مصطفى عطية جمعة - سرديات التراث العربي ووهم الأشكال والتصنيف

هناك وهم كبير يسقط فيه النقاد العرب المعاصرون، عندما يتعاملون في دراساتهم وبحوثهم مع السرديات والحكايات التراثية، ذلك بأنهم يتعمدون إسقاط مفاهيمنا المعاصرة عن القصة والرواية، في ضوء الأشكال الحديثة التي ألفناها وصارت معالمها راسخة واضحة في أذهاننا ومعارفنا النقدية، بدون أدنى اعتبار للشرط التاريخي الفارق بين هذه الأشكال. لذا، من الواجب أن يُفسَح المجال كي يكون التعامل مع سرديات التراث بشكل أكثر انفتاحًا، سعيًا إلى دراستها والوقوف على جمالياتها، بدون تعالٍ أو نفي لها.
فينبغي أن لا نسقط المفاهيم الحديثة للقص المعاصر على القصص والإبداعات القديمة، فلا يجوز مثلا صياغة سؤال على شاكلة: ما علاقة القصة القصيرة المعاصرة بالمقامة؟ أو علاقة الرواية بالرسالة القصصية القديمة؟ من قبل المعنيين بوضع حدود صارمة وقياس مدى الاتفاق والاختلاف عن المطروح حاليًا؟
إن طرح مثل هذه السؤال يجعل الناقد يفترض أن القالب المثالي للإبداع هو القالب الموجود الآن، الذي نعرف معالمه جيدًا، وهذا أمر غير دقيق بلا شك؛ لأنها تجعل القالب الحالي هو النموذج، وهذه مصادرة على إبداع السابقين، فكل عصر له مذاقه ومبدعوه ومستقبلوه، الذين يحددون الأشكال عبر العلاقة المعقدة التي تتكون من قراءة المبدع لما يحتاجه متلقوه. أيضًا، هو مصادرة على اللاحقين الذين قد يطورون أشكالاً أخرى من القص والإبداع، مغايرة لما بين أيدينا، خاصة أن افتراض نموذج في الأعمال الإبداعية يُعَدُّ من قبيل التحجر والتجمد.
هذا النقاش يجرنا إلى مناقشة مفصلة حول اصطلاحات نقدية في الأشكال القصصية، ولعل أولها: مصطلح «القص» ذاته الذي تأتي دلالته ـ معجميًاـ من تتبع الأثر، ثم تطور إلى معنى الحكاية، ويكاد الخبر والقصة يتفقان في الدلالة على الحكي، وبالنظر إلى استعمالات القصة المختلفة، نجد أنها لا تخرج عن ذلك المدلول، وإن أصبحت مصطلحًا عامًا، ينتظم الفن القصصي بأسره على اختلاف أشكاله. فعندما نذكر «القص» أو «القصص»، لا نقصد فن القصة القصيرة أو القصة الطويلة أو الرواية، بل المقصود دلالة القص أو الحكي بشكل عام.
وهو دلالة مصطلح «الحكاية» نفسه، حيث تنصرف دلالته المعجمية إلى المحاكاة والتقليد، ثم تطورت إلى الدقة في نقل الخبر والحديث، أو تسجيلهما، وفي دلالته بالنسبة إلى اللهجات العامية، فهو يعني ضربًا من التمثيل الفردي، الذي يقوم به ممثل واحد، فيقلد الحركات والإشارات والأصوات، ويسمى الحاكي أو الحاكية أو الحكواتي. إلا أن الحكاية تكاد تقتصر على الاستعمال الحياتي اليومي، كأن نحكي شفاهة أو نروي موقفًا طريفًا، أو فكاهيًا، فهي تُعَدُّ في الأدب الفكاهي من أهم فنونه التي تعبر عن وظائفه، التي غالبًا ما تدور عن مواقف الحياة اليومية، وما فيها من طرائف وأحداث. والمفارقة أننا نجد مفهوم الخبر في التراث، يحمل دلالة القصة أو الحكاية، حيث نقرأ تعريف الخبر وفق كتب التراث بأنه: تاريخ، أي نوع من التفصيل لحادث ذي قيمة في حياة الجماعة، وبناء على ذلك فإن راويه يتحرّى صدق الرواية، ويسوق خبره للعلم لا للتأثير. وبعبارة أخرى فإن الخبر هو: الإخبار عن حدث واحد أو واقعة واحدة، لذلك فهو يشتمل في السرد القصصي على مجموعات وطوائف من الأحداث والوقائع ويستعمل في مصنفات التاريخ والطبقات ونحوها. فهو إذن يتماس مع القص في كونه يــروي حدثًا حكائيًا واحدًا، وربما يُروَى هذا الحدث بشكل تفصيلي أو إجمالي.
إذن، يتعين علينا أن نحدد اصطلاحًا يمكن أن نخرج به من إشكالات التصنيف في الكتب التراثية، ونرى أن الاصطلاح الأمثل والأكثر دقة هو «السرد»Narration الذي يُعرَّف بأنه: خطاب يقدّم حدثًا أو أكثر «وهو أيضًا» إنتاج حكاية؛ و سرد مجموعة من المواقف والأحداث. وبمفهوم آخر، فإن السرد هو العملية التي يقص بها السارد أو الحاكي، وينتج عنها النص القصصي، المشتمل على اللفظ القصصي أو الحكاية. فالسرد ليس أحداثًا، ولكنه إعادة تصوير لتلك الأحداث عبر وسيلة سيميوطيقية هي اللغة في حالة النصوص السردية. ومن هذا المنطلق، ندرك أنه لا إشكالية في تداول مصطلحات من مثل: الراوي أو الحاكي أو الحكّاء أو القاص أو القصاص، فهي مصطلحات تتردد كثيرًا في كتب الدراسات النقدية والسير الشعبية والأعمال الإبداعية، وهي في مجملها تشير إلى دور المبدع النثري في إنتاج عمله القصصي.

إزاء ما تقدم، فإننا نقترح أن يكون مفهوم « الشكل القصصي أو الشكل السردي» واحدًا من النقاط المشتركة بين الأخبار والأحاديث والمقامات والحكايات على اختلاف في الدرجة والأحكام، ولا شك في أن في كل منها توجد طرائق قصصية في التعبير أحيانًا، وطرائق أخرى مباشرة في الحكم أو الموعظة أو التعليم أو المدح أو الذم، أحيانًا أخرى. وهذا ما كان عليه القص القديم، فقد كانت له أغراض تربوية تهذيبية، في اتساق مع أغراض سائر أشكال الأدب الأخرى.
على صعيد آخر، ثمة سؤال يثار مفاده: هل المبدع هو المتحكم في نوعية إبداعه وشكله ومضمونه، أم أن الأجواء المجتمعية والذائقة تملي عليه ذلك؟
إن المناقشة الموضوعية للإبداع الفني تحيلنا إلى قضية علاقة المبدع بالمجتمع، ولا نقصد العلاقة الاجتماعية، وإنما نقصد ذائقة المجتمع للأشكال الإبداعية التي يتلقاها من الأديب. وهناك رأيان في هذا الأمر، الأول: يرى أن مقدرة الفنان تبدع وتؤلف، وتشكل الذائقة وتأتي بالجديد شكلاً ومضمونًا. والرأي الثاني: يرى أن الفن ليس مما تجود به قرائح الأفراد، وإنما مصدره الجماعة وروح الشعب، فهو يصدر من إحساسها ونتيجة تفكيرها. ولا شك في أن الرأيين متداخلان إلى حد بعيد، أو على الأقل نسبيان، متغايران من زمن إلى آخر، وتكون النظرة إلى الفنان من ناحيتين: «من ناحية نفسه ونوازعها الخاصة وبواعثها الدخيلة، وتركيب عقله وطريقة تفكيره، ومن ناحية عصره ومستوى حضارته.
ومن هنا تأتي أهمية تبني مفاهيم علم السرد (Narratology) وآلياته، ذلك لأنها تنير الطريق «للوقوف عند الخاصية التي تقول بأن لعالم السرد شقًا خاصًا متصلاً من عالم التجربة الحسية، بما يعني أن المصطلحات المستخدمة في التحليل، تنبع في الأساس من عالم السرد بوصفه خطابًا لغويًا بالدرجة الأولى. فيلج الناقد خضم النص المسرود أيا كان شكله، متجردًا من قناعاته الفنية المسبقة، غير ساع إلى إسقاط ما يعتقده، وبناءً عليه ستنفتح آفاق المسرود، ويقف على جمالياته، وذلك في ضوء السياق الاجتماعي واللغوي الذي تم تلقي المسرود فيه، ومن الأهمية بمكـــان أن يكون واعيا إلى نوعين من السرد: سرد شفاهي، وسرد نصي/ مكتوب، و يقصد بالأول: الحكايات الشعبية والفلكولورية ( Folktales Oral) التي يتناقلها الناس شفاهة، في حين يُقصَد بالثاني: القصص الأدبية المكتوبة والمدونة التي يُطلَق عليها اصطلاح القص الرسمي في مواجهة القص الشعبي، ويضع فن المقامات والرسائل وغيرها من أشكال القص المدونة ضمن القص الرسمي.



٭ كاتب من مصر



أعلى