محمد علي شمس الدين - الجغرافيا المحرّرة... الوطن المريض ‎

أراها تطلّ برأسها من الشبابيك والنوافذ ومن عيون المقهورين في الشوارع والساحات وأمام كوى البنوك واللصوص والصكوك وعلى عتبات السارقين ومجالس الحكم والطوائف المتجبرين الرابخين على الجغرافيا المحرّرة على صدر شعب بكامله.
هل يمكن أن نتكلّم على وطن محرّر من المحتل الإسرائيلي وعليه مواطنون مقيّدون بسلاسل مذاهبهم وتبعياتهم ويعيدون إنتاج عبوديتهم بمواعيد محدّدة في مواسم التزكية وتثبيت التبعية والولاء؟
هل بالإمكان الآن وبعد مرور عشرين عاماً وفوضى وكورونا على تحرير الجنوب أن أقول مطمئناً: إننا مواطنون أحرار على جغرافيا حرة؟
إنه السؤال الشكّاك، نعم...
حين قدح الشرر الإلهي لمهر المقاومة على الحدود وارتعد من هوله ودقته ووضوحه جنود الاحتلال الإسرائيلي الذين أخضعوا الأرض الجنوبية خمسة وعشرين عاماً للاستعباد، كنا على تخوم الشريط نرى أن قمحاً جديداً سيطلع من الحقول وتبغاً جديداً وشجراً آخر ينمو وأن مياهاً أخرى تدفقت في النهرين وسماء أخرى حررها برق المقاومة ستنفتح للنظر. كنت أرى أطفالاً آخرين سيولدون وشعباً آخر سيتكوّن مع التحرير. كنت أستطيع أن أحدّد أيار ذاك حدود الجغرافيا المحرّرة بالسنتيمترات، وبحجارة القرى ورعاة الأغنام على الأرض الحرة، وأقول إنّ دماً أريق قرب هذه الشجرة وعند تلك الصخرة وفي هذا الوادي والمَسيل من الماء ودون هؤلاء الأطفال والنساء والشيوخ والرجال ممن كانوا يعيشون قلق الحرية والكرامة، لا بدّ سيشرق فجره. جاءت المقاومة وفتحت باباً واسعاً لأسئلتي أن تنهض... لكن هل أستطيع أن أقول الآن الجملة الخطيرة التالية: نحن اللبنانيين الآن وفي هذه اللحظة بالذات شعب مستعبد يعيش على جغرافيا محرّرة بطوائفنا وسياسيينا وحكّامنا ومفسدينا والسارقين الناهبين قاهرينا وجلادينا بأيدينا واختيارنا.
إن المشكلة تكمن في لبّ العظم الطائفي الذي يجب تحريره مع الأرض إن لم يكن قبلها، وأننا شعب مستعبَد يعيش على جغرافيا محررة، وأنّ أقنعة مثيرة للاستعباد تتوالى على هذه الجغرافيا المحروسة بسلاح المقاومة، وأنّه من العبث أن نفرح بالتحرير تحريراً كاملاً منجزاً وبقوة السلاح الرادع والمرعب لإسرائيل... وأبعد. إذا لم تتحرّر نفوس اللبنانيين من سلاسل الطائفية والتبعية السياسية والتنافس على نهب خيرات الجغرافيا المحرّرة وتقاسمها بعناوين كثيرة ـ لكن الجوهر واحد ـ لا يمكن أن يكون الجسد حراً والروح مخرَّبة.
أعلى