صابر رشدي - عن وفيق الفرماوى

لم يكن شخصا عاديا ، فاترا ، خامل الذكر ، بل كان واحدا من أشهر المثقفين الذين يضيئون وسط البلد ، بحضوره الطاغى ، وحيويته ، وأرائه المذهلة ، قاصا فريدا ، كتب العديد من المجموعات : القتلة /روح الروح/ كواك كواك ،،،الخ ،له اسلوبه الخاص ، وكتاباته التى تنبع من مخيلة جامحة ، وإن كان شديد الحذر والحذف فى الكتابة ، لايستعمل صنفرة عادية ، لكنه يلجأ إلى مبرد حاد جدا . كان حكاءا غير عادى ، مثيرا للدهشة ، يحسده لصوص الكلمات ، ويسرقون أفكاره وحكاياته الفاتنة ، عندما كان يثرثر هو والعم صبحى مشرقى ،يلقيان الكنوز والمعارف والحكايات على حجر جرذان الثقافة ، كان كثير من الكتاب يأتون إليه ، ينصتون الى نصائحه وتوحيهاته ،واساطيره وخرافاته ، التى يلقيها متبرعا .ثم يغيبون فترة قليلة يعودون بعدها ، يحملون روايات ومجموعات قصصية ، مأخوذة من فمه ، واضعين ساقا فوق أخرى ، ويتحدثون من آنوفهم ، بينما هو يتآكل كمدا وقهرا _ ملعون ابو اللى اخترع القطار _ ليه ياعم وفيق _ علشان عمال يحدف علينا شوية جهلة ، يسرقوا منا الكلام ويعملوه كتب ، كنت أضحك ، وأستمر فى الضحك ، من غضبه الطفولى ، وشتائمه الساخرة ، _ شفت ” القزعة “ ابن الحرامية ،اللى مياعرفش يكتب كلمتين من غير مايكون سارقهم ،،،محدش عارف يكلمه دلوقت . أنادى العامل ، أطلب شيئا حتى يهدئ قليلا . _ هات واحد مية نار ، وواحد مازوت يتوجه عامل المقهى الى عم وفيق _ واحد مية نار بالحليب ،ولاسادة ؟ _ بالسم مية النار ، كناية عن الزنجبيل المشروب المفضل له ، والمازوت ، هوالشاى الأسود الثقيل الذى اشربه . فى فترة من الفترات ، كان هناك صراع فني ،بينه وبين شاعر عامية شهير ، كانا يتنافسان على الكتابة لمطرب نوبى صديق ، بدأ نجمه يلمع فى هذه الفترة فى غفلة من محمد منير . كان المطرب يجالس المثقفين ، ويركن إليهم ، متخذ سمت موظف عادى ، رصين وجاد ، رغم ابتسامته الدائمة وطيبته ، وكنت أتنبأ له بأنه سيتعفن بيننا دون أن يأخذ مكانته المستحقة ._ يابنى سيبك من قعدة المثقفين ، اعمل شعرك ضفاير ، اوديل حصان ، البس بنطلون چينز مقطوع ، أو اخترع قصة غرامية ساخنة شوف حد" يبوسك "، وبلغ عن نفسك ،خلى حد يسرب الخبر ،ساعتها هاتضحك لك الدنيا وتبقى أشهر مطرب فى البلد .. كنت اقول له ضاحكا ، ومشفقا على موهبته المبددة بيننا .كتب له وفيق الفرماوى ، اغنيات رائعة ، مستعيدا بداياته الاولى كشاعر عامية متميز . اطلعنى عليها ، بعدما كان يعتبرها سرا حربيا لايجوز مطالعته ، لكنها لم تلحن حتى الآن . كانت تربطه صداقة عميقة بالعم محمد مستجاب، وسعيد الكفراوى، ومكاوى سعيد ، وفتحى عبدالله ، واسامةالحداد ،وكثيرون غيرهم . ولم يكن من السهل نسيانه انهياره ودخوله فى نوبة بكاء حارقة ليلة تأبين العم مستجاب _يرحمه الله _ رغم ماشاب علاقتهما فى اواخر حياتهما ،حتى بكينا جميعا معه . بكاء موجعا . من المواقفةالغريبة فى حياتى ،أن أقابله قبل وفاته بساعات قليلة ، فى لقاء فريد ، ولحظات لاتنسى . اذكرها لأن لها صدى لايزول من ذاكرتى حتى كتابة هذه السطور ، فى هذا اليوم ،نظر لى متجهما ، نظرة أب . _لحد امتى ، هاتقعد كده من غير ماتنشر كتاب ،حرام عليك ثم أردف مواصلا ، انا لسه راجع من جريدة الاهرام ، كنت فى زيارة مهدى مصطفى ، انا وفتحى عبدالله وعبد النبى فرج ، الجلسة كلها كانت عما تكتبه . ثم استمر فى الحديث عما يخجلنى ذكره ، كان سخيا ،كريما معى ، تخليت ابى يوبخنى ، ليدفعنى الى الامام . _ العيال المخبرين ، اللى مابيعرفوش يكتبوا ، بقوا يحطوا ارجلهم فى وجوهنا . راح يتحدث ذاهلا ، عبر عملية استبصار فريدة ، كأنه يحدث نفسه ، معددا اشياء كثيرة .كان يوقظنى من كسلى، وعدميتى ، وينفخ فى روحى محبة خالصة للنهوض ، ونفض تراب الوسن . عندما عدت الى بيتى ، وكلماته ترن فى أذنى ، يتردد صداها موجعا ، منبها ،حانيا رغم قسوته ،و على الواحدة صباحا ،تقريبا، رن هاتف المنزل ، كان أحد الاصدقاء ، يبلغنى بنبأ وفاة وفيق الفرماوى ، وسط ذهولى ، وتحشرجات تألمى .
أعلى