محمد جميز - مواطن من الشرق.. قصة قصيرة

يرتدى جلبابه الأبيض ، ويدلف إلى الصالة خائفا يترقب ، استسلم للعتمة وترك جسده يحتضن الأريكة ثم أشعل سيجارة ، والسيجارة فى البيوت المنسية وَنَس ورفيق . ما زالت رائحة الزمن تضوع فى الصالة ، والأوراق القديمة نائمة على الطاولة لم تستيقظ بعد ، اختلس النظر إليها ثم نهض وأزاح عن وجهها بعض الأسى وبدأ فى القراءة ، ولكن فى حقيقة الأمر بدا وكأنه يتلو ، لعل هناك من يستمع له ويتفاعل مع قصته .
9-9-2000
أنا مواطن من الشرق،حيث يفقد الوقت أهميته ،والتقويم اليومى رمانة ميزان لمواعيد الطعام والزواج، أنا مواطن من الشرق حيث أحلامى فى الأساس هى حقوقى الأساسية للحياة ..
فى هذا التاريخ كنت على وشك الإلتحاق بالصف الثانى الثانوى، وأبواب الألفية الجديدة كانت متأثرة بأجواء التسعينات ،وأيام التسعينات عالم يقطر حبا ،والغد لى كائن لم أهتم بتفاصيله كثيرا، عرفت وقتها نزار قبانى وقصيدته قارئة الفنجان، تناولت دقات صوت حليم يوميا مع ألحان الموجى على مائدة الإفطار، كنت كائن سعيد جدا ..
كانت رؤيتى للحياة تنحصر فى : أن تسير إلى مدرستك باكرا والشارع يرشك بصوت عمرو دياب ،تلتهم رغيف الفول والطعمية الساخن فى شهية مع كوب عصير القصب الكبير، القلوب كانت خضراء ،القلوب كانت مداحا يجوب البلدان لزرع قصائد الفرح ..
كنت أجهل الموت ، رأيت زميلى الدراسى نائما محتضنا دمائه وأمه تصرخ ،وصراخ أمه كان الدرس الأول لى عن الموت، العام الدراسى الجديد على وشك البدء، وزميلى هذا صاحب الرابعة عشر ربيعا كان فى رحاب أوسع، وقلب أمه كان فى السماوات يكتب حلما مظلوما ،قلب أمه كان مستندا إلى قلبى ينتظر الغائب أن يأتى ..
أيقنت وقتذاك بأن الموت زائر لايعترف بالمواعيد، ولأول مرة ينزف القلب ، وعرفت حينذاك بأن هناك كائنا آخر اسمه الفراق ..
5-7-2009
العشرينات مرحلة حيوية فى حياة الإنسان،هذا هو المفترض،ولكن بالنسبة لى تمزقت هذه السنوات مابين ماتريده أنت ومايريده الواقع، تقف أمام أقرب بحيرة ،وتفكر قليلا ماهى أسهل وسيلة للإنتحار،الحلال والحرام وقتها مفاهيم معقدة لاتعبأ لها كثيرا، حلمك الميت تكفنه وتحمله معك،تتذكر معلمك فى المرحلة الإبتدائية يسألك وبحماس الدنيا تخبره بأنك تود أن تكون قاضيا ..
تكتشف بأن الحب ماهو إلا بطل ورقى يعيش بين أروقة الأفلام والأغانى ،تدرك بأن المظلوم يتعاطف المجتمع معه بقلبه ،المجتمع يوقر الظالم كثيرا،هنيئا لمن كان ظالما،إنه على الأقل يستطيع أن ينام قرير العين ،نظرت إلى البحيرة ثم إلى السماوات ،وهربت منى دمعة ورحلت أحمل حلمى الميت ..
1-1-2015
المسجد صغير جدا،الإمام صوته مزعج،يخطىء كثيرا فى تلاوة آيات القرآن الكريم،لماذا لا ينعقد كشف هيئة لإختيار هؤلاء الأئمة،ألم يأتى فى بال أحدهم بأنه من الممكن أن يقابل سيدنا النبى،سأقف أمام سيدنا النبى فى أدب ،سأقبل يديه الشريفتين وسأهمس : زرعوا القلوب بالعفن ،قتلوا الإبتسام فى الوجوه،وسرقوا الشمس من العيون،ولم يميطوا الأذى عن الطريق ،ونحن كنا الطريق ..
1-9-2018
أنا سعيد، كررها قبل النوم،قلها بعد الصحو،حتى وأنت فى معركة البقاء اليومية،لاتتردد أنت سعيد ..
اسمى سامح، اكتشفت فجأه بأننى على مشارف الخامسة والثلاثين ،همست لطبيبى النفسى : ماهى الجملة التى تتسع لثلاثين سنة قضيتهم فى كوكب الأوغاد هذا ؟!
اسمها دينا حيث الغنج والخجل يسكنان جسدا واحدا،شهادة الهندسة وسنوات الخبرة وسجل ترقياتى وضميرى الحى كانوا سببا فى طردى من العمل،اسمها دينا حيث القلب يسكنه النور،والأيادى يقبلها القمر،اخوتى مزقوا من ذاكرتهم الشاهد الورقى بأننى كنت أباهم بعد موت أبيهم،سرقوا إرثى؛ولكنهم فى الحقيقة سرقوا قلبى، اسمها دينا حيث أقف أمام قبرها الآن أبحث عن قلبى ..
أمر من أمام الأزهر الشريف،أشتم عبق الماضى وروائح الصالحين،وأنظر إلى السماء،أنا سعيد يا دينا، سأكررها قبل النوم،أحمل رأسى وأحملنى وأبكى ..
أتساءل هل يعرف أبى صنيع إخوتى ؟ هل تعرف دينا أمر جنازتى اليومية؟ هل يشعر مديرى بأنه قتلنى وداس بحذائه عرق عشرسنوات؟ أتساءل وأتساءل ..
طبيبى النفسى يشعل سيجارة رائحتها كرائحة دموع الطيبين ،الطيبون يحضرون جنازاتهم يوميا سواء أدركوا أو لم يدركوا،أقول مرة أخرى : ماهى الجملة التى تتسع لثلاثين سنة قضيتهم فى كوكب الأوغاد هذا ؟!
من بعيد يأتى محمد فوزى بأغنيته الخالدة "تملى فى قلبى ياحبيبى" ..أصافح فوزى وأترحم عليه،وأنظر إلى السماء : أنا سعيد يا دينا،سأكررها قبل النوم وبعد الصحو، حتى وأنا فى معركة البقاء اليومية، أنا سعيد ..

محمد جميز

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى