أحمد بلحاج آية وارهام - شعر علال المكتوب للناشئة

يُعد الشاعر علال الفاسي من الرواد الأوائل الذين اهتموا بالكتابة للناشئة في المغرب؛ منذ العشرينيات من القرن الماضي؛ ويبرز ذلك من خلال ديوانه الشعري الكبير، ودواوينه الثلاثة: "أناشيد وطنية" و"رياض الأطفال" و"أساطير مغربية ومُعَرَّبَة" التي كرَّسها لهذا الغرض. فمن مقدمات هذه المجموعات نَسْتَشِفُّ الدافع الإصلاحي والتربوي عند علال الفاسي بامتياز، فقد أَوْلَى الجانبَ التربوي – باعتباره الأبجدية الأساس للفعل السياسي والسَّلفي والإصلاحي- أهمية قُصْوَى، إذ به يتم غرس جذور تربية وطنية صحيحة ومتنورة تقطَعُ مع التربية الفاسدة أو التقليدية لِلنَّشْءِ، والتي كانت من بين أسباب الجمود والتخلف والقهر والاستعمار. وإلى جانب هذه الريادة يقف الاهتمام بالوعي التربوي وشؤون التربية والتعليم. فعلال كان زعيما وطنيا فَذّاً، ومربيا كبيرا، وصاحب مشروع مجتمعي رصين وحديث، ومفكراً نَسَقيا شموليا، لا يمكن أن يُفَكِّرَ في فئاتِ وطبقاتِ الكبار، ويترك النَّشْءَ الذي يعيش في ظله مُهْمَلا، فوعيه الوطني الحاد و الأرقى يمنعه من ذلك، ولذلك لا غرابة في اهتمامه بالكتابة للناشئة، فهم خَزَّانُ الوجود، ونبضُ الحياة المتواصل. إن هذا الوعي الذي تَمَيَّزَ به علال هو الذي مَيَّزَهُ منْ كثير مِنَ الشعراء، وَ بَوَّأَهُ السبقَ التاريخي والريادي في هذا المنحىَ. وإذا كان كتابه "النقد الذاتي" بيانَ إصلاحٍ مجتمعي شامل، فإن ديوانه كذلك بيانُ إصْلاَحٍ مجتمعي شامل، لا يفترق فيهما الرجل عن نفسه وفكره ووطَنِيَّتِهِ وَنَسَقِيَّتِهِ وثوابته. فعلال المُفَكِّرُ الناثر هو علال الملهَمُ الشاعر.
سيرتُه تُلخص بذاتها التاريخ الحديث والمعاصر بالمغرب، وشخصيته شخصية سلفية متنورة، فهو قد تلقى السلفية على يد الشيخين: شعيب الدكالي المُتوفَّى سنة 1937 م، ومحمد بن العربي المتوفى سنة 1964م، فتشبَّعَ بها، وصاغ فكره وسلوكه ونضاله على ضوئها وحدَّدَ طريقه في الخدمة العامة على نهجها. لا يخلو وقتُه من جهادٍ في المجال الوطني والسياسي والفكري والإصلاحي والتنويري، فقد ظل يعْمَلُ ويشارك في الحركة الثقافية والتنويرية والوطنية والقومية إلى أن اصطفاه الله إلى جواره سنة 1974 م
ونظرا لنشوئه في بيئة ثقافية هي المنبع الأصيل للوطنية والسلفية، فإن كل نظرياته وآرائه كانت منطلقةً من الدين ومُعتصمةً به – بعد تخليصه من البِدَعِ والشوائب- وصادرةً عن العقل، ومُتَمَثلةً الإِصلاحَ وما ينبغي له، ونازعةً إلى مسايرة التطور والأخذ بالصالح من الحضارة الغربية الذي لا يتناقض وأصول الدين. وقد نَمَّى اشتغالُهُ طوال حياته بالنشاط الوطني قوةَ إحساسه بالوجدان القومي وبشأنِ الكلمة العربية في التعليم والأدب والعلم.
فالشعر المكرس للناشئة أطفالا ويافِعِينَ هو أَرْفَعُ فروع الشعر و أصعَبُها، لأنه يمتلك خصائص تميزه من الشعر المُوجَّه للكبار، رغم أن كلا منهما يمثل أَثراً فنيا يلتحم فيه الشكل بالمضمون والموسيقى باللغة. وهذا الفرع من الشعر يلتزم بضوابط فنية ولغوية ونفسية وجمالية واجتماعية وتربوية، ويهدف إلى تصوير الحياة بالتعبير المتميز، وعرضِ أفكار وإحساسات وأُخْيُولاَتٍ تتفق ومَدَارِكَ الناشئة وميولاتهم ومخيالاتهم.
ولقد قال الشاعر (بابلو نيرودا): "إن الشاعر الذي يفقد الطفلَ الذي يَحْيَا بداخله سيفقد لا محالة شعره"، والشعراء الناجحون في الكتابة للناشئة هم الذين يظل الطفل حيا بدوا خلهم، وهم الذين يمزجون الخبرات، ويربطون بين تجاربهم وتجارب الناشئة، وبين عواطفهم وعواطف من يكتبون لهم، ويثيرون فيهم صوراً شعورية، وانطباعات فنية، واستجابات عاطفية شفافة مرهفة. ولا يتحقق ذلك إلا بمعاينة ومعايشة الناشئة ثم الكتابة لها بلغة شاعرية، سهلة المعنى والمَبْنَى، عذبة الموسيقى، حلوة النغمات، مبهرة الخيال، عظيمةِ المغزى.ولذلك تنبغي التفرقة بين ما يُكتب للناشئة وما يُكتب عنها، إذ مُعظم ما كُتب عنها من الشعر لا يعدو أن يكون غنائيا وبعيداً عن القيم الدينية والتربوية والجمالية، أو مقتصراً على بعض منها، عدَا أنه يحمل بين طياته قيماً سلبية بعيدة عن أهداف العقيدة، وأهداف التربية والإصلاح، ومتطلبات هذه المرحلة من السن، كما أنه لا يحتوي على تلك الصور الشعـرية الناطقة التي يتطلـبها خـيال الناشئة، لهذا فإن الشعر الموجَّه للناشئة ينبغي أن يتميز عن الشعر المُوَجَّه إلى الكبار بالمميزات التالية:
1ـ اختلاف موضوعاته واهتماماته، وضوابطه الفنية واللغوية والموسيقية والتخييلية.
2 ـ علاقته الوطيدة بعلوم التربية والسلوك والتهذيب وعلم نفس الناشئة.
3 ـ تأكيده على أبعاد القيَمِ العليا، وأبعادِ المتعة والتسلية والتحفيز على الابتكار.
4 ـ بنيته التي تعتمد على القصص والحكايات، والأحاجي والأساطير والخرافات والأمثال.
وعلال الذي احتفظ بالطفل الجميل الحي داخلَه لم يأت إلى هذا الضرب من الشعر اعتباطًا أو تقليداً أو تزجية للوقت، وإنما وَلَجَهُ ليؤدي وظائف، ويقود إلى غايات فنية واجتماعية وإصلاحية وتربوية وسلوكية. فهو في شعره هذا لا يحكي الأشياء كما هي، إِذْ نراه حين يصف ويُصور الشيء أو الخُلق أو قيمة من القيم لا يقف عند حقيقة ما يَصفه أو يُصوره في الواقع، وإنما يتجاوز ذلك هادفاً إلى الوصول بالشعور أو بالفكرة أو بالشيء إلى أبعد مدى له، لوعيه بان الشعر هو كيان في الوجود الإنساني، وقيمة لا بد لها منْ أنْ تستقر على الدوام، وأن تصبح لها القدرة على تجاوز الزمن وعبوره، وعلى تجاوز الحقائق البرَّانية و المظهرانية لِئَلاَّ يبقى سجين مَا صِدْقِ الأشياء اليومية والحقيقة الواقعية.فهو في تشبيهاته واستعاراته – التي يحفل بها شعره الموجَّه للناشئة- يرتفع بالشعر وبالمقول الشعري إلى المستوى الكوني، إلى المستوى الوجودي الذي يُقَدِّمُ النموذج الأخير لهذه الناحية التي يتحدَّثُ فيها، يفعل ذلك ليخرج على المتفق عليه، والمعهود والمُتَوَارَثِ شـعريا، وليأتيَ بما يكون جاذباً وآسراً، ومُغَايِراً لأُفُقِ الانتظار.ذي يهمه هو تكوين شخصيةِ الناشئة وبناؤها بناء سليماً مُعَافَى منذ السنوات الأولى، ولهذا نراه يخالف الفيلسوف الفرنسي المسلم رُوجي جارودي الذي يَرَى في كتابه "البديل" أن من مصلحة الطفل التربوية تأخيرَ دخوله للمدرسة إلى نهاية السنة السابعة من عمره بدعوى تمكينه من حرية الممارسة الفردية
1f60a.png
(= الرقص، الغناء، اللعب). أما علاَّلٌ فإنه لا يَرَى هذا التأخيرَ في مصلحة الطفل، ولذا فمن الواجب أن يدخل إلى المدرسة منذ السنة الخامسة، والبرنامج هو الذي سيعطيه ما يُرضيه ويُشبع ميولاته، وما يُؤَهِّله في آنٍ واحدٍ، لأن التجربة والنظرَ الثاقب أظْهَرَا أن النضجَ الباكر الذي يقع في أطفالِ جيلنا الذين لاَ يَصلون الخامسة عشرة حتى يَكُونُوا قد تكيفوا على الصفة التي ابتدأوا بها في الأسرة قبل الدخول المدرسي.لذا ينبغي تعويدهم في سِنٍّ مبكرة على ما يبني شخصيتهم، ويُنَمِّي ميولهم الفطرية، فهم كالطبيعة، كلاهما يتسم بالبراءة والانطلاق والحرية، وعدم الاستقرار والمَرَحِ والتقلب، والطهارة والوضوح والنقاء، والصفاء والجمال والحنان، والشفافية والتلقائية والأمان. ومن ثمَّة نراهم دائما مشدودين إلى الطبيعة لوجودِ تَعَالُقٍ فطري بينهم وبينها، وهذه العلاقة هي البداية الأساسية للعلاقة الروحية بين الإنسان والطبيعة التي تُبَصِّرُهُ بحقائق الكون وأمور الدنيا الثلاثة: الميلاد، الحياة، الموت.. والتي لها آثارها وبصماتها على نشأته واستقرار حياته كإنسان، والارتقاء به نفسيا وجسديا، وتربويا وسلوكيا. انطلاق الصغير واليافع وسط الطبيعة هو الذي يُعلمُه ويغرس في نفسه معنى الحرية، حرية النفس، حرية الشعور، حرية الفكر، فيعي معنى حريته وحرية وطنه، ويُقَدِّسُهما، ويصبح بالتالي مواطنا حُرًّا يعشق الحرية ويتذوقها، فلا يسمح لأيٍّ كان أن يمس حريته وحرية بلَدِه، وحريةَ الآخرين، ولا أن يعبث بالطبيعة التي تعَلَّمَ منها قيمة الحرية.*
* فصلة من كتابنا:أسماء استظللت بها مقاربات لألوان من الشعر المغربي المعاصر،ط1، منشورات أفروديت ،مراكش 2014م.




أعلى