ياسر عبدالباقي - سعيدة

للصديقين علي المقري وعمرو الارياني

اسمي سعيدة , غالبا ما يستعمل هذا في مجموعتنا .. لكن سريعا ما كرهت هذا الاسم , رغم جمال معناه .
أصبحت واعية في سن مبكر .. لم أبلغ الخامسة . حتى أدركت كثيراً لم الناس المختلفون يكرهوننا .
بدأ اسم علي المقري يتردد أكثر من مرة في أحاديث عيال حارتي . كنت أحسبه لاعبا ,فالكرة بعد القات تستهوي الشباب , كنت أظن ببداية الأمر أن المقري منا .
حتى استوقفت مرة حسن وهو يمر بجانب بيتنا .. سألته :لأي فريق يلعب المقري .
نظر إليّ بدهشة .. ثم انفجر ضاحكا : لاعب .. هذا كاتب .. كاتبنا.
ومشى مبتعدا عني وفي عيينة سخرية . وفي وجهي دهشة : أي كاتب يستهوي عيال حارتي .. وهم لا يستهويهم قراءة الجرائد أو الكتب .
"صرنمبح" الصياد توقف أمامي دون أشعر به : سعيدة تتزوجيني .
توقفت أم جمال جارتنا .. في ركن الحافة .. قالت بصوت مرتفع : "صرنمبح" .. سعيدة لابني جمال وكل عيال الحافة يعرفوا هذا .
دخلت بيتي .. حين بدا صوت "صرنمبح" وأم جمال في الارتفاع .
عادت أمي وأخي من السوق حاملين الكثير من الخضار.. هتف أخي الصغير : سعيدة شوفي.
كان قد جعل يده الصغيرة مثل القبضة .. وكشف عن نقود معدنية تملأ كفه :
ـ سعيدة حصلت اليوم على خمسين ريالاً .
غالبا أمي لا تشتري الخضار فهي تحصل عليه مجاناً مقابل عملها مع بائع الخضار حيث تقوم بتظيف الخضار من الأوساخ أو الأتربة.. منذ أن كنت طفلة كنت أذهب مع أمي.
لكن منذ خمس سنوات امتنعت عن الذهاب معها .
كان ابن صاحب بائع الخضار قد حاول التحرش بي. كان أصغر مني سنا. لكن منذ أن أظهر لي رمز فحولته , أيقنت أنه كبر وسيحاول كثيرا التقرب مني.
حتى أنه مرةً أمسك يدي وقال : سعيدة أنا عايز أجرب معاك .


اعتاد "صرنمبح" أن يشتري لي من حين إلى آخر المجلات أو الجرائد المستعملة , كان يعرف أني شغوفة بقراء الصحف أو المجلات الفنية , وعندما أفرغ منها , يأخذها مني ليبيعها مرة أخرى بثمن أقل .
ورأيت صورة لرجل أبيض يلبس نظارة عريضة وبدا شاربه كثيفا , وكتب تحت الصورة الروائي على المقري .. كان يدور الحديث عن رواية كتبها المقري عن حياة الأخدام .. بدأت بعض مقتطفات الرواية مثيرة وغريبة , احتفظت بنسخة الجريدة. وطلبت من "صرنمبح" أن يبحث لي عن الرواية.
تركت الدراسة في أول ثانوي.. أخبرتني أمي بأنها لا تقدر أن تصرف عليَّ .. كنت اكتفيت من الدراسة . وفضلت البقاء في البيت . وأخي ناصر يعمل في بلدية المدينة براتب يومي .. مصروفه للقات أو التمبل . كثير من الأوقات لا نشاهده في المنزل . أخبرني مرة أنه تزوج ويقيم في صندقة من الزنك في أعلى الجبل أمام حارتنا .
- ذاك هو البيت هل تشاهدينه .
أشار بيده نحو عشة صغيرة من الزنك , كانت الشمس الحارقة تعطي العشة لمعة واضحة للعيان .
- هل أعرفها ؟!
لم يشأ أن يخبرني من هي زوجته .. تركني دون أن يقول شيئاً ..
توقفت سيارة أمامي .. وقال سائقها :
- يا حلو أقدر أوصلك
تابعت المشي بخطوات سريعة .. وتابع هو السير نحوي :
- أوصلك .. ونتعرف .. سأعجبك ؟!
لتفتُّ نحو غاضبة , ثم حدقت بالسائق الشاب بدهشة وصرخت :
- عادل مش معقول ؟!
ارتبك عادل .. ثم قال :
- هل تعرفينني ؟
- طبعا مش أختك سالي
- آه

فتحت باب السيارة وركبت بجانبه .
شعرت بخجل شديد ,عندما رأيته يرتدي سروالاً قصيراً جداً , يُظهر فخدهُ الأبيض المليء بالشعر .
قلت :
- سعيدة , صديقة أختك سالي .. دا كان زماااااان
انفجر عادل فرحاً :
- أيوه تذكرتك .. مش معقول .. من يصدق أني سأراك مرة أخرى كيف حالك .. ايش أخبارك.
سألته عن سالي ,أخبرني بأنها تزوجت وسافرت إلى ألمانيا .
كنت في السادسة من العمر عندما تعرفت على سالي , كان لسالي وجه ملائكي وجميل , اعتادت سالي كلما وجدت فرصة تأتي لتزورني في منزلي دون علم والدتها , ثم اصطحبت معها أخاها عادل الذي يكبرها بثلاث سنوات , كانت حياتنا مختلفة كثيرا عن حياتهم , لم يكن هناك نظام معين في حياتنا نعيش من أجله , تأثر عادل بنا كثيراً وانخرط كثيرا بحارتنا , وبدأت تصرفاته وكلامه تتغير , بدا أكثر تمردا من أخته , حتى أن والده تبعه مره بعد أن دهش من تصرفات ابنه الغريبة .. حتى رآه يدخل حارتنا ثم بيتنا .
دفع والده باب بيتنا برجله وكان يصطحب عسكريا , مسك ابنه من شعره , ثم وجه كلامه إليَّ .. حيث كنت وحدي في البيت :
- ابتعدي عن ابني .. وإلا كسرت رجلك .
وجر عادل خلفه , كان عادل صامتا , لم يشأ أن يبكي أمامي , تبعتهم خلسة , بمجرد أن خرجوا من حارتنا انفجر عادل بالبكاء .
لكن عادل الآن مختلف, كبر وأصبح شابا ووسيما جدا , رأيته مره قبل أكثر من سنة و معه فتاة من حارتنا , وأيقنت أن عادل لم يتغير, مازالت رائحتنا وحياتنا تعجبه .
قلت له : يجب أن تأتي يوما لبيتنا .. ستفرح أمي بك.
- مازالت عائشة تلك العجوز .
- طبعا .. أمي هي هي .. لم تتغير. وأخي تزوج وطلع الجبل ليسكن فيه .
- وأنت
- اعتقد أني سوف أتزوج قريبا .
- جميل.. أنا في الوقت الحالي لا أفكر بالزواج .


- عادل سأطلب منك شيئا هل تساعدني .
لا ادري لما سقطت عيناي سهواً نحو فخده, بادلني بابتسامة بريئة , أخبرته أني أبحث عن رواية كتبها كاتب اسمه علي المقري , اخبرني أنه لم يسمع عنه , لكن لديه صديق وهو شاعر مجنون اسمه عمرو الارياني لعله يساعدني في بحثي عن الكتاب . أعطاني رقم تلفونه , ودعت عادل وتمنيت منه أن يزورنا في بيتنا , أخبرته أن بيتنا قد تبدل , لم يعد من الصفيح , أصبح من الحجر , وأن التلفزيون والريسيفر قد دخلا إلى البيت , وكان لدينا تلفون لكنه مفصول منذ أكثر من سنة , أخبرته أيضا أن حارتنا أصبحت أكثر تنظيما من السابق .
- هناك أشياء كثيرة قد تغيرت يا عادل .. إن زيارتك لحارتنا ستكون مختلفة عن السابق .. أنت قد كبرت ولن يأتي احد ليراقبك.
هز لي رأسه مبتسما .
- لا تأت بهذا السروال إنه يكشف ...!
لم يسمعني .. كان قد ابتعد وهو يلوح لي بيده .. راقبته من بعيد .. وفتاة أخرى تركب معه السيارة .
كان صوت عمرو سريعا في التلفون .. تذكرت عادل عندما أخبرني عنه بأنه شاعر مجنون .. لكنه لم يخبرني بأنه سريع الكلام .. كانت الساعة السادسة مساء عندما اتصلت به , لعله كان في هذا الوقت يمضغ القات.
- نعم .. نعم .. رواية علي المقري موجودة مع صديق لي .. أقدر أجيبها لكِ .
- بكره .
صادفت في طريقي أمينة , أمينة امرأة في منتصف الأربعينيات , تزوجت أكثر من مرة , تهوى الرجال الصغار , أخبرتني مرة صديقتي , أن أمينة مولعة على طول .
احتضنتني أمينة بشدة , لدرجة شعرت برجرجة صدرها , كنت في دهشة منها . بدت بشوشة وفرحة .
- هل تزوجت يا أمينة ؟!!
ضحكت .. ضحكتها ذات رنين طويل وجذاب .. قالت وهي تخفي كيس القات في صدرها :
- تزوجت يا حبيبتي .. نحن السابقون وانتم اللاحقوووووون .
طلب مني عمرو أن أحضر إلى مكتبة في الضرائب , كنت أفضل أن ألتقي به في المكتبة العامة, أخذتني الفراشة إلى عمرو , بدا لي مرهقا, عندما أخبرته الفراشة بأني أبحث عنه ,


تفاجأ بي , لعلي لم أعجبه , بدا مترددا , التفت نحو زميله , كان جالساً بجانبه صامتا يحدق بي , وإن كنت لمحت في عيينه سخرية خفيفة.
- تفضلي .. تفضلي .
جلست , وأنا أرى تردد عمرو , إن الحديث في التلفون لا يكشف لك حقيقة المتكلم, شكله ولونه , هكذا أحببت أن أخبره أن ( لا يهتم بشكلي أو لوني ) , لكني فضلت الصمت قليلا , وإن لمحت زميله يغمز له , ثم يرحل , وهو يكاد يضحك .
- هل أحضرت الرواية ؟!!
- نعم .. نعم
فتح حقيبته وأخرج الرواية .. وقال :
- ليت ملكي .
- سوف أصورها وأرجعها لك بعد أقل من ساعة !
بدا فرحاً بفكرتي . كأني أنقدته من تردده .. يوم أمس كان متلهفاً , لكي يعطيني النسخة .. والآن بدا مجبراً .
طلب من الفراشة أن تذهب معي وتعود بالراوية .
تفحصت الرواية سريعاً وأنا أخطو درجات مبنى الضرائب إلى الأسفل , الصفحة الأولى كتب عليها إهداء " الصديق ياسر عبدالباقي . انحراف باتجاههم .. علي المقري " ماذا يقصد علي انحراف باتجاههم .. هل هو انحراف سيئ .. كنت متلهفة لقراءة الرواية.
عدت ’ وجدت أمي مريضة , أخبرني أخي بأن أمي سقطت من على سلم السوق , وحدث لها كسر في إحدى أصابع القدم.
كانت تتألم بشده , ورحت أربط إصبعها المصابة , وطلبت من أمي أن تحاول النوم .
بدأت في قراءة الرواية .. بدأت تفاصيل الرواية عن حياتنا غريبة , جريئة , .. تمنيت في هذه اللحظة أن أرى أبو مريم .. كبير حارتنا , كان يحفظ كثيراً من الأغاني القديمة والأمثلة والحكم , كثيراً ما يروى لنا قصص أجدادنا , لكن قصصه تختلف الآن عن رواية علي .. أيهما يكذب .
مات أبو مريم واقفا . هكذا أخبروني , كان يغني وهو مستند على عصاه الشهيرة , توقف قلبه فجأة .. ومات.
غلبني النعاس , كانت الرواية ممتعة في فصولها .. لكن النوم أقوى.


اشتد الوجع على أمي .. وطلبت من أخي أن يذهب للجبل وينادي أخاه . لكنه رفض.
فذهبت أنا غاضبة , كنت أشتم طوال الطريق , وألعن أخي وزوجته وصندقته .
أطلت من الصندقة أمينة بثوب خفيف يكشف صدرها المترهل .. :
- سعيدة .. ادخلي .. أخوك نائم .
كنت في دهشة كبيرة , أمينة أذاً كانت زوجة أخي .. أمينة " المولعة " التي تحب الرجال الصغار " .
كان أخي نائماً , نصف عار , قبلته أمينة في مؤخرته عمدا وقالت متدلعة :
- زوجي حبيبي .. أختك .. هنا .
وقف فجأة مرتبكاً وكادت تفلت منه الفوطة . نظر إليَّ بدهشة وارتباك ثم غضب :
- ايش جابك.
فخذ أخي لا يشبه فخذ عادل .
لأخي جسد شديد السواد .. قال أيضا وهو يدفعني للخارج :
- لا تخبري أمي انك شاهدتني مع ..
- أمي مريضة .. تعال خذها لعيادة المصعبين .
مرة أخرى التقيت بعادل .. قلت له :
- خذني بعيداً.
سألني بدهشة :
- أين ؟!!
- حيث كنت تأخذ, فاطمة , وفوزية ومسعدة و...
حينما كان عادل يقودني معه بسيارته تذكرت ابن صاحب الخضار , عندما كان يستغل غياب والده كان يسرع في التحرش بي . يستغلني وأستغله . يستغلني : أترك يده في الخفاء تتحسس صدري . أستغله : يعطيني الكثير من الفاكهة التي أحبها.
وحدنا في الشاطئ.. أنا وعادل .. كان الوقت ظهراً شديد الحرارة .
- إذاً هنا كنت تأتي بحريمك !
- نعم.
بدا صوت عادل مختلفاً هذه المرة , كان ينظر إلى صدري وأسفل صدري ..
سألته :
- ما الذي يستهويك في الأخدام .. نحن بشر .. يمقتنا الكثير من أمثالك .. وأنت ..
ابتسم عادل , وقال: من يشرب من مائكم ويأكل من طعامكم .. يموت معكم .
أعجبتني جملة عادل , وتمنيت أن يكون مثل عبدالرحمن .. بطل رواية علي المقري ..
لعادل رائحة تختلف عن صرنمبح .. كل شيء مختلف عنه .. لا أحد يقطع سكينتنا .. سوى صوت الموج وتهتك صوتي .






هوامش:
عمرو الارياني : شاعر يمني
علي المقري : كاتب وروائي يمني صاحب رواية مثيرة للجدل " طعم اسود .. ورائحة سوده ".
- الأخدام : جماعه مهمشة يعود أصولها إلى أفريقيا .. واسم سعيدة شائع في هذه الجماعه .


اليمن
ياسر عبدالباقي, ‏3/11/09


ياسر عبدالباقي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى