ناصر الجاسم - بوح

في البدء: خذوا مني خلاصة أرق ليلة، مشاعر الحب أصبحت عطورًا ميتة في ملابس شتوية مخزنة في دولاب خشبي.

* * *

الطلاء الأصفر الكئيب للجدران الداخلية للمركز الصحي تقشر بفعل الرطوبة، وإهمال إدارة الصيانة، عاملتا نظافة آسيويتان بسحنتيهما المحترقتين ملتصقتين بكتفيهما، وتدعكان الأرضية المبتلة، وتثرثران بهدوء على غير العادة، استلذتْ إحداهما إرجاع ذائبة من ذوائب شعرها كلما أطلتْ من الحجاب المرتخي، كانت تحني ظهرها لتجفيف الأرضية اللزجة بتلك الخيوط البيضاء الغليظة بعد أن تغمسها في المعصرة، وأنوار السقف المستطيلة الموصلة على التوالي تبدد عتمة الممر الطويل.

للصباح في المستشفيات إغرائه وقرفه، فقد أنعشتني رائحة عطر أنشطتْ خياشيمي، التُقطتها من جِيدِ ممرضة تبحر في الممر، متجهة لعيادتها بعدما أنهتْ توقيعها الصباحي، بعدها مباشرة أدار رأسي، وهيج معدتي، منظرُ عينة مكشوفة في يد مريض متَّجَه بها إلى المختبر، كنت حينها أجرّ جسدي المملوء صفرة تفيض بها عيناي الممطرتين حزنًا وتعبًا إلى عيادة الأمراض الباطنية الكائنة في آخر الممر.

وضعتُ يدي على فمي متداركًا التقيؤ، وخائفاً من رؤية الاشمئزاز مرسومًا على سحنتَيْ الآسيويتين المحترقتين، أرى المنظر غصبًا، فأتذكر الرائحة الكريهة للعينة، وتلعبُ كبدي.

وصلتُ العيادة وتعبتْ نفسي أكثر، كان المسنون حريصين على التبكير فشغروا أغلب المقاعد الأولى، جلستُ على آخر كرسي من كراسي الانتظار، كان جاري مسنًا تنطق عيناه وحركته على الكرسي بكل البغض والحقد عليّ، وعلى جيلي، حينما انصرفتْ عيناي عن عيني جاري المسن شعرتُ بهواء التكييف البارد يحدُ من سخونة لحم وجهي، وسخونة شعر رأسي، كنت جالسًا تحت فتحة من فتحات التكييف المركزي المصنوعة من الألمنيوم، والموزعة على غرف المركز الصحي ومرافقهِ كلها.

ظل الدوار في الرأس مشتعلاً، يلازمه إحساس بالثقل، وكبر الحجم، بدا واضحًا لجاري المسن أنني لم أنم الليلة السابقة من خلال جلسة الاسترخاء التي جلستها، كان وجهه ممتلئًا بالشتائم، بالرغم من أنه واضع يديه على سرته يتلوى من الألم!

التكاسل في مراجعة الأطباء عيب نفسي نشأ عندي منذ البلوغ، واستمر معي إلى الآن، وأحيانًا كثيرة أقرر إصابتي بأمراض خطيرة، فأخشى زيارة الطبيب خوفاً من أن يؤكد وجودها في جسمي، فأبقى حاملًا الوهم يروح في النفس ويجيء، حتى يمحوه طول الأجل ويأتي بغيره!.

جاء دوري في الدخول بعدما زحفتُ على كل الكراسي من أقصاها إلى أدناها، فكلما غادر مسن زحفتُ إلى كرسيه، ابتسمتُ عند جلوسي قبالة الطبيب، نوع من البلاهة أحاول التخلص منه ولا أستطيع، تثاءبتُ على الكرسي، وذراعي مكشوفة للممرضة، ومربوطة بشريط بلاستيكي أسود لاصق في نهايته، فسقط مقياس الحرارة من فمي وانكسر، وضعتْ الممرضة مقياس حرارة آخر في فمي وهي كارهة، ثم سجلتْ قراءتيها للضغط ولدرجة الحرارة واختفتْ.

فتحتُ فمي كالمنوم بالمغناطيس، وقلتُ رادًا على سؤال للطبيب: ولدتُ في الصحراء، وظمئتُ في المهد، وسقيتُ مطرًا، ومرضتُ حين كنتُ أحبو على الرمل الأصفر، وداوتني بدوية عجوز بعشبة برية ...

قدمتُ المدينة في سن السابعة، تاركًا أصدقائي من البدو الصغار، وكلاب الصيد التي تحترم أبي كثيرًا، وقذفتْ بي يد أبي المشعرة القاسية صائدة الطيور البرية في مدرسة من مدارس المدينة، وفي السنة الأولى على كرسي الدراسة تضخمتْ كبدي، وانتفخَ بطني واستدار، وحُجِزتُ حجزًا انفراديًا، وأنا طفل، في محجر صحي بائس، أشبه بمقابر اليوم، خرجتُ منه بعد شهر، نصفي العلوي سليم ، ونصفي السفلي مريض ...

في خيمة الشّعر، وعلى جلد الخروف المدبوغ، حددَّ جدي مكان مرضي بطبشورة من الفحم، رسم دائرة بها على بطني المنتفخ، وكواني بمسمار حديد طويل، يقول إنه انتزعه من جدار طين بقرية زارها، كواني كيات متراصات، قدّر مساحتها قبلاً بإصبعين متجاورين من أصابعه الطويلة العريضة ...

ظللتُ أتحدثُ للطبيب ولساني يثقلُ وصوتي يموتُ، في تلك اللحظة كنتُ أنظمُ كلامي المبعثر بإعادته من جديد، بعد تصفيته من الزوائد والحشو، أتذكرُ أنني توقفتُ كثيرًا، وكررتُ كلمات معينة حتى آتي لها برابط أو تابع، وعجزتُ فنمتُ!

صحوتُ من نومي، فرأيتُ وجه الآسيوية المحترق، وهي تنظفُ طاولة الطبيب، ومنشغلة بذائبة شعرها المتنفّسة من الحجاب، والوصفة الطبية مكتوبة وموقعة، يرفرفُ طرفاها من هواء فتحة التكييف الهابط على رأس الطبيب، وماسة لامعة تثبتها، كيلا تطير.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى