سمير الفيل - النقطة الحرجة.. قصة قصيرة

قابلت الأستاذ فؤاد . قابلته في وقت لم أتبينه تماما ، غير أنني أتذكر أن طائر الكروان الذي يعبر فوق بيتي قد غرد مرتين ، وهو يمرق بسرعة في أحد الاتجاهين : شمالا أو جنوبا.
قابلت الأستاذ فؤاد ، بلا اتفاق ، بدا متجهما ، متوترا ، سألني إن كنت قد سددت ديوني بعد أن بارت تجارتي فأخبرته بثقة أن عليه ألا يقلق فسوف يسويها الله بمعرفته.
وأكملت : عرضت إسطبل الخيل للبيع ، ولم يتقدم أي مشتر بعد.
قال لي : وخبر زواجك من سمية ، هل هو صحيح؟
قلت له دون أن اتخلى عن هدوئي : هي تلميذتي النجيبة ، وقد كبرت واستوت على عودها ، ومن حقي أن أتزوج النساء مثنى وثلاثا ورباعا؟
نظر إلى بغيظ ، باحتجاج مبطن بالتحدي : وهل ستعدل بينها وبين أم ابنائك؟
هرشت رأسي ، أطرقت في الأرض : سأحاول أن أجعلها تشعر بالسعادة فما يجمع بيننا أكثر مما يفرق ، ثم إنه من طبيعة الأمور أن السعادة قصيرة ، والتعاسة تعيش معنا أغلب العمر ، وسمية ليست بعيدة عن هذه الحقيقة .
واصلت محاولا إقناعه بصواب موقفي : سمية سمراء ، وأنا أحب تلك البشرة تماما ، وهي ذكية بالمقدار الذي يجعلها تفهمني بالإشارة ، ثم أن البيت الذي سنسكنه قد اشتريته بالكامل وأخليت طابقه الثالث الذي سنقيم فيه عش زواجنا أما بقية الأدوار فهي مخصصة لتخزين جوالات الفحم .
تنهدت ورأيت أن أطلق في وجهه المنفوخ تكبرا ونفاقا كلمتي الحاسمة : ثم أنها ـ هي وليس غيرها ـ التي عرضت عليّ الزواج .
برفق أعرف أنه سيدمره تدميرا : الزواج على سنة الله ورسوله.
هز رأسه دون اقتناع : وماذا عن ابنك المعاق الذي اشتريت له كرسيا متحركا الشهر الماضي ، هل ستتركه للكلاب الضالة تنهشه ، وتذهب لتستمتع بزوجتك الجديدة ؟
تأملت كلامه ، وجدت به بعض المنطق غير أنني واصلت الدفاع عن موقفي : ابني لن يمنعني من الزواج ، وبناتي في انتظار التخرج من كلياتهن الجامعية ، أما زوجتي نفسها فهي غير مكترثة بهذه المسائل ؛ لأنها مستغرقة في الصيام وقيام الليل وترديد الأدعية والأوراد من كتاب ضخم اشترته من مكتبة تراثية بحي الحسين منذ خمس سنوات.
من يومها هجرتني ورفضت رفضا تاما أن أقرب منها ، أو ألمسها ، قائلة لي أن هناك هاتفا قد أتاها في النوم ، أخبرها أنها قد نُذرت لعبادة الخالق الواحد ، وعليّ إن كنت قد تضررت أن أذهب إلى حال سبيلي كي أختار زوجة أخرى ، أو أن أعيش حياة الزهد التي ربما تخفف عني أوزاري .
أمسك الأستاذ فؤاد بيدي ، أثنى معصمي من شدة انفعاله : وأين حكمتك القديمة. تريد خطبة فتاة تصغرك بعشرين عاما أو يزيد . كيف لك أن تقابل ربك العدل الرحيم؟
ضغط عليّ بكلامه فأقعيت على الأرض ممسكا رأسي بيدي ، استغرقت وقتا وأنا على هذه الحالة ، فلما قمت ، ترنحت ، وهبشت الهواء في محاولة للتوازن . وجدته ما زال واقفا ينتظرني .
سدد لي الطعنة القاتلة : أنت عجوز مخرف، لم يعد فيك ما يرضى النساء ، أنت سحرت سمية ، المسكينة وقعت في حفرة غطيتها بالقش ، وكانت سقطتها مدوية حتى أن جميع من في المدينة أحسوا بها . هل تعرف أنها تواصل البكاء ليل نهار ، لأنها منجذبة نحوك بقوة غير معلومة . قوة غاشمة لا قبل لها بها . تحدث نفسها في المرآة ، تقول لنفسها كل يوم : ليتني أستطيع الفكاك من هذا السحر الأسود.
انتظر ردي على النقطة الحرجة التي أوصلني إليها ، نظرت إلى الفضاء ، وحدث في تلك الدقيقة أن خرج طارق ـ من باب العمارة التي أسكنها ـ بكرسيه المتحرك ، اقترب مني فطلب مالا ، أخبرته أن النقود التي معي مخصصة لدفع فواتير الكهرباء والمياه والغاز الطبيعي والتليفون الأرضي ، وأنه يمكنني تدبير مبلغ مناسب ، أقدمه له في الغد .
قبل أن أكمل كلامي مد الأستاذ فؤاد يده في جيب معطفه ، وأعطاه ورقتين ماليتين من فئة مائة جنيه . انتظر لحظات ثم دس في يدي قطعة نقود معدنية مطموسة من الوجهين .
أفصحت تلك الحركة الخبيثة عما يكنه لي من عداء ، ورغم احترامي له بحكم معرفتنا القديمة كواحد من كبار تجار المدينة ، وقد ساعدني في صدر شبابي في الوقوف على قدمي حتى صرت غنيا قبل موقف الإفلاس الذي أودي بسمعتي ، فلم يكن من المنطقي أن أتركه يفعل الإحسان بدون كلمة شكر. تلجلجت ، محاولا النطق بكلمة امتنان لكنه عاجلني بسؤال في غاية الخبث : كيف نفك سحرك؟!
وجمت لسؤاله الذي يشبه خنجرا مسنونا رشقه بين ضلوعي. أمسكت بخصري وتأوهت دون إرادة مني ، قلت له وهو ينظر نحوي بشدة : سأتزوج سمية ، وافعل ما شئت.
اقتربت منا سيارة أطلقت بوقها فتراجعت ، صعدت فوق الرصيف ، فجأة وجدت السيارة تصدمه بقوة ، وتهرب . سيارة سوداء بلا لوحات معدنية . حدث ذلك في أقل من دقيقة. انحنيت كي أتفقده بعد حادث الدهس. كان الدم ينبثق من فمه ، هززته. وأنا في غاية الارتباك : أستاذ فؤاد.. أستاذ .
أراد أن يتحدث غير أن فمه امتلأ بالدم . سمعت تمتماته الأخيرة التي شابتها رنة استعطاف واهنة : لا تتزوج سمية ، ففي الاقتران منها مقتلك.
قالها وأغمض عينيه ، طلع منه السر الإلهي ، وكأنه كان يقوم بدور تراجيدي في مسرحية عبثية .
أنا مصمم على الزواج من سمية ، ليس لأنها سمراء ، وذكية ، ووحيدة ، بل لكونها عشيقته . أكاد أكون الوحيد في الكون الذي يعلم هذا السر ، ويخفيه.


23/ 11/ 2019.

L’image contient peut-être : 1 personne




https://www.facebook.com/photo.php?...AtDwi-BWGr8OCR2OCHo3g9rfqJsJ9pKRwKwilFn8S16s-
أعلى