ندى مهري - بهاق البحر.. قصة قصيرة

الوقت بحر وقارب موارب، والزمن عالق في إبحار مرتقب ينتظر اكتمال عدد المعلقين في الأرض وأرواحهم تعاويذ ضالة مضادة للوطن وجاهزة للعبور.
كانت تشاهدهم يوميًا وتنتظرهم أمام شباك نافذتها المطلة على البحر، إذ لارفيق لديها سواه، فهو يمدها بأسراره الليلية منارة، وأسرار عشاقه قوة بحرية.
عندما فاض ربيع أنوثتها، ازدادت بهجتها ونضارتها غواية..كانت كثيرة الخيالات والأحلام، غير أنها تعثرت بجسدها وكانت على يقين أنها ستواجهه في عوالمها السرية حتى تتخلص من ثورته ضدها.. لم يكن تمردًا مقرونا بأسطورة الأنوثة وجاذبية حكاياتها الممتدة بين الكتمان والمحاولات المشفرة للفهم.. كانت تحارب جسدها والبحر حلبتها، وجندها قوارب مهترئة محملة بملامح هلامية، وضجيج أحلام تماهت في غياهب الموج، ومصير يبحث عن مصيره في رقعة أخرى أكثر اتساعًا لجراحاتهم وعذاباتهم.
كانوا يوميًا ينتشرون في القوارب مغادرين دون رجعة ودون التفات لذكرياتِهم، ولوجوهِ أحبتِهم، ولأحلام مجهضة تركوها خلفهم، ينتشلهم الموج بعيدا عن مقلتيها في رحلة علاج غير مضمونة النتائج. وبقدر انتشاره في جسدها وعدم تقبلها لاستيطانه بقدر تزايد عددهم كل يوم، ثم يرجعون إلى الشاطئ في هيئة أخرى؛ في الأغلب كائنات شبحية، وكلعنة سحر يواصل انتشاره المطبق في جسدها.
يكبر حلم الهرب إلى الضفة الأخرى رغم الأهوال المنتظرة، لم تعد تكتفي بالبقاء وراء النافذة وتأمل الوجوه المتهالكة كالقوارب التي تحملها. كانت في بداية الأمر تخرج وترتدي "حجابا" يقيها شر الأسئلة، وبطريقة ما عقدت صداقة خطرة مع تلك الوجوه العابرة والحذرة القادمة من كل مكان وبلهجات مختلفة وبشهادات دراسية متنوعة.. وماهي إلا دقائق معدودة تتخللها الحيطة والحذر من الكمائن التي تترصدهم من بلوغ أمانيهم قبل انطلاق القارب، حتى تكون هي قد ارتوت من حكاياهم المصلوبة في قضبان الوطن. كانت تسمعهم في أول الأمر وتشعر كأنهم يتسللون يكتبون أو يوقعون في جسدها وصاياهم لتظل نقشًا فرعونيًا حتى ترويها لغيرهم فيما بعد لعلهم يعدلون عن الفكرة أو يزدادون إصرارا، كانوا غير متأكدين، وكان المرض يتمكن من أنوثتها كل لحظة.
ثم ازدادت جرأة مع الوقت وأصبحت تحكي معهم عن أحلامها المجهضة أيضا حتى تصل إلى جسدها فتصمت، فهو أيضا معبر لمضيق الجرح والوحدة واليأس .
وبعد أيام يعودون إليها وأغلبهم جثث صمت، فتتذكر أنها ضحكت معهم وبكت وهي تودعهم والآن حزينة هي لعودتهم دون أحلامهم ودون أرواحهم. لفظهم البحر ونواياه غير البيضاء وحولهم إلى كريات تنتشر على سطحه فأسمتهم "بهاق البحر" ربما لترضي كبرياءها الجريح وتعترف أمام الجثث بسرها عن استيطان البهاق في جسدها دون سابق إنذار.
لم تعد تبالي وأصبحت تذهب لرؤية العابرين للضفة الأخرى كاشفة عن يديها ومفاتنها لم تعد خائفة، وأصبحت تُظهر تمرد الجسد بتلك البقع التي انسحب منها لون الفرح.
منهم من أشفق عليها وعرض عليها أن تهاجر معهم في هذا القارب للعلاج مقتنعا أنه في الضفة الأخرى، هناك، عبر هذا المعبر، وفي الأفق الغربي، ثمة انفراج على الجميع فالعليل يشفى، والجائع يشبع، والعالم يشتهر.. كل شىء ممكن في الضفة الأخرى، بقي فقط جهد العبور ومقاومة أخيرة ،وتتحقق الغايات... ومنهم من لاحظ هيئتها فتجنبها كوصمة عار مضادة للأنوثة.. ومنهم من أحبها من أول اعتراف لها. ولكن الوقت بحر يأبى إلا أن يأخذ معه كل المشاعر التي حملوها لها في أحشائه، ويتركها وحيدة مع جسدها وكرياتها الشمعية ترقبهم من بعيد فلقد أدمنت حكاياهم ودموعهم ، وضحكاتهم حقائب حزن ساخرة.. لم تعد تلوح لهم لتودعهم كما كانت تفعل من قبل لأنها على يقين أنهم عائدون إليها في صفة "بهاق" .. وهي تنتظرهم في لحظة توحد صوفية حاملة راية وطن انتشر فيه بهاق البحر.



ندى مهري
أديبة وروائية جزائرية مقيمة بالقاهرة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى