا به نلتذ بالقرب المكين
لا ترقبيني إنني لا أستطيع زيارتك
فابقين(3) وحدك واسمحي لي أن أسبب وحدتك(4).
ولكنه في ثنايا القصيدة نظم بيتين تصرف فيهما في التفعيلة الرابعة من البيت، إذ نقلها من "متفاعلان" إلى "فاعلان".
في ساعة نام الخلي وسهَدَ المشتاق
والتذ ذو وصل وحق لمثلنا الإشفاق
ليعود بعد ذلك إلى التزام مجزو الكامل دون تصرف كأن يقول مثلا:
في ساعة عم الهدوء الكون في أنحائه
وتشابهت ألوانه فمياهه كسمائه
وقد علق محقق الديوان على هذه القصيدة بقوله:" وهي منشورة في مجلة السلام لداود، ع3س 1933،وقد نشرت أول مرة على طريقة الشعر الحر هذه"(5).
ويبدو أن الشعراء المغاربة، وقد طرق سمعهم صراخ الوليد الصغير، لم يتجاوبوا جميعا مع هذا الصراخ، إذ نجد بعضهم يعزف عنه عزوفا كاملا كالشاعرين محمد الحلوي في ديوانه" أنغام وأصداء"(6). وعبد المجيد بن جلون في ديوانه"براعم"(7).بينما نجد من الشعراء من أصاغوا السمع واستلذوا الصراخ، فراحوا يوقعون على أنغامه توقيعا يختلف صخبا وهما بين شاعر وآخر، كأن نقف مثلا في ديوان الشاعر مصطفى المعداوي(8).على ست وعشرين قصيدة على طريقة الشعر الحر من مجموع خمس وأربعين قصيدة، بينما لا نقف في ديوان"لوحات شعرية"(9) للشاعر عبد الله كنون إلا على قصيدتين اثنتين من مجموع أربعين قصيدة.
على أننا نجد من الشعراء من تأثروا بالطريقة الجديدة، ولكن ليس في اختلاف عدد التفعيلات وعدم احترام وحدة القافية، وإنما في الكتابة والرسم فقط، كما نلاحظ في ديوان "نجوم في يدي"(10)
للشاعر محمد الحبيب الفرقاني، إذ نجده يرسم أبياته على الشكل الآتي:
غام الصباح البكر وارتجف الضياء على النجود
إني زرعـــت مع النسيم الحـــــــر
أكوام الوعـــود رويتها ألق العــــيون
وصنتها عبث القـرود يا موســــــــما
في الصـــيف ينتظر المرابع أن تعـود
المنجل اللهفــان يحصد في الربى كل الورود(11).
وهذه أبيات لو أننا أعدنا رسمها على الطريقة الخليلية المعهودة لوجدناها لا تختلف عن القصيدة في شيء:
غام الصباح البكر وارتجف الضياء على النجـوم
إني زرعت مع النسيــم الحر أكوام الوعـود
رويتها ألق العيـــون وصنتها عبث القرود
يا موسما في الصيف ينتظر المرابع أن تعـــود
المنجل اللهفان يحصــد في الربى كل الـورود
ولعل الشاعر متأثر في هذا ببعض المشارقة كالشاعر نزار قباني في نماذج كثيرة منها قوله من قصيدة:
أيظن؟
أني لعبة بيديه
أنا لا أفكر
في الرجوع إليه
اليوم عاد...
كأن شيئا لم يكن
وبراءة الأطفال
في عينيه...(12)
فقد نكتب الأبيات كالآتي:
أيظن أني لعبة بيديــــه أنا لا أفكر في الرجوع إليه
اليوم عاد كأن شيئا لم يكـن وبراءة الأطفال في عينيـه
ومهما يكن من أمر، فإن الصراخ يزداد اتصالا وانتشارا، والوليد يزداد ترعرعا ونموا، والمواهب الشابة تزداد احتضانا له في عطف ودفء، في مواكبة لما عرفه المشرق العربي كذلك ولا يزال، من احتضان واسع لهذا اللون من التعبير، تجلى في دواوين وقصائد مجموعة من الشعراء أمثال نازك الملائكة، وبدر شاكر السياب، وعبد الوهاب الباتي، ونزار قباني، ومحمود درويش، وغيرهم كثير، ككثرة شعرائنا المغاربة الشباب الذين أوسعوا لهذا النمط في إبداعاتهم، بل كادوا يقتصرون عليه أو اقتصروا فعلا، والذين لا زالوا يوالون، من مختلف مناطق المغرب، نشر قصائدهم، وإصدار دواوينهم التي تدعم هذا الاتجاه الجديدة للقصيدة السعرية العربية، كديوان"الحب مهزلة القرون"لمحمد عنيبة الحمري(13)، و"أصنام الشر" لمصطفى الزباخ(14)، و" أعاصير الحزن والفرح" لعبد اللطيف بنيحيى(15)،و"حينما يورق الجسد" لرشيد المومني(16)، ودواوين عبد الله زريقة" رقصة الرأس والوردة"(17)،و ضحكة شجرة الكلام(18)،و"زهور حجرية"(19)،و"تفاحة المثلث"(20)،و"فراشات سوداء"(21)،وديوان" ويكون إحراق أسمائه الآتية"لمحمد السرغيني(22)، و"رماد هسبريس" لمحمد الخمار الكنوني(23)، واللائحة أطول مما يمكن حصره في هذا المقال المحدود، بما في ذلك الأقلام النسوية أمثال الشاعرة مليكة العاصمي صاحبة" كتابات خارج أسوار العالم"(24).
وهكذا يتضح أن الجنين الذي رأى النور في المغرب مع إطلالة الأربعينات أو قبلها بقليل، قد دبت الحياة في كيانه يوما بعد يوم، وسرت في عروقه دماء الاستمرار والدعم إلى أن أصبح اليوم شابا يافعا له من المؤهلات والمقدرات ما يجعله ظاهرة لا يمكن تجاهلها أو التنكر لها، وفي الوقت ذاته، ما يسمح للدارسين والمهتمين بتتبعه دراسة وتنظيرا، وخاصة أولئك الذين يمارسونه بالفعل، كما صنع محمد بنيس في كتابه" ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب"(25)،وعبد الله راجع في كتابه:" القصيدة المغربية المعاصرة: بنية الشهادة والاستشهاد"(26).
***
ولعله يحسن بنا، ونحن نرافق هذه القصيدة الحرة في طور شبابها، أن نقف على بعض مواصفاتها ومميزاتها، وأن نعترف إلى حد يمكن اعتبارها عضوا منسجما أو غير منسجم مع باقي أعضاء الأسرة الشعرية ببلادنا.
* ولعل أول هذه المواصفات تتمثل في كون معظم شعرائنا المغاربة الشباب، وهم يتوسلون بهذه الطريقة الفتية الجديدة، كانوا ينظرون إلى أعلامها في المشرق العربي، ويسلكون بعض مسالكهم بين الحين والحين وهي ظاهرة تنتصب أمامنا في مجلات متعددة يمكن أن نتبين أحدها في المقارنة بين قصيدة للشاعر المغربي مصطفى المعداوي بعنوان"طوق الياسمين" إذ نلتمس بوضوح ما يجمع بينهما من تشابه وتقارب، وخاصة على مستوى الصياغة، يقول مصطفى المعداوي في قصيدته:
وبدوت لي
في ذلك الثوبب الثمين
تتدللين وترغبين
تتمايلين فتِلمين
ماذا دهاك. وما دعاك إلى الجنون
أو لم تكوني ترغبين
في ذلك الحي الجميل وقرب باب المعوزين
ولزمت جنبي تمرحين وتكثرين
من وشواشات الشوق والحب الدفين
حبي المضمخ بالحنين
وسألت يا حلمي الغزير
عن شعري المنساب في الشط الكبير
ألا قرأت قصائدا أخرى عن الحب الصغير
حبي المضمخ بالعبير(27)
ويقول نزار قباني في قصيدته:
وجلست في ركن ركين
تتسرحين
وتنقطين العطر من قارورة وتدمدمين
لحنا فرنسي الرنين
لحنا كأيامي حزين
قد ماك في الخف المقصب
جدولان من الحنين
وقصدت دولات الملابس
تقلعين وترتدين
وطلبت أن أختار ماذا تلبسين
أفلي أنا تتجملين؟(28)
*وثانية هذه المواصفات تتجلى في استلهام التراث الشعري أحيانا، بل تضمين بعض مقاطعه أو أبياته في القصيدة الحرة، بما يقرضه هذا التضمين على الشاعر من التزام وزن المقطع المستلهم وقافيته؛ وقد نمثل لهذا بمقطع مع قصيدة حرة للشاعر محمد بن عمارة بعنوان:" بداية الوقت الجمعة" ضمنه قول الحلاج:
أرى قدمي أراق دمي
فقال:
أرى قدمي أراق دمي
يريد العابت العدمي
فأرسم من معانيها
حروف النار والألم(29)
وقد نمثل له كذلك بجزء من قصيدة حرة للشاعرة مليكة العاصمي ضمنته بيتا من القصيدة المشهورة المعروفة بالمنفرجة وهو:
اشتـــدي أزمــة تنفرجــي قد أدن صبحــك بالبـــلــج
فقالت:
غضب، حمم، سخط، نار
لم يثن العود عن العوج
طالت أيام القهر وقد
شد المحلاج على الحلج
وتقاذف في الشام التاريخ وهم به الطوفان يجي
الأرض إذا أمست حملت
من بعلها بالطيب الأرج
" اشتدي أزمة تنفرجي قد آذن صبحك بالبلج(30)
وثالثة هذه الواصفات ما نلاحظه أحيانا من مزج بين أسلوب الشعر الحر وأسلوب الشعر الخليلي في القصيدة، وقد نعزوها إلى أن بالقصيدة بهذه الصورة تعتبر انعكاسا للحياة المعاصرة التي أصبحت مزيجا من المتناقضات والمتغيرات.
وفي هذا الإطار نشير إلى قصيدة للشاعر حسن الطريبق بعنوان"اثنان" جاءت بعض مقاطعها على أسلوب الشعر الحر، بينما جاءت مقاطعها الأخرى على أسلوب الشعر الخليلي:
تناجي الوالهان المغرمان بلا انتهاء تضامن حلو
فضمهما إليه المشتهى في أنسه العلوي
حتى احتوى ما في لقائهما التساؤل في تمازج جد همسهما مع اللهو
فمــاذا قد يكــون لديهمــا أشهــى مــن الأنـــس
ســوى مسعاهمــا المخبــوء فــي مستــودع النفــس
مصابيح من الأفراح قد عادت بها لهما من النشوات أشتات تكتم في مقيلهما من الخفقان مختلف ومؤتلف، وكشف عنه عندهما شعور ليس منه الآن إفلات.
علــى مسعاهمــا يدنــو التبتــل هائـــــم النبـــــض
فخالطــه حريرهمـــا المضـــوع فـــي شـــذا الــروض(31)
*ورابعة هذه المواصلات تكمن فيما نلحظه في بعض القصائد الحرة من تجديد في رسم كلماتها يجعلها ذات هندسة لا تستند إلى نظام موحد، وإنما يعطي الشاعر لنفسه الحرية المطلقة لاختيار الهندسة التي يستطيبها، وهي ظاهرة كذلك قد نعزوها إلى ما أصبح يطبع الإنسان في عصرنا الحالي من ميل إلى الاستقلالية والتفرد حينا، والعزوف عن التقيد والمحاكاة حينا آخر. وفي هذا المضمار نسجل قصيدة للشاعر أحمد بلحاج آية وارهام بعنوان:
" مراكش ... احتراق بالظلام" جاء فيها:
نجيع مشوق
وأشواق من سكرتي رؤيتس
عصور الملائك – مولاي- غاضت
وفاضت
(ولم تغتمض)
أعصر الظلة
رحيلي نزيف
أكابر فيه
فيكتبني فوق بابك
حرفا
فحرفا
فحرفا
إلى آخر اللوعة
وكفك تطبعني
نجمة نجمة نجمة(32).
*وخامسة هذه المواصفات تظهر فيما أصبحت تنحو نحوه القصيدة الحرة أحيانا من قصر في نفسها واقتضاب في عدد أبياتها، مكتفية بتسجيل لقطة عابرة خاطفة، بعيدا عن الإطالة والإطناب. ولعل في هذا المنحى أيضا ما يربطنا بواقع العصر الحديث، ذلك الواقع الذي أصبح ميالا إلى السرعة في كل شيء، والذي ترجم بعض شعرائنا الشباب هذا الميل في قصائدهم وأعمالهم الإبداعية، فبعدما كانت القصيدة العربية ذات نفس طويل قد يتجاوز الألف بيت كما هو الشأن بالنسبة لمعلقة عمرو ابن كلثوم مثلا، أصبحت القصيدة الحرة، وعند بعض الشعراء طبعا، لا تتجاوز أبياتا قليلة توف لها مجموعة من العناصر كالإيجاز والوحدة الموضوعية وما إليهما. لعل هذه الظاهرة لم تمس الجانب الشعري فحسب، وإنما مست كذلك الجانب النثري، وخاصة منه ميدان القصة، القصيرة أو الأقصوصة، إلى القصيصة، حتى أصبحنا نجد من يكتب أقصوصة في دقيقة(33). وقد أكتفي للتدليل على هذه الظاهرة في الشعر الحر بقصيدة للشاعر محمد الطوبي بعنوان:" اللؤلؤة" جاءت كالتالي:
امرأة في السرير
بذراعين من مرمر
وبيادر صدر يوزع نعمته
للجياع العصافير، ساق تجوع
لتغدق وهج مباهجها في فضاء عسير
في السرير امرأة...
شبق، نار عمر، خراب يسود بهاه
وعاشقها يتشرد بين أعالي النشيد
وبين سيوف هواه...
ليهوي على كفها لؤلؤة...(34)
*وحتى لا أطيل في استعراض المواصفات كلها اختمها بسادسة هي أقرب إلى احتذاء نهج تقليدي منها إلى النزوع نحو الجدة والابتكار، ويتعلق الأمر بما يمكن أن يصطلح عليه بالقصيدة المشتركة، التي ينظمها أكثر من شاعر. ولعل هذا يذكرنا بالمسجلات الشعرية التي عرفها الشعر العربي سواء في المغرب أو المشرق أو الأندلس، والتي تطفح بها كتب التاريخ والطبقات وغيرها. وكشاهد على هذه القصيدة المشتركة في الشعر الحر بالمغرب، أسوق نموذجا لكل من الشاعرين عبد الرحمن بن علي ومحمد بن عمارة بعنوان " باريس ...باريس"، مما جاء فيها لأحدهما:
ياقوت موانئك جنوبي
وأنا طفل ولدته رياح شتوية...
ومما جاء فيها للآخر:
هل باريس الأنثى قمر
أم باريس هي الأضواء تعرج نحو طريق آخر...(35).
***
وإذا كنا إلى الآن قد تبينا بعض مميزات هذه القصيدة الشابة، واتضحت لنا ملامحها ومعالمها، فإننا مضطرون في أعقاب هذا إلى الوقوف قليلا عند هذا الشعر من زاوية ثانية لعلها تحمل من السلبيات أكثر مما تحمل سابقاتها من الإيجابيات.
ولعل أول ما ينبغي أن يشار إليه في هذه الزاوية هو تحديد مفهوم الشعر الحر، وتطويق بعض مكوناته، وعناصره، وهو المفهوم الذي أصاب بعض شعرائنا الشباب في إدراكه وممارساته، فإن مجموعة أخرى منهم ظلت بعيدة عن هذه الإصابة.
فنحن حين نطرح قضية الشعر الحر ومفهومه، لا نطرحها لتحديد مفهوم الشعر، بل لتحديد مفهوم الشعر الحر،وأعتقد أن الفرق شاسع بين المصطلحين، فالشعر كما يعلم الجميع قسيم للنثر، والفني منه بخاصة، وهو بهذا المعنى لا يختلف عن النثر الفني في وظائفه ومضامينه، بقدر ما يختلف عنه في وسائله وأدواته، بما في ذلك عنصر الإيقاع الموسيقي الذي يعتبر من أهم مكونات الشعر.
صحيح أن الشعر قد خضع لتعريفات عديدة، منها الإغريقي والعربي، ومنها القديم والحديث، ولكنها جميعها تعطي الإيقاع مكان الصدارة في هذا الشعر، وتربطه به في جدلية وتلازم.
ومن هنا مهما تعددت طرائق التعبير الشعري، واختلفت أنماطه وأساليبه، من قصيدة خليلية وموشحة وأرجوزة ومنمط وزجل وما إليها، فإن الإيقاع يبقى ملازما لكل شكل من هذه الأشكال، لا ينبغي تجاهله أو التغاضي عنه، ولا شك أن الشعر الحر، وهو واحد من هذه الأشكال والوجوه، لا بد أن يحافظ هو بدوره على الإيقاع، وإلا لفقد بذلك عنصرا مهما من عناصره ومكوناته.
وبالتالي فالشعر الحر تصرف جديد في الأوزان العروضية وفي القوافي، استمرارا لما فعله بعض الشعراء منذ مبدعي الموشحات إلى شعراء المهجر وجماعة "أبولو" مثلا، ولكنه ليس تحللا من الوزن والقافية تماما كما يتوهم البعض، ولعلي هنا ألفت نظر هؤلاء إلى مقولة الدكتور عبد الهادي محبوبة وهو يقدم لكتاب" قضايا الشعر المعاصر" لنازك الملائكة: " الوزن والقافية ليسا قيدين في الشعر من حق الشاعر أن ينطلق ويتحرر منهما، وإنما هما خاصتان من أهم خصائص الشعر الجيد ليتميز بهما عن النثر الفني..فهي- حركة الشعر الحر- دعوة إلى الحرية في اختيار الأوزان العروضية لا التحرر منها أو التحريف فيها اعتقادا منها بأن الوزن ظاهرة موسيقية لا يتخلى عنها الشعر إلا ويستحيل نثرا"(36): وكذلك ألفت نظرهم إلى مقولة الشاعر عبد الوهاب البياتي:" التجديد في الشعر لسي ثورة على العروض والأوزان والقوافي، كما خيل للبعض، بقدر ما هو ثورة في التعبير"(37).
الشعر الحر ثورة على القصيدة التقليدية التي ورثناها، كما يقول الشاعر نزار قباني:" بأغراضها المعروفة وأبياتها الملتصقة ببعضها التصاقا صنيعا كقطع الفسيفساء"(38) والتي هي في رأيه" إلى الزخرف والنقش أقرب منها إلى العمل الأدبي المتماسك الملتحم كقطعة النسيج"(39)، بينما القصيدة الحرة في اعتقاده" أشبه بديكور حجرة صغيرة وزعت مقاعدها ولوحاتها وأوانيها بشكل ربما لا يوحي بالثراء الفاحش، ولكنه يوحي بالدفء والألفة"(40).
الشعر الحر ثورة على القصيدة التقليدية التي تتعصب، حسب نزار قباني، إلى لغة الأغاني والعقد الفريد، ودعوة إلى الاعتقاد أن لغة التداول اليومي" بكل حرارتها وزخمها وتوترها هي لغة الشعر، وأن الكلمة الشعرية هي الكلمة التي تعيش بيننا...في بيوتنا ... وحوانيتنا...ومفاهيمنا... لا الكلمة المدفونة في أحشاء القواميس"(41). وبغض النظر عن مدى إصابة نزار قباني وصدقه في دعوته، أو عدم إصابته وصدقه، فإن الشعر الحر ثورة، ولكن ليس على الإيقاع.
الشعر الحر ثورة على بناء فني قديم، استمر أمدا طويلا، وحل محله" بناء فني جديد" واتجاه واقعي جديد، جاء ليسحق الميوعة الرومانتكية وأدب الأبراج العاجية، وجمود الكلاسيكية"(42)، ولعل في هذا السياق يمكن فهم قول أدونيس:" الشعر خرق مستمر للقواعد والمقاييس"(43).
الشعر الحر ثورة على التقاليد القديمة والأعراف التي مر عليها زمن طويل، وعلى الحفاظ عليها كما ظهرت في أول الأمر، بل ينبغي التصرف فيها وجعلها مسايرة للتطور المتجدد، وهنا أسوق قول نازك الملائكة في الموضوع:" نحن عموما ما زلنا أسرى، تسيرنا القواعد التي وضعها أسلافنا في الجاهلية وصدر الإسلام. ما زلنا نلهث في قصائدنا ونجر عواطفنا المقيدة بسلاسل الأوزان القديمة، وقرقعة الألفاظ الميتة، وسدى يحاول أفراد منا أن يخالفوا، فإذ ذاك يتصدى لهم ألف غيور على اللغة، وألف حريص على التقاليد التي ابتكرها واحد قديم أدرك ما يناسب زمانه...كأن الشعر لا يستطيع أن يكون شعرا إن خرجت تفعيلاته على طريقة الخليل"(44). والملاحظ أن نازك الملائكة تتمسك في موقفها هذا بالتفعيلة كوحدة ضرورية في البيت الشعري الحر، على أن تطرح هذه التفعيلة بطريقة أخرى غير التي اعتمدها الخليل من قبل.
الشعر الحر إذن ثورة على كل هذا، ولكنه ليس ثورة على الإيقاع وزنا وقافية، إنه تصرف جديد في هذا الوزن وتلك القافية: إنه اعتماد نظام التفعيلة بدل نظام البحر.
ولعلنا بعد هذا التحديد المقتضب لمفهوم الشعر الحر،نعود إلى إنتاج بعض شعرائنا الشباب، فنجد أصحابه محتاجين إلى مراجعة منطلقاتهم وتصوراتهم حتى يكون إنتاجهم إضافة جيدة تخدم الإبداع في بلادنا وتنسجم مع الصيرورة الطبيعية للقصيدة الحرة التي لا تزال في طور شبابها، والتي هي بحاجة إلى من يحسن توجيهها وتعهدها حتى لا تصاب بما قد يعرضها للضعف والقصور.
فمما يجب التنبيه عليه أن العرب – وهذه من خصائص لغتهم- لا يقفون على متحرك ولا يبدأون بساكن، وحبذا لو عمل الشعر الحر على تكريس هذه الخاصية التي بتجاوزها يفقد التعبير إيقاعه وتناغمه. فقد جاء في قصيدة بعنوان" امرأة من أقصى الريح":
أيقظت شجر الأرض ثم
استحمت بماء الغدير(45)
ولعل الانتقال من "ثم" في نهاية البيت الأول إلى "استحمت" في بداية البيت الموالي مما يحدث ثقلا في النطق وبعدا عن التناغم والإيقاع، ولعل لقائل أن يقول: لا داعي للتوقف عند "ثم" فالاستهلال ب" استحمت" بل يحسن أن يقرأ البيان متصلين؛ ولعلي في هذا الاعتراض أقول: ولماذا والحالة هذه لا يكتب البيتان معا في سطر واحد:
أيقظت شجر الأرض ثم استحمت بماء الغدير.
ولعل هذا الفصل المتعسف بين المتحرك والساكن، يسلمنا إلى فصل متعسف آخر، يتمثل هذه المرة في جعل التفعيلة الواحدة قسمين اثنين، يسجل أحدها في آخر البيت بينما يسجل الثاني في أول البيت الموالي، ومثال ذلك قصيدة بعنوان" الغربة " نظمها صاحبها على تفعيلة"فَعِلُنْ" صحيحة مرة ومضمرة أخرى، ومرة ثالثة، وفيها يقول:
في الشارع أنت غريب
في الدرب غريب
وغريب في المعمل في المتجر
في مقعدك المامون وأنت هنا
تسمع أو تقرأ هذي الأشعار
غريب في البيت وأنت تجالس
شتاتك الفاجرة الصوت
الفاسفة الصوره(46)
فلو تأملنا المقطع، وأردنا أن نحافظ لكل بيت منه على إيقاعه وتناغمه، لجمعنا بين" ت هنا " في قوله وأنت هنا وبين "تـ" في قوله تسمع، وبين"ر" في لفظة الاشعار وبين" غريـ" في لفظة غريب، وكذلك الأمر بالنسبة ل "لس" في كلمة تجالس و"شا" في كلمة شاشتك، ونفس الشيئ مع "تـ" في لفظة الصوت و"الفا" في لفظة الفاسقة؛ ولعل هذا يتبين أكثر من خلال التقطيع الآتي:
فَعْلُنْ فَعِلُنْ فَعِِلاَنء
فَعْلُنْ فَعِِِلاَنْ
فَعِلُنْ فَعْلاََتُنْ فَعِلُنْ فَعْلُُنْ
فَعْلُنْ فَعِلُنْ فَعْلُنْ فَعِلُنْ [ فَعِلاَ
تُنْ] فَعِلاَتُنْ فَعِلاَتُنْ فَعِلُنْ [ فَ
ـعلُِنْ] فَعْلاَتُنْ فَعِلُنْ [فَعِـ
ـلُنْ] فَعِلاَتُنْ فَعِلاَتُنْ [ فَ
ـعْلُنْ] فَعِلُنْ فَعْلُنْ
ومما ينبغي التنبيه عليه كذلك أن التفعيلة في الإيقاع الشعري تتكون من سبب ووتد وفاصلة، وأن الفاصلة إما صغرى أو كبرى، ولكنها في الشعر العربي لا تأتي إلا صغرى أيا كان البحر الذي ي يركبه الشاعر، في حين أن الفاصلة الكبرى لا يؤتي بها لما تحدثه من قلق واضطراب في الإيقاع الموسيقي للتفعيلة، ولعل بعض شعرائنا الشباب يتجاوزون هذه الخاصية، ويكثرون من استعمال الفواصل الكبرى، أعني أربع متحركاتهم إلى خمس أو أكثر. وشاهد ذلك مثلا مقطع من قصيدة بعنوان:" طائر الموت" جاء فيه:
من يطير بعيدا عني؟
لكي لا أدع هذي اليد تخنقني
أقول: الهواء يسيجني
والجليد يتحسس جسدي(47)
وحتى لا أطيل كذلك في طرح مثل هذه التصويبات، ولعلها كثيرة، أختم بالإشارة إلى ما يتحمله بعض شعرائنا الشباب من إضفاء مصطلح"شعر" على ما هو أقرب إلى النثر منه إلى الشعر، إن لم أقل إنه نثر بالمعنى المتداول لهذا المصطلح، لولا بعض التغييرات الطفيفة التي يعمدون إليها كحذف عناصر الربط بين بعض الجمل مثلا. وهنا أسوق نموذجا من قصيدة بعنوان:" كتاب البحر" جاء فيها:
يفاجئني مخاض القيء
في رحاب داك النزل الفسيح
يفرغ في الأرض قارورة الماء رفيقي
أنبطح متوغلا في عرقي المدوخ بالهلوسات الطرية مازجا بين سعالي المنهوك ورحلة الزغب المسيج بين سعالي المنهوك ورحلة الزغب المسيح ساقي، أراه الآن يضحك مثل أمومة عطفت عليها سواقي المطر قطرة قطرة، يتمدد خيط من نبيذ ساحلي يجر جره رفيقي حيث النشيد الأخير لهذي الصلاة، يفرقع باب المحل الشهير بعنف الطفولة/ يحبو إليه بذعر شرطي الحراسة يسأله قبسا من نار، يصير المكان دخانا...
***
وهكذا إذن يتضح أن هذه القصيدة الشابة في بلادنا لم تخرج عن مثيلتها في المشرق العربي من حيث هي انعكاس لواقع جديد، و دعم لبناء فني جديد جاء ليربطها بواقع تسوده السرعة، وتملأ المتناقضات، وتعم فيه الرغبة الجامحة نحو الاستقلالية والتفرد، ولكنها- أي القصيدة الحرة بالمغرب- محتاجة إلى شيء غير قليل من الاتزان والنضج، حتى لا تجمح بها رغباتها نحو التطور والتجديد إلى مسالك التهور والتحلل من القيود التي ليست قيدا في حد ذاته، ولكنها إطار محدد يحافظ لهذه القصيدة على استمراريتها ودوامها، ويسمح لها، وهي في طور شبابها، أن تعمل على مد عمرها واتصال مراحل حياتها. وعسى أن يهب لها بعض شعرائنا الشباب ما يساعدها على مد هذا العمر، واتصال أسباب الحياة والاستمرار.

1)قضايا الشعر المعاصر لنازك الملائكة مكتبة النهضة بغداد 1965 ص 24.
2)المختار من شعر علال الفاسي إعداد اللجنة الثقافية لحزب الاستقلال مطبعة الدار البيضاء 1976 ص.105
3) هكذا في الأصل والأصوب نحو أن يقول: فابقى، ولعله تجوز خاضع لضرورة الوزن
4) ديوان علال الفاسي جمع وتحقيق عبد العلي الودغيري، مطبعة الرسالة الجزء الأول ص 190.
5) نفس المرجع والجزء والصفحة.
6)صدر عام 1965.
7)صدر بدون تاريخ.
8)صدر بدون تاريخ.
9)صدر عام 1966.
10) صدر عام 1965.
11) نجوم في يدي دار النشر المغربية، الدار البيضاء 1965 ص 69.
12) ديوان حبيبتي ، منشورات نزار قباني ، الطبعة الرابعة 1967، ص 76.
13) صدر عام 1968 14)صدر عام 1972
15)صدر عام 1972 16)صدر عام 1973
17)صدر عام 1977 18)صدر عام 1981
19)صدر عام 1983 20)صدر عام 1985
21)صدر عام 1987 22)صدر عام 1986
23)صدر عام 1987 24)صدر عام .......
25) طبع للمرة الأولى بدار العودة، بيروت ثم طبع للمرة الثانية
26)صدر عام 1987
27)ديوان مصطفى المعداوي، دار الكتاب، الدار البيضاء، المغرب، ص .14
28)ديوان قصائد، مطابع دار الكتاب، بيروت 1961 ص 112.
29) الملحق الثقافي لجريدة العلم، السبت 9 ماي 1987.
30) الملحق الثقافي لجريدة العلم، السبت 9 ماي 1987.
31) الملحق الثقافي لجريدة العلم، السبت 16 يناير 1988
32) الملحق الثقافي لجريدة العلم، السبت 18 أكتوبر 1986.
33) القصاص المغربي إبراهيم بو علو على سبيل المثال.
34) جريدة العلم، الجمعة 11 دجنبر 1987.
35) الملحق الثقافي لجريدة العلم، السبت 13 فبراير 1988
36) قضايا الشعر المعاصر، المقدمة، ص 14
37) تجربتي الشعرية للبياتي، مطبعة دار الكتاب، بيروت،1968 ص 38.
38) الشعر قنديل أخضر لنزار قباني مطبعة دار الكتاب بيروت 1964 ص .30
39) الكتاب نفسه ص، 30.
40) الكتاب نفسه ص، 31.
41)بدر شاكر السياب لإحسان عباس، دار الثقافة، بيروت 1972 ص 136.
42) زمن الشعر لأدونيس دار العودة بيروت 1978 ص 312.
43)ديوان شضايا ورماد لنازك الملائكة مطابع دار الكتاب، بيروت 1959 المقدمة، ص 7.
44) عيسى ادريس الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي الأحد 21 شتنبر 1986.
45) محمد علي الرباوي، الملحق الثقافي لجريدة العلم، السبت 13 دجنبر 1986.
46) بوجمعة أشفري، الملحق الثقافي لجريدة العلم، السبت 20 ربيع الثاني 1408.
47) أحمد هاشم الريسوني، الملحق الثقافي لجريدة العلم السبت 22 نونبر 1986.

عبد الجواد السقاط


مجلة دعوة الحق
270 العدد
أعلى