عبدالقاد وساط - تنويعات على رسالة الغفران -1- الشيخ ابن القارح يلتقي شعراء المفضليات

...ويمضي الشيخ-كبتَ الله عدُوَّه- على صهوة حصان من نور، بين أنهار الجنة وأشجارها، وحيواناتها وأطيارها، إلى أن يبلغ قصورا بديعة، حولها ظلال وعيون، فيسمع هاتفا يقول له:
-هذه قصورُ شعراءِ المفضليات.
فيترجل الشيخ الجليل عن حصانه النوراني، وينادي بصوت مسموع:
-أين عَمِيرة بن جُعَل؟
فما يكاد ينطق باسم ذلك الشاعر التغلبي حتى يبصره أمامه، وهو يرفل في وشْيٍ وحرير، بنعمة الله القدير، فيقول له الشيخ معابثاً:
-وما يفعل شاعر مثلك في الجنة، يا عَميرة؟ ألَمْ تكنْ في الدار الفانية هجّاءً، خبيثَ اللسان، وحتى قومك من بني تَغْلب، لم يَسْلموا من هجائك المقذع.
فيقول عَمِيرة:
-أيها الشيخ، كأنّي بك تَسْتكثر على المخلوق عفْوَ الخالق! فالحمد لله الذي استجاب للضراعة وأوصلني إلى الشفاعة، وضَمنَ لي السلامة على الصراط.
فيقول له الشيخ، نَوَّرَ الله ذِكْرَه:
-لا تبديل لكلمة الله.
ثم يسكت قليلا ويقول:
-أمّا القريض، فلَعَمْري لقد كنتَ فيه مُجيداً مُحسناً، وما فتئَتْ تعجبنيي نونيتك المفضَّلِية، التي تقول في مطلعها:
ألَا يا ديارَ الحَيِّ بالبَرَدانِ
خَلَتْ حِجَجٌ بَعْدي لَهُنَّ ثَمانِ
والبَرَدان اسمُ موضع، وفي هذه القصيدة بيتُك البديعُ الفرد في وصف السنان:
جمعتُ رُدَيْنِياً كأنَّ سِنَانَهُ
سَنَا لَهَبٍ لم يَسْتَعنْ بدخانِ
والرُّدَيْني هو الرمح، نسبة إلى امرأة تدعى رُدَيْنَة، كانت تُقَوِّمُ الرماح. وشبهتَ سنان الرمح في صفائه بصفاء النار التي لا ينبعث منها دخان. وقد وصف عبدالملك بن قريب الأصمعي بيتَك هذا بأنه أشْعَرُ بيتٍ في وصف السنان. كما أنك أحسنتَ في هذه النونية غاية الإحسان، حين وصفتَ سبعَيْن يعتركان:
يُثيران منْ نسْج التراب عليهما
قميصين أسماطاً ويَرتديانِ
والأسماط هنا بمعنى الأثواب البالية، ولم يستعملها أحد قبلك ولا بعدك بهذا المعنى.
وينبسط عَميرة من كلام الشيخ، وتنفرج أساريره، فيقول له:
-يا ابن القارح، ما تقول في خَرْسٍ من شراب الجنة، يحلو معه هذا الحديث؟
والخَرْسُ هو الدَّنّ، ومنه البيت المنسوب لأعشى قيس في المُدام:
ثَوتْ في الخَرْس أعواماً
وجاءت وهْي مقتولهْ
فيجيبه الشيخ إلى مبتغاه، مرددا قول الخالق عز وجل( لا يصدعون عنها ولا يُنزفون.)
ثم يخطر له خاطر فيسأل عَميرة:
-ألديك خبرٌ عن الشاعر عبد يغوث بن وقاص الحارثي، فإن في نفسي أمورا أريد أن أسأله عنها؟
فيلتفت عميرة ويشير إلى ربوة قريبة ويقول له:
- هذا قصره قريباً منا.


(يُتبع)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى