علي مفتاح - أغمات.. لا تقبل الشعراء إلا و هم أموات

طرقت اليوم باب اغمات الموصد منذ الأزل، حتى المعتمد المعتكف داخل طقوس موته أبى أن يفتح باب ضريحه مخافة أن يصاب و زوجته اعتماد بوباء عصر لم يرد قط في سيرة الاندلس و لم يتنبأ شعره بصورة لأغمات و هي تنتشل جرحها من الصهاريج القديمة ، الشاهد الوحيد على أغمات قد مات و استعذب موته المعمرون الجدد ، بنوا لأغمات ضريحا وسط الضريح ، حتى المعتمد لم يستجب للحَجْر و خرج في حملة شعرية لردع الحَجَر ، جلسنا حيث أُمرنا نحصي كل انواع الفيروسات الممكنة و المتخيلة ، و نحصي عدد الخيبات التي أنعم بها علينا من الوباء إلى الغباء، مرورا بتدبير كرنافالي لما أسموه مجازا بالحجر على الحجر .
كيف لي أن أكتب على أغمات الميتة حية قبل الممات، و أن أتحايل على اللغة فقط لأرسم بلون الدمع فمها المبتسم حد البكاء ؟ كيف لي أن أعيش في تربتها اتدبر أمر حجري الصحي و أنا كنت قد وضعت صورة لفمي و معه لساني في إعلانات مآوي الصمت ؟ كيف لي و انا احمل ببطاقة هويتي اسمك ،اتباهى مع المحتالين و صناع التاريخ بالانتساب إليك ، أصيح من داخل جحري أن أغمات ألبستني ثوب من ماتوا و هم يرددون كل ترانيم الخلاص ؟ كفن على مقاس الصمت يكفي لكي أزفني إليك، أحمل معي دعوات من سيموتون دونما وداع للفأس و المنجل و لأهازيج صبية اتعبتها العنوسة فارتمت في حضن نتانة المآل دونما حرث أو حصاد .
قاسية أنت يا أغمات ، مثل بردك و حرك ، مثل تجاعيد استوطنت وجوه من حملوا على ظهورهم الملح العمر كله فانتقم منهم ضغط دمهم المرتفع ، تأبين الانصياع، لا تقبلين الشعراء إلا و هم أموات ، أنت مقبرة كل هارب من الحياة ، أنت سيدة ليست كالسيدات ، تمشي حافية و تصفق بحرارة لكل إسكافيي الأحذية العتيقة ، مدي يدك و اكتبي بفحمك الخشبي ، الشاهد على مجزرة غابة لم تطلب سوى وقف اطلاق الدخان ، اكتبي ان الحجر الصحي ميثاق فلسفة لم يستصغهابعد كل هؤلاء الذين عبروا إلى ضفة الوجع المستباح ،اكتبي أن الحجر درس في ميتافيزيقيا الخيال ، فلا عقلك استوعب دروس التقوية من أجل اجتياز اختبار العبور ، و لا المدرس الوحيد تبنى منهجية التبسيط من أجل نجاح بالتقسيط المريح.
أغمات تعرف جيدا أن الزمن تغير و تغير معه حتى شكل و حجم خطورة الوباء ، و أغمات لم تتغير ، قابعة في جحر سذاجة البسطاء ، ما زالت " بغلة المقابر " " تاسردونتنيسمضال " تمارس حظر التجول قبل الحظر الذي فرضه الوباء ، و ما زالت الفؤوس تعبث بالأرض، تحفر في العمق عن كنوز نسيها العابرون إلى ضفة النسيان ، و ما زال الاعتقاد ذاته راسخا أن التفاضل بين القرى يصل حد الطعن في الحمل و النسل و السلالة . فأي الألوان اخترت لكي ترسمي لوحتك، و الاسود لون ناسف لكل تلك الألوان؟
أغمات تحمل نعش السؤال عن الواقع عن المآل ، و الأجوبة و إن تناسلت يختلف حولها رواة الأحاديث المتحلقون حول موائد الأكلات السريعة الجاهزة بسوق اثنين أوريكا، فمن سرق الماء من مساجد راكمت أحجارا باختلاف حجمها من أجل التيمم ؟ و من حفر القبور فقط ليسأل أصحابها عن لون الموت و رائحة الروح و تعفنها قبل الجسد ؟ و من مشى حافي القدمين و البطن فقط لتقليد " سيدي السايح " في زهده و تشرده عندما داهمت الفأس خلوته و جردته من أبسط حقوق الموتى ؟ و منمنح الغابة تأشيرة مرور لمتحف الدمار ؟ لم أجد في أغمات و في أسواقها المنتشرة و المتعددة بتعدد ايام الاسبوع حلقة الشعراء أو الفلاسفة ،لم أجد بنية لتكوين العقل لكي نخضعها للتحليل، و لم أجد أيديولوجية أمازيغية أو عربية معاصرة ، وجدت عصبية قبلية تخفي جبالا من الحنين إلى نزعات الغربال و تطهير العرق من العرق ، و الإبقاء فقط على من يمشي حسب اتجاه بوصلة الخرافة و التقديس المتوارث لهذيان الفكر و فكر الهذيان.
أغمات تعي جيدا معنى الانتساب للفنون و الثقافات المدمجة و المندمجة و المدجنة كذلك ، تقيم حفلات الزفاف عل نغمات و إيقاعات العيطة بكل انواعها و تثمل على موسيقى الراي ، و تعد الصفوف من أجل رقصة أحواش بسراويل " الدجين"،و تتغنى بالمجد لصناع هذا الخليط العجيب للاغتراب و المنفى الثقافيين و الفولكلوريين ، فما أروع أغمات عندما تتجرد من جلدها القديم ،و تلبس جلدا على المقاس ، و قد وشمت على الظهر صورة زينب النفزاوية عارية أمام مقصلة التاريخ ، فالسياف الذي حفر قبرا من الشعر للمعتمد ،و الذي أحرق كل دواوينه، نصب نفسه طرفا في القضية ، فما أروعك يا زينب عندما تقبلين على الموت بكل ما أوتيت من زغاريد ،فطوبى لمن أخذوا مكانهم في الصفوف الأمامية ، طوبى للمتفرجين الذي أتوا من كل جرح عميق ، تركوا نعالهم لكي لا تكون غدا شاهدة عليهم عندما يباغتهم سؤال الكرامة و الإنصاف، حتى يوسف في تربته أوصى كل المؤرخين و صناع الفرجة والتهريج التاريخيين أن يزيلوا من على حرف الغين نقطته البلهاء ، لتصبح " أعمات " .
لا توقظوا هؤلاء الحالمين برصيد مضاعف للصبر ، لا توقظوا من يكتفون بحلم لا يتخطى حدود هاته الحقول ، فصبرا أغمات ، استباح دمك الرعاة و المنتخبون الكسالى ، و حتى الراقصات و الراقصون على إيقاع الجوع لم يعد يغريهم هز البطن و هو فارغ ، مات المتفرجون من المشاهد المعادة بكل التفاصيل الدقيقة و البليدة ، نفس الشتاء التي تهطل كل عام لم تعد كافية لغسل العقول قبل الحقول ،أصبح مطرك فارغا من الماء ،و الشمس أبانت عن نية انتقامها من سنوات الغيوم الماطرة ، فمرحبا بك مدينة أثرية ، كل من يتحرك فوقك فهو أثر اركيولوجي ينبض بالموت و الاندثار ، فالحفريات في الإنسان الحي أثبتت أنه ينحدر من سلالة نادرة يعرف كيف يكتب حضارة المتناقضات ، حضارة التباعد و التنافر ، حضارة الكيل بمكيال من فراغ .
أغمات، أيها الجبل الجريح ، أيتها الغابة الشمطاء ، أيا وادي اجوف تقاسم حدوده مع الحجر، حافي بلا ماء، لقد أقسمتِ بكل الآلهات القديمة أن الندى القادم من حر المستنقعات سيغسل وجهك ذات صباح ، و أن عشاق كسيحيون ذكرى " يوم الطين " ، حيث لبست الارض كسوة من عنبر و مسك و ماء الورد ، و ستمشين و تخوضين فيه برجليك ، و سيجلس الشعراء فوق قصائدهم المتعفنة، و لروعة المشهد ، سيرسمون لوحات لموت اللغة عندما تهرب منها الحروف ، ما اجمل ان نضعك في سياقك القديم ، حيث كنت القِبلة الأولى لمن رابطوا خلف أسوارك فعزفوا بالصليل أروع سيمفونية تغنت بها كل الأجيال، ما أروع أن نعود إليك في الزمن الذي مضى و تعلميننا كيف ننطق كلمة " الحلم "دون أن تحاصرنا الحاء في غياهب الاشتهاء و الانطواء ،ما أروع أن نقبض فيك على الزمن متلبسا بتهمة الحياد ضدا في التاريخ الذي كُتب ، و ضدا في الإنسان الذي أبى أن يكتب.
أغمات تحصي الويلات ، و تستعد كما باقي المدن القديمة التي حملت على اكتافها أحجار الفاتحين كما رفاتهم، لتكتب بالصمت تاريخ صخبها الحديث ،تاريخ تواطئ القبور و إيقاعات الموت ،تكتب قصيدتها الأخيرة، حيث الغزل بطعم الرثاء ،غاب الحضور و حضر الغياب، و تناسلت الجمل الشعرية ، و لم تلد القصيدة سوى عقم الرؤى و انبطاح الانزياح، كل دواوينها مرتعا للموت المريح ، فلا الروح غادرت جحرها ، و لا الأنفاس استفاقت و قيمت حجرها القديم/الجديد ، فيا سيدتي يا أغمات ، لا أطلب منك أن تبني لي ضريحا ، قبر بعمق صورة شعرية يائسة يكفيني ، حفرة في اقصى ركن من جبل محايد تكفيني ،و شبر من كفن لستر عورتي يكفيني .. يكفيني أني مررت من هنا و عشقت أن أكتبك عارية من كل حروفك الشفافة، اني عاشق فوق العادة لكل المدن الموبوءة و المنبوذة ، عاشق للمدن التي تكتب تاريخها بدون فواصل ،بدون استفهام أو تعجب ، ترسم بمرفقها نقطة نهايتها في اقصى ركن من مذكراتها و تمضي ، إلى أين؟ إلى قصيدة رثاء أخرى خارج إطار الحجر، و تردد خلف شاعر منحها السؤدد أكثر من سجانه : " رعي الجمال خير من رعي الخنازير " .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى