عبدالله الطائي - اختفاء امرأة

طرق باب بيت عبدالحليم المهندس، وبعد لحظات ناوله الخادم ورقة.. وجال بنظره فيها.. وقرأ "ستكون الحفلة يوم الخميس القادم فأرجو تفضلكم بالحضور"…. وطواها وهو متهلل الوجه تبدو عليه سيما الفرح والسرور، وقال لمن كانوا معه: بعد غد سيكون عقد قران زميلنا شاكر، وها هي بطاقة منه يدعوني فيها إلى الحضور. وقال أحدهم: جعله الله قرانا ميمونا إنه نعم الرجل، وأجابه عبدالحليم: أنا رئيس دائرته، وإني أشهد له بخلقه الجم، وخصاله الحميدة، واستمروا في حديثهم عن شاكر وأمانته، وقال أحدهم: إنه قدوة حسنة لباقي زملائه..
اليوم موعد الحفلة، واستعد شاكر وأهله لها، واستعد المدعوون للذهاب إليه، هاهو البيت غاص بالمدعوّين، هاهو العريس، وقد زادته ملابس العرس جمالا…. ونظر إليه زملاؤه نظرات تنم عن الحب والإخلاص، وجلس يداعبهم، واغتبط البعض لهذا الحادث السعيد… ذلك هو شاكر، وتلك هي أخلاقه مع معارفه. أما العروس فلها جمال نادر تنظر إليها فتغضي عيناك خجلا من جمالها، وتسأل فلا تسمع عنها ما يشين.. فتاة طاهرة نوار.
مضى أسبوع على الزواج! فكر شاكر أن يشغله شاغل عن وظيفته، فخرج لأداء ذلك الشاغل لأول مرة في زواجه ، وخرجت زوجته لتودعه، وطبع على جبينها قبله الحب والإخلاص وخرج إلى دائرته وهو باسم الوجه، ورجع إلى البيت وهو متعطش الشفتين، فرواهما.
كانت السعادة تخيم على هذه الزوجين السعيدين، يغادر البيت، ويرجع وهكذا، (………) وهو يفكر في سعادة زوجته، وتغادر البيت، وهي تفكر في زوجها، لأنها لا تستطيع فراقه، وتتابعت الأيام، ومضت ثلاثة أشهر على الزواج، ومضى يوم واحد على موعد زيارات الأولياء..
ودخلت سليمة على صديقتها الزوجة، لتعرض عليها الزيارة، وأبت في بادئ الأمر، وأخيرا رضخت لإلحاح صديقتها سليمة، واستشارت الزوجة زوجها، فلم يستطع كسر خاطرها من جهة، لمضى عدة سنين لمجاورته لبيت سليمة وزوجها، وهو لم يعهد من أهل هذا البيت إلا ما يكون بين الجارين، وما إن حل الخيط الأبيض محل الخيط الأسود، وبدت ذكاء في الشروق وأرسلت أشعتها الذهبية إإلى أرجاء المدينة، انتهى شاكر من إفطاره، وخرج من البيت، وطبع على شفتي الحبيبة قبلة (…………) استعاد بها ما سيفقده من ذلك خمسة عشر يوما.
واستعدت الزوجة لموعد الصديقة، بعد قليل كانت سيارة تخترق الشوارع وبها امرأتان تلكما المرأتان هما: رفيعة وسليمة، وأوصلهما السائق إلى قبر الولي، ونزلتا وجالتا بناظريهما إلى الجماهير المحتشدة، وعجبت رفيعة لذلك أشد العجب!! فهذه أول مرة تزور فيها قبر ولي، وجرتها سليمة من يدها وقالت أسرعي يا أختاه (……… ) سأنتظرك على باب الخروج فلن نستطيع الخروج سوية، ودخلت، وسألت رفيعة الولي أن يرزقها بكرا تقر به عيناها، وعينا زوجها، وهكذا يكون اعتقاد النساء، هكذا أضلـّت الصديقة صديقتها؟!!..

وخرجت!! وحاولت معرفة الطريق، فلم تستطع لذلك سبيلا، فلقد دفعها احتشاد الناس إلى باب آخر وانتظرت سليمة حتى كلـّت، وفتشت فلم تجد لصديقتها أثرا، وقلق خاطرها، وانحدرت الدموع من عينيها،. ورجعت إلى البيت على عكس الحالة التي خرجت بها منه، وخرجت وهي طلقة المحيّا تنم نظراتها عن أمل، ودخلت وهي مقطبة الوجه، تنم نظراتها عن حزن، وسألها زوجها فأجابت رغم القهر المستولي عليها..
ورجع الزوج إلى البيت، والروح تطلب أليفتها والذراعان ما تعودتا، والشفتان من يرويهما؟. القلب يطلب أمله. أينها؟. عجبا!.. إلى الآن لم ترجع؟! ونظر إلى الساعة، وقلق، ومرت دقيقتان ونظر إلى الساعة فلم يستطع صبرا.. وذهب إلى الجارة، يسألها، فلم يجدها؟. وازداد قلقه، فوقف وقفة المبهوت لا يعرف من الأمر شيئا، وإذا بيد تلمسه، فنظر، وإذا زوج سليمة، وقص عليه القصة، أين ذهبت إذن؟. أضلت الطريق ؟ ، أسحقتها السيارة؟! أماتت من الازدحام لا يدري؟.
كانت الزوجة حينذاك تمشي في طريقها من غير هداية، عساها تصل البيت، ومرت عليها عجوز تنم نظراتها عن الخبث.. وقفت تتأمل فيها، وعرفت أنها ضالة، وفكرت في طريقة اصطيادها، واهتدت إلى الفكرة، فتقدمت نحوها، وقالت (أهلا يا بنتي هل أتيت زيارتنا) ووقفت الفتاة، وتأملت في العجوز، وفكرت في كلماتها، لزيارتنا… ترى من تكون هذه العجوز؟. هل تعرفني؟. عساها تكون سبيلا لإيصالي إلى بيتي , وأدركت العجوز ما جال في خاطرها، وقالت : (ألا تعرفيني أنني صديقة أمل ، هيا تفضلي، وادخلي بيتنا، لتأخذي غداءك. إنها فرصة سعيدة يا ابنتي، كم تمنيت أن تزوري بيتنا، وقالت الفتاة في نفسها: لأذهب إلى بيتها فلعلها محقة في قولها، وإذ لم أذهب، فهل يليق بي كامرأة شريفة أن أظل تائهة في الطرق ؟، ودخلت بيت العجوز، دخلت ولكن ماذا رأت؟. ورأت فتيات كثيرات العدد فأدركت أن لذلك معنى، وحارت في أمرها، ورأت رجالا يدخلون البيت فيسلمون وآخرون يخرجون فيسلمون بعض ما حصلوا عليه من كد نهارهم.. وأخيرا اهتدت إلى الأمر؟. فعلمت أن هؤلاء الفتيات إن هن إلا بائعات شرفهن لرجال الشهوات، ومستبدلات صونهن وعرضهن بالدرهم والدينار، ومن يدري، فلعل أولئك الفتيات وقع عليهن ما وقع عليها.
وهمتّ الفتاة بالهرب، فمنعت ، صعدت السلم لترمي بنفسها من السطح، فإما حياة أو موت، ولم تصعد بضع درجات إلا ورأت أربع فتيات يلزمنها ويكتفنها، ودخل رجل إلى خيمة المكتفة، وحاول أن يهم بها، ولكنه لم يفلح، وتكررت تلك المحاولة منه مراراً، ورفيعة تناضل عن شرفها وتستعين وتستغيث.
وحار الزوج في أمره، وظل طول تلك الأيام التي فارقها فيها طريح الفراش، وأخيرا أخبر الشرطة لكن نفسه لم تهتد، ومنعته ثقته بسليمة أن يشك فيها، وبرفيعة، وأن يظن فيهما سوءاً، وبلغ أهلها الخبر بعد يومين على وقوعه، وأخيرا شاع الخبر في المحلة: إن عند العجوز امرأة كتفت لبيع شرفها, لكنها تأبى وتناضل، وعلمت الشرطة بأمرها، وأنيط الأمر إلى شرطي سري، فدخل البيت وسأل العجوز عن الفتاة الجديدة، فقالت هن أربع، فاختر من تريد، وصفت الثلاث والرابعة مكتفة، اضطربت العجوز حينما رأته يخرج صورتها من جيبه وعرف الفتاة، وصـفّـّر فإذا الشرطة تحيط بالبيت وألقى القبض على الجميع .
وأخبر الزوج بالخبر فشفى في الحال ، وذهب إلى مركز الشرطة ، وإذا بفتاته كزهرة ذابلة ، وتذكر ذلك الجمال ، فحار في أمره . الأهل غاضبون ، الأقوال اختلفت ؛ فمنهم من يعتقد فيها خيرا ، والآخرون سوءاً ، فأي قول يأخذ ، كل يشير عليه بمشورة فأيهما يأخذ ؟! .. وإذا عفا فماذا سيعمل أهله وأهلها ؟، أما هو فلا يعتقد فيها إلا خيراً ، وتذكر تلك السعادة الزوجية واغرورقت عيناه بالدموع ، ونظرت إليه نظرة استعطاف وأمل ، ثم عاودتها الذكرى فبكت .. وأعاد النظر ، وأعادت ، ووقف ففكر ، ثم قال في نفسه : وليكن ما يكون فإنها ملكت قلبي ، وأنا معتقد أنها لم تعمل ذلك ، وهي راضية ، ثم ورد إليه تقرير الشرطة فازداد يقينا وقال : إذن لن أبالي بكلام الناس ، وقال : تعالي يا رفيعة لقد عفوت عنك ، تعالي لنعيد تلك الحياة السعيدة ، وهرعت إليه ، وأعاد تلك القبلة التي طبعها على شفتها قبل خمسة عشر يوماً .

ولم يطق بعد ذلك الاختلاط مع الناس ، لما سمع من أقاويل ، فاستقال من وظيفته واعتزل وزوجته الناس ، وها هما يعيشان ، وقد عادت تلك الحياة السعيدة ، وعادت الزهرة إلى رونقها .. ولقيت العجوز قصاصها .

8/11/1940



* سلطنة عمان..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى