فاطمة ناعوت - «فرج فودة» الذى عاش أكثر من قاتليه

كان من أوائل مَن فضحوا فكرَ الإخوان الدموى وشهوتهم المريضة للوصول إلى كرسى الحكم سيرًا على جثامين البشر. لو كانت أُخِذَت كلماتُه مأخذَ الاعتبار ودُرِّست أفكارُه النيّرة فى المدارس منذ أربعة عقود، لما كان وُلِد فى مصرَ دواعشُ، ولا استفحل الإخوان حتى سرقوا عرشَ مصر، ومازالوا يهرقون دماء أبطال الجيش المصرى فى سيناء، ولما حُرقت بيوتٌ وفُجِّرت كنائسُ ومساجدُ وقُتِل أبرياءُ عُزَّلٌ وهُجِّرَ آمنون عن ديارهم. الرجلُ النبيلُ الذى أحبَّ مصرَ بكل خفقات قلبه فقدَّم روحَه قربانًا لتنوير ظلمات دروب صنع عتمتَها ظلاميون سودُ القلوب شاغرو العقول. خرج «ممثلٌ»، ولا أقول: (فنانٌ)؛ لأن الفنَّ وعىٌ وثقافة وحِسٌّ ووطنيةٌ وإنسانية. خرج يقول بملء الجهالة كلماتٍ نابياتٍ، يعفُّ قلمى عن خطِّها، عن العظيم «د. فرج فودة» شهيد الكلمة النبيلة. ذمَّ الممثلُ المتطرفُ رجلاً مستنيرًا، لولاه ما كان لذاك الممثل وجودٌ على الشاشات. دافعَ «فرج فودة» عن الفنون التى حرَّمها الإرهابيون. من كلماته: «سيصرخون ضدَّ الغناء، وسيغنى الشعبُ، سيصرخون ضد الموسيقى، وسيطربُ الشعبُ، سيصرخون ضد التمثيل، وسيحرص على مشاهدته الشعبُ، سيصرخون ضد الفكر والمفكرين، وسيقرأ لهم الشعبُ، سيصرخون ضدَّ العلم، وسيتعلمه أبناءُ الشعبِ، سيملأون الدنيا صراخًا، وتنفجر قنابلهم، وسوف يكونون فى النهاية ضحايا ما يفعلون ويدفعون الثمن غاليًا حين يحتقرهم الجميع، ويرفضهم الجميع».

وصدقت نبوءةُ الرجل المستنير. فقد فعل خصومُ الحياة كلَّ ما سبق، ولفظهم الشعبُ المصريُّ فى نهاية المطاف.

فى يونيو ١٩٩٢، اخترقت رصاصةٌ عمياءُ قلبَ رجل عظيم كان يحلم بمصر أجملَ وأعدلَ وأكملَ وأرقى، فدفع عمرَه ثمنًا لهذا الحُلم العصىّ. وطارت روحُه إلى عالم العدل والكمال، ولم تزل كلماتُه فى عقول من حملوا عنه مشعلَ التنوير؛ فعاش أكثر وأخلد من قاتليه الذين لا يعرفهم أحد ولا يذكرهم أحدٌ إلا باسم: «قتلة فرج فودة»؛ فأصابتهم لعنةُ أن يظلوا نكراتٍ حاملين اسم عَلَم كبير استشهد على أياديهم.

حارب الإرهاب الفكرى وقشَّر «فقه النكد» عن ثوب الإسلام. استشرفَ خطر الإخوان وتيار الإسلام السياسى فى كتابه «النذير»، قائلا: «تيار الإسلام السياسى نجح فى تكوين دولة موازية، تستخدم نفس أجهزة ومؤسسات الدولة الحاكمة». نبّه من شرور جماعة الإخوان، التى كانت الرافد الأساسى للإرهاب المسلّح منذ ثلاثينيات القرن الماضى، وأفرخت تياراتٍ وليدةً تمارس أشكالاً شتى من العنف باسم الدين.

أحدُ صنّاع الجمال الذى علّمنا أن ننتقدَ ما يحيد عن ساحة الجمال والتحضُّر. عاش يحاربُ القبحَ والعنفَ والوحشية التى تُبكى وجهَ السماء. فحاربه أعداءُ الجمال مثلما حاربوا «نصر أبوزيد»، و«الإمام محمد عبده»، و«طه حسين» و«الحلاج و«السهروردى» و«ابن عربى» و«أبوبكر الرازى» و«ابن رشد» وكل مَن دعا إلى إعمال العقل بالعلم وإعمار القلب بالحبِّ من أجل الوصول إلى جلال الله الأعظم. فيهم مَن كُفِّر ومن نُفى ومن قُتِل ومن قُطّعت أطرافُه وحُرق وصُلب وضُرب على رأسه بمؤلفاته حتى فقد البصر. لكنهم جميعًا خُلِّدوا وانقطع ذكرُ قاتليهم.

فى إسبانيا، أحرصُ على العروج إلى مدينة قرطبة. أتجول فأجد شوارعَ ومدارسَ وجامعاتٍ وميادينَ تحمل اسمَ Averroues. أما Averroues فلم يكن ممثلاً أمريكيًّا شهيرًا، ولا هدّافًا فى فريق ريال مدريد، ولا شاعرًا إنجليزيًّا، ولا رسامًا فرنسيًّا من عصر الرينيسانس ولا روائيًّا روسيًّا ولا موسيقارًا ألمانيًّا يستحق تخليده على هذا النحو اللافت فى أوروبا. بل كان شيخًا مسلمًا مثقفًا من القرن الثانى عشر اسمه: »أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد«، ولِد فى قرطبة الأندلسية، ومات حزينًا منفيًّا فى مراكش المغربية، بعدما طُرد من بلاده، لأن ثقافتنا تحارب الأذكياء الواعين وتحتفى بالخاملين المظلمين. كان طبيبًا وفيزيائيًّا وفلكيًّا وفيلسوفًا وقاضيًّا. احتفى به الغربُ لأنه كان كلَّ ما سبق. وحاربه متطرفو المسلمين لأنه كان كل ما سبق. ذبحوا تاريخَه واغتالوا إرثه لأنه ارتكب الجريمة الكبرى التى لا يغفرها الظلاميون. كان «يفكّر» و«يعقل» فى مجتمع يكره التفكير ويمقت العقل. مقتوه لأنه قال: »الحقُّ لا يضادُّ الحقَّ. الدينُ حقٌّ والفكرُ والفلسفةُ حقٌّ. والحقّان لا يتضادان«. فرماه الجهلاءُ بالكفر والزندقة وأحرقوا كتبَه النيّرة.

وكما تحتفى أوروبا بالعظيم «ابن رشد»، يجب أن تحتفى مصرُ بالعظيم «فرج فودة»، فتضعُ اسمَه على المدارس والميادين وقاعات الجامعات.

علينا تكريم رموزنا الفكرية الذين كسروا الصندوق الحديدى وغرسوا نبتَتهم فى رحاب أرض الله تحت شمسه ونوره بعيدًا عن جحور الخفافيش وكهوف الظلام.

«الدينُ لله.. والوطنُ لمن يحبُّ الوطن».
أعلى