فاروق شوشة - لماذا تم تهميشه في الكتابات التي تؤرخ لقصيدة النثر

ومن هنا فالعودة إلي حسين عفيف هي بمعني ما محاولة للإمساك بجذور هذا التهميش، وهدفها الرئيس هو إثارة اسئلة عن أسباب تغييب عفيف في الكتابات التي سعت لرصد حضور قصيدة النثر في الكتابة العربية، وهو تغييب لا مبرر له سيما وأن الرجل كان حاضرا وبقوة في المجلات الأدبية التي كانت قاطرة لمشروع التجديد الأدبي العربي كما كان إنتاجه موضع اهتمام نقدي لكبار نقاد وكتاب عصره. ومن ثم فالسؤال عن المعايير التي يضعها مؤرخو الأدب يبقي ضروريا.
و يذكر أن هناك بعض المحاولات مثل التي بذلها الأستاذ نبيل فرج والشاعر عبد العزيز موافي لإنصاف عفيف، لكنها تظل رغم قيمتها تمثل خطوات أولي في طريق طويل لاكتشافه، ونحسب أن هذا الطريق كان ممهدا منذ البداية بفضل وعي شقيقته الراحلة السيدة رابعة عفيف التي صانت أوراق شقيقها وعنيت بترتيبها وتصنيفها عناية بالغة، فكانت دائماً مصدراً مبهراً لأغلب ما كتب عنه بعد وفاته بما في ذلك الأعمال الكاملة التي نشرها المجلس الأعلي للثقافة في ثلاثة مجلدات عام 2002 بمناسبة مرور مائة عام علي مولد الشاعر، وأعدها وقدمها الشاعر عبد العزيز موافي وبذل فيها جهداً متميزاً لبلوغ غاية نذر نفسه لها بالبحث عن مصادر الحداثة الشعرية العربية.
وتسعي الأوراق التي يتضمنها بستان هذا العدد إلي تقديم ما نتصوره إضافة لهذا الجهد ووسيلة تسلط الضوء مجدداً علي حسين عفيف وكتاباته التي تنوعت ما بين الشعر والرواية والمسرح الشعري إضافة إلي المقالات النقدية التي علق فيها علي إنتاج مجايليه و سعي من خلالها إلي الاشتباك مع أفكارهم.
كما يتضمن هذا البستان أيضاً مجموعة من الرسائل التي تلقاها عفيف من قامات أدبية وفكرية بحجم الشيخ مصطفي عبد الرزاق والشاعر علي محمود طه والكاتب محمود تيمور ونجيب محفوظ والكاتب عادل كامل. و هدفنا من وراء نشر تلك الرسائل التي تنشر لأول مرة هو التأكيد علي أن انتاجه كان جزءا من المشهد الأدبي في عصره وكان محل اهتمام هذه القامات، ومن ناحية أخري تقدم هذه الرسائل إضاءات حول جوانب أخري في مشروعه الأدبي عانت أيضا من التهميش مثل روايته " زينات أو التكفير" التي صدرت الطبعة الأولي منها عام 1941 والثانية عام 1943 وفازت بجائزة وزارة المعارف آنذاك، وقد أعيد نشرها قبل نحو عامين في الهيئة العامة لقصور الثقافة ضمن سلسلة " ذاكرة الكتابة " وهي رواية يندر أن نجد لها ذكرا في الكتابات التي سعت لرصد مسار الرواية الواقعية في مصر.
ومن ناحية أخري ننشر في هذا البستان ولأول مرة مقاطع من ديوانين مفقودين لحسين عفيف لم يعثر عبد العزيز موافي عليهما عندما خطط لمشروع إصدار الأعمال الكاملة له، ففي مقدمته المهمة لهذه الأعمال يقرر موافي صراحة أنه لم يتمكن من العثور علي ديوان عفيف الأول وعنوانه ( مناجاة) وصدر عام 1934 ، كما لم يعثر علي الديوان الثاني )الأغنية ) الذي صدر عام 1940
إلا أننا تمكنا من توثيق المقاطع التي ننشرها من الديوانين من الدوريات الأدبية التي نشر فيها عفيف إنتاجه الأول، وهي دوريات لم تصمد طويلا لكنها لا تزال محفوظة في أرشيفه لدي ابنة شقيقته السيدة ماجدة جلال.
بحسب التقسيم الذي وضعه موافي فإن انتاج عفيف الشعري - رغم توقفه عن الكتابة لمدة عشرين عاما - يمكن تصنيفه إلي ثلاث مراحل فنية، تمتد المرحلة الأولي لحوالي ثمانية أعوام، وتحتوي علي أعماله ( مناجاة 1934 / الزنبقة 1938 / البلبل 1939 / الأغنية 1940) بالإضافة إلي مسرحيتين شعريتين هما (وحيد / وسهير 1938 ) أما المرحلة الثانية فتأتي بعد عقدين كاملين وتشمل دواوينه التالية ( الأرغن 1961 / الغدير 1965 / الغسق 1968 / حديقة الورد ( 1968 ) ويعتبر موافي الديوان الأخير (عصفور الكناريا 1977) بمثابة مرحلة ثالثة من أهم ملامحها اختفاء حضور الموت والحفاوة بالألم مشيرا الي انه ديوان التذكر مع لحظات العمر الاخيرة، إلا أن وفاة عفيف بعد عامين من نشر هذا الديوان الأخير حالت دون إتمام هذه المرحلة.
وإن كان موافي أكد أن الشاعر في قصائد مرحلته الأولي ) باستثناء ديوان الزنبقة) اعتمد علي كتابة قصائد بدون عناوين داخلية، حيث تأتي المقاطع مسبوقة بالأرقام التي تدل علي ترتيبها داخل الديوان - وهي تقنية أسلوبية يعتقد موافي إنه تأثر فيها بتقنيات الشاعر الهندي طاغور الذي صاغ أهم المؤثرات في تكوين مخيلته - إلا أن المقاطع التي ننشرها من (مناجاة ) و(الأغنية ) تدل علي غير ذلك، فجميعها معنونة ومرقمة.
وقد لاحظنا بالتدقيق في تلك المقاطع المحفوظة في أرشيف حسين عفيف الشخصي أنه ثمة تناص اعتمده عفيف في كتاباته يقوم علي استثمار بعض المقاطع القديمة وإعادة الاشتغال عليها، كما كان دائم التبديل في مفردات قصائده المنشورة أو المكتوبة بخط اليد في مسودات أعماله، إذ لم تخل ورقة مما بين أيدينا من بعض تشذيب وتنقيح لمفردات وألفاظ نصوصه، فهو كما كتب الأستاذ رجاء النقاش في إحدي مقالاته النقدية في باب كان يحرره تحت عنوان " أخبار الأدب " بصحيفة " أخبار اليوم ": " إن حسين عفيف ينتقي اللفظ بدقة ويجلوه حتي يصبح أنيقا ً زاهي اللون، وهو يحاول محاولة ناجحة أن يجعل للفظ رنينا ً موسيقيا ً خاصا ً، ليس الرنين الخطابي، ولكنه الرنين الداخلي الأصيل الذي يصعب الوصول إليه من فنان مبتدئ أو متوسط الموهبة".
ومن الامور المهمة التي تستحق التوقف أمامها ويمكن اعتبارها سبقا تاريخيا للرجل يتعلق أساسا بجرأته في كتابة نصوص ذات منحي ايروتيكي يغاير التصور الذي شاع عن رومانسيته فكما يقرر موافي فإن عفيف كان سباقا في كتابة نصوص يمكن إدراجها تحت عنوان " الكتابة بالجسد"، مثل قوله:
" وعندما سرتِ ونهداك يرتجان ذاك الارتجاج العف، كم قلق النسيم عندئذ وتسلل من تحت قميصك ليسر إليهما أشواقه." (الأغنية 1940)
وهو ما يؤكد أنه استبق الشعراء المتأخرين في تناول تلك الظاهرة. ومن اللافت للنظر في الأوراق التي وجدناها إن أنيس منصور كان أسبق من غيره في تأكيد هذا المسعي في مقال كتبه عن عفيف أنهاه علي طريقته بعبارة "عفيف الا قليلا ".
وإذا كان دارسو أعمال حسين عفيف قد أشاروا إلي طغيان الحس الرومانسي فيها تأثرا بشعر ابراهيم ناجي كما اعتقد موافي فإن تأمل الأرشيف الصحفي لعفيف وفحص محتوياته يؤكد أنه كان جزءاً أصيلاً من مشهد أدبي ساوي بينه وبين ناجي وعلي محمود طه ومحمود حسن اسماعيل وصالح جودت.
وعلي عكس ما يظنه البعض من أن كتابات عفيف لم تكن موضوعا لدراسات نقدية جادة باستثناء ما كتبه الدكتور محمد غنيمي هلال في العدد رقم 63 من مجلة المجلة أبريل 1963 ))، فإن لويس عوض علي سبيل المثال له مقالات نقدية مطولة عن حسين عفيف نشرها في الملحق الأدبي لجريدة الأهرام خلال سنوات إشرافه علي هذا الملحق وهي مقالات شديدة الأهمية أبرزها مقال عنوانه ( البلبل والوردة ( يتضمن مراجعة نقدية لديوان (الأرغن 1961 ) ومقال آخر منشور في كتاب دراسات أدبية ) 1989 ( هو أقرب إلي التوثيق لحياة الشاعر الراحل.
وفي كل الاحوال تبقي لتلك الملاحظة قيمتها لأنها تشير لمخاطر عملية التهميش والإقصاء التي مارسها من تصدوا لكتابة تاريخ قصيدة النثر العربية وأسقطوا - إما عن جهل أو عمد - المنجز الإبداعي لعفيف حتي أننا لا نكاد نعثر علي أية إشارة له في جميع الكتابات التي ادعت هذا الطموح، هذا علي الرغم من كتابات كثيرة عن أعماله كتبها رجاء النقاش وأنيس منصور ومحمد مندور وجليل البنداري وفاروق منيب ومن الشعراء علي محمود طه وفاروق شوشة وصلاح عبد الصبور. ففي مقال نشرته الأهرام بتاريخ 9 أكتوبر 1964 يدعو صاحب " أحلام الفارس القديم" إلي دراسة قصيدة النثر العربية انطلاقاً من تجارب أصحاب الشعر المنثور ويضع عفيف في السياق ذاته الذي وضع فيه أعمال ميخائيل نعيمة وجبران.
أما عن سؤال الشكل وشرعية الوجود بالنسبة لقصيدة النثر أو الشعر المنثور فكان هذا جزءا ً لا يتجزأ من مشروع عفيف الإبداعي الذي بادر بسبر أغواره منذ بداياته الأولي، وقد جاء في مقال لمحمد مندور بجريدة الجمهورية في فبراير 1961 أنه سأل عفيف عما إذا كان قد تقدم بديوانه "الأرغن" للمجلس الأعلي للفنون والآداب ليعرض علي لجنة التحكيم التي ستجتمع لاختيار الديوان الذي سينال جائزة الشعر التشجيعية، لكن إجابة عفيف جاءت صادمة له إذ علم إن المجلس لا يقبل إلا الشعر المكتوب علي النمط العروضي التقليدي، وهو ما أثار حفيظة مندور فكتب:
"يحز في نفسي أن نقف أمام كل محاولات التجديد الشعري في أدبنا المعاصر وأن نرفض من حيث المبدأ كل شعر لا يلتزم تلك الأصول العروضية، وكأننا نغلق بذلك باب الاجتهاد في الشعر كما قالوا في عصور الانحطاط أن باب الاجتهاد في فقه الدين قد أغلق بعد الإمام السيوطي"
لكن البيِّنَ في منحي عفيف إنه لم يأبه بقضية الشرعية بقدر اهتمامه بتحدي الجمود وخوض المغامرة الفنية التي ترضي ذاته الشاعرة، ونحن نضمّن أوراق البستان أيضا ً نصوصاً نظرية من كتاباته التي يشرح فيها انحيازه لهذا النسق من التعبير ويؤسس لمعايير فنية يربط فيها بين الشعر والطبيعة والحياة. وقد رأينا أن ننشر منها جزءا ًمن محاضرة قدمها عن الشعر المنثور بنادي الموظفين في الإسكندرية في سبتمبر 1936 وأشار إليها الشاعر عبد العزيز موافي في مقدمة الأعمال الكاملة من دون أن ينشرها ورأينا أن نشرها من شأنه أن يجدد نقاشا حول أعمال الراحل ومشروعه الإبداعي كاملا ً دون نقصان.

أعلى