أحمد أمين - تاريخ الفلسفة الإسلامية

(1)
كانت العرب في جاهليتها أمة أمية ندر فيهم القارئ والكاتب، ولم يعرف عنهم أنهم بحثوا في علم ودونوه، وهذا طبيعي في الأمم المتبدية، وإنما كانت لهم معارف أرشدتهم إليها التجارب والنظر ونوع المعيشة؛ فمعيشة كثير منهم مثلًا في الصحراء؛ حيث السماء صافية، والجو مفتوح، وحاجتهم إلى الأمطار وهبوب الرياح، لفت نظرهم إلى السماء فعرفوا شيئًا عن النجوم، وربطوا بها كثيرًا من ظواهر الجو؛ يدل على ذلك ما وضعوا من أسماء النجوم والمنازل والأنواء، ولكنهم لم يبحثوا في ذلك بحثًا علميًّا ولا دونوه كما تدون العلوم، ولم يكن لهم بالضرورة فلاسفة يدعون إلى مذاهب معينةٍ، ولا يضعون مبادئ للسير عليها في الحياة كالذي رأيناه عند اليونان؛ ذلك لأن العلم والفلسفة لا يكونان إلا حيث تعظم المدنية، فيسهل تحصيل المعاش وتتوافر أسباب العلم، إنما كان عند العرب حكماء وشعراء قاموا فيهم مقام الفلاسفة في الأمم المتحضرة؛ يفوهون بالحكم وتعد أقوالهم أمثالًا تؤثر في نمط الحياة، كالذي حكي عن لقمان الحكيم وأكثم بن صيفي وزهير بن أبي سُلمى، وقد أثر في حياتهم وعقولهم ما وصل إليهم من تعاليم الأديان السابقة ولا سيما دين إبراهيم — عليه السلام — واليهودية والنصرانية. فشت اليهودية في حمير وبني كنانة وكندة، وفشت النصرانية في ربيعة وغسان، وكذلك كان له الأثر فيهم ما نقلوه عن الفرس والروم والهند من القصص المشتملة على المواعظ والحكم، وقد كانت التجارة واسطة النقل، وكان العرب يكثرون التردد إلى بلاد هؤلاء للتجارة.
ثم جاء الإسلام ٦١٠م فوحد دينهم ولغتهم وأميالهم وقد كانت متعددة، وملك الدين عليهم نفوسهم، فكانت الحياة حياة دينية، وسياسة الحكومة سياسة دينية، والتشريع تشريعًا دينيًّا؛ لذلك كان البحث في عصر الخلفاء الراشدين والدولة الأموية إلى سنة ١٣٢ﻫ إنما كان بحثًا في الأمور الدينية أو ما يتعلق بها، والسبب في ذلك:
(١)أن المسلمين رأوا ما صارت إليه دولة الإسلام من العز وكثرة الفتوح، وهم يعلمون أن لا سبب لذلك إلا دينهم الجديد، فزادهم ذلك اتجاهًا نحوه.
(٢)أن كثرة الفتوح واتساع المملكة يستدعي حدوث أمور لم تكن في عهد المشروع، وليس لهم أن يحكموا فيها بمجرد الرأي، بل يعتقدون وجوب الاستعانة بقواعد الدين، ولا يمكنهم ذلك إلا إذا اشتغلوا بالدين.
(٣)أن القرآن ملك عليهم نفوسهم من نواحي كثيرة: من ناحية البلاغة، وحسن القصص، ولفت النظر، فدعاهم ذلك إلى الانكباب عليه.
من أجل هذا كله كان مدار البحث في هذا العصر هو الدين، ومن نقل خبرهم من علماء هذا العصر هم علماء دين إلا قومًا ترجم لهم صاحب كتاب (عيون الأنباء في طبقات الأطباء)، والظاهر أن هؤلاء كانوا يمارسون الطب على أنه صناعة لا علم، وإلا ما حكاه ابن خلِّكان في ترجمة خالد بن يزيد — توفي سنة ٨٥ﻫ — من أن له كلامًا في الكيمياء والطب ورسائل دالة على معرفته وبراعته، وفي ترجمة جعفر الصادق ٨٠–١٤٨ أن له كلامًا في صناعة الكيمياء. والكيمياء التي اشتغل بها جعفر — إن سلم أنها علم كان يشتغل به — لا يطعن فيما نقول من أن العلم الشائع لهذا العصر هو علم الدين.
وفي آخر الدولة الأموية كانت لهم أبحاث دينية مما هو من أبحاث علم الكلام أو ما بعد الطبيعة، فبحثوا في حرية الإرادة وأن الإنسان مجبور أو مختار، وفي مرتكب الكبائر أمؤمن أم كافر، وفي خلق القرآن ونحو ذلك، وانحاز المسلمون إلى فِرَق وتجادلوا وكلٌّ يُدْلِي بالحجة، وبحثوا كذلك بحثًا سياسيًّا مصبوغًا بالصبغة الدينية فيمن يكون خليفة المسلمين، وما ينبغي أن يستوفيه من الشروط، وكان للخوارج الفضل في إثارة الأذهان للبحث في هذه المسائل السياسية، ولكن شيئًا من ذلك لم يدوَّن كأنه علم.
فلما جاءت الدولة العباسية ١٣٢–٦٥٦ﻫ عظمت حضارة المسلمين، وهضموا ما أخذوه بالفتح عن الفرس والروم والهند، ونقلوا علوم الأمم التي سبقتهم في المدنية ولا سيما الهند واليونان، وفي زمن أبي جعفر المنصور والرشيد والمأمون ومن بعدهم — ولا سيما المأمون — توسع الناس — وخاصة السريانيين — في ترجمة علوم اليونان على اختلاف أنواعها: من طب وهندسة وهيئة وتقويم بلدان، وفلسفة بفروعها المختلفة من طبيعيات وإلهيات ومنطق ونفس وسياسة وأخلاق — إلى اللغة العربية، فترجموا في القرن الثاني والثالث للهجرة كتب أفلاطون وأرسطو وإقليدس وبطليموس وجالينوس وغيرهم، وبحثوا فيها وتداولوها يشرحونها مرة ويختصرونها أخرى، وخصص كثير من المسلمين حياتهم لدراسة الفلسفة وتفهمها؛ فكانوا بعدُ فلاسفةً.
وكان أغلب مؤسسي الفلسفة عند العرب ومؤيديها أطباء وعلماء في الطبيعيات أكثر منهم رجال دين، وعلى العكس من ذلك فلاسفة الغرب في القرون الوسطى، فقد كان أكثرهم قساوسة؛ ولهذا لم يقصر المسلمون نظرهم على الإلهيات، بل كان البحث في الطب القديم والعلوم الطبيعية عندهم يسير جنبًا لجنب مع البحث في الإلهيات وما وراء الطبيعة، وترجموا كلام جالينوس في الطب وإقليدس في الهندسة كما ترجموا كلام أرسطو في الإلهيات.١
غير أنه يظهر أن ما ابتكروه من عند أنفسهم قليل إذا قيس بما نقلوه من اليونان، نعم إنهم في بعض فروع العلم كالكيمياء وعلم المعادن والطب وعلم وظائف الأعضاء كان لهم أثر ظاهر، واستكشفوا من القوانين ما لم يصل إليها اليونان قبلهم، ولكنهم في غير ذلك من فروع العلم كالمنطق والنفس والأخلاق كانوا نقلة أكثر منهم مبتكرين، وكانوا في طريقتهم العلمية ونظامهم في البحث، وأنظارهم إلى العالم، وترتيب فلسفتهم وقواعدهم متأثرين تأثرًا عظيمًا بفلسفة أرسطو والأفلاطونية الحديثة.
ولهم الفضل على الغرب بكل ما نقلوا أو ابتكروا، فكثير من كتب اليونان وأبحاثهم ما كان يصل إليها الغربيون لولا حفظ العرب لها ودراستهم إيَّاها، كما أن كثيرًا من مبتكراتهم واختراعاتهم تعد — بحق — من أسس المدنية الغربية.

(يتبع)


.........
المصدر : كتاب «مبادئ الفللسفة» فصل بقلم أحمد أمين.


أعلى