مجدي حشمت سعيد - صراخ الشُّرُفات.. قصة قصيرة

التهب رأسه وانصهر مخه، اضطرب جسده بشدَّة وارتعشت أطرافه مشاطرة له، انتفض من رقاده فجأة رافضًا الاستسلام لفكرة الموت "الفطيس" دون أن يأخذ موقفًا، أسرع إلى الشرفة وفتحها بقوة غاشمة، صرخ عاليًا بجنون في مّنْ لا يراه:
"لا...لا...لا"
عاد يتقلَّب على سرير قلقه بجانبيه المهترئين وظهره الذي يئن بآلام جروح الكون وبطنه المنتفخ بكل هموم الدنيا، ها هو النوم والأرق يتصارعان على حلبة معاناته الهرمة واثقًا من نهاية معتادة يكون الفوز فيها لجحوظ المقلتين وتأجج الذِّهن والتهاب القلب. يوقن أن المعضلة في رأسه هذا الذي يحتضن دومًا سبب ألمه وأرقه المزمنين، يمور داخل جمجمته حمم براكين العالم وقد اغتصبها واحتكرها كلها له وحده، ها هي تكاد أن تفجِّر رأسه باحثة لها عن ثقب إبرة في كتلة عظامه الصلبة لتتخذ منه منفذًا لثورتها الكونية الكبرى.
الحقيقة المُرَّة التي يدركها الآن أننا جميعًا أصبحنا هدفًا لسيول سهام اللعين الفتَّاكة!
سبق له وأن مرَّ بتجارب الموت واستعدَّ له مسلِّمًا روحه ونفسه وجسمه لقضاء الله سبحانه مؤمنًا وراضيًا به إلا أن إرادة القدير شاءت له أن يعبرها جميعًا بسلام وينجو من النهايات المبكِّرة إلى أجل لا يعلمه إلا الله وحده. أنقذه إيمانه من الإبحار في ندم اختطفه للحظات تحسَّر فيها على ضياع فرص الموت السابقة ولو كان قد نال واحدة منها لكانت سببًا في إنقاذه من وجع أوجاع العمر هذا. عادت تنهشه دون رحمة وحوش القلق المؤرق المؤلم خاصة وأن قضية الموت قد اختلفت كلية هذه المرَّة عن تجاربه السابقة، لم تعد احتمالية مواجهة الموت والفناء تخصَّه وحده بل تشمل كل الناس وأغلى الناس وأحبهم وأقربهم إلى قلبه وروحه ونفسه.
يا للهول!!!
تَعَجَّبَ من زمن غفل لحظة فسيطر فيه على كل البسيطة ذلك التافه الناقص الذي لا يُرى، كيف أصبح ذاك الخفيُّ يتحكَّم في سيد مخلوقات الأرض جميعًا حاملًا له رُعب الموت وقد اندسَّ له متربصًا في قبلة عاشق أو حضن حبيب أو مصافحة صديق أو طعام قريب أو شراب خِلٍّ؟! قطع صلة الرحم بنصله الحاد فأجبرنا على أن نهجر أقرب الناس لنا لأننا نحبهم ونخاف عليهم حتى من أنفسنا، قاطعنا الأصدقاء والأحباب والأصحاب، انفضَّت التَّجمعات الدافئة والثلل المتحابة وتفرَّقت جموع الرفقاء، فقدت الأفراح أفراحها، ماتت طقوس الموت، أصبحت وفاة الشخص خبرًا عاديًا عابرًا عقيمًا، تساوى فيه موت الإنسان مع نبأ نفوق فأر قزم! حُرم الأحباء من لحظة الوداع الأخيرة لحبيب اغتاله الغَدَّار بعد أن أصبح يمثل لهم رعب عدوى الموت.
ما أعجب قسوتك ووحشيتك يا زمن الأوجاع!!

أصابه اليأس فازداد التهاب رأسه وانصهار مخه، انتفض من رقاده مقرِّرًا أن يأخذ زمام المبادرة بنفسه، أسرع إلى الشرفة وفتحها بقوة مضطربة، عاد للصراخ عاليًا وبجنون ثم ألقى بنفسه إلى أسفل ليرتطم جسده بأرض الطريق جثة هامدة كاسرًا صمت الليل الحزين.

لم ترض روحه بقهرها وذلِّها وبموته كافرًا فنهضت بجسده من موته وأسرعت به إلى الشرفة الأعلى، فتحها بقوة غاضبة، صرخ بأعلى صوته:
"سوف أقتلك إيها الحقير قبل أن تقتل أحبائي وتقتلني".
أخرج مسدسه وراح وسط صرخاته يطلق رصاصاته في كل الاتجاهات كاسرًا صمت الليل الحزين.
لم ترض روحه بفعلته الهوجاء وقتاله العابث مع الهواء فأسرعت به إلى الشرفة الأعلى، فتحها بقوة اللامبالاة، ضحك طويلًا ثم صرخ بأعلى صوته كاسرًا صمت الليل الحزين:
"أنا لن أخاف منك بعد الآن أيها الحقير...سوف أنام بعمق وافعل ما تريد"
هبط سريعًا وهو يضحك بلوثة ودسَّ رأسه بي الوسادتين.

لم ترض روحه بكل هذا الهراء الذي لا طائل من ورائه فأسرعت به إلى أعلى الشرفات كلها، فتحها بقوة واثقة وراح يصرخ بكل ما أوتي من قوة كاسرًا صمت الليل الحزين:
" ارحمنا يا الله...ارحمنا يا الله...ارحمنا يا الله".


مجدي حشمت سعيد
عضو اتحاد كُتَّاب مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى