محمد وقيدي - الأصل والتكون

-1-
الأصل والتكون مفهومان متعارضان على أصعدة عديدة. فكل منهما يوجد في مركز طريقتين مختلفتين من التفكير في الموضوعات التي يلتقيان في البحث فيها. يرتبط المفهومان كذلك في هذا المستوى المنهجي بجملة من التصورات والمفاهيم المختلفة.إن والإشكالية الناجمة عن اعتماد أحد المفهومين تكون مختلفة من حيث كيفية طرح الإشكال، ومن حيث البنية المفاهيمية المعتمدة في التحليل، و من حيث النتائج الني يقودنا نحوها استخدام مفهومي الأصل والتكون.

-2-
عندما نفكر في الوقائع المجتمعية والتاريخية مستندين إلى مفهوم الأصل، وعندما نصبغ عليه صفة الإطلاق، ونرجع إليه كل ما هو حاضر ونفهم في ضوئه التطورات، يصبح ذلك الأصل المجتمعي والتاريخي متضمنا لكل شيء فيه، ونشعر بأننا فهمنا الحاضر عندما نعيده إلى أصله. يستكين الفكر عادة إلى مثل هذه النتيجة نظرا لبساطتها ولإمكانية الوصول إليها بسرعة، وذلك لأنه يتخلص بتلك البساطة والسرعة ذاتهما من مهمة محاولة الفهم. نعلم أن هذا النوع من الفهم الذي يستند إلى تعميمات يتم بناؤها على عجل يشكل إحدى متع الفكر، إن صح الكلام عن الفكر بهذا التعبير المستمد من التحليل النفسي لفعاليته. هكذا نتمثل فكرة الأصل بوصفها حلا تعميميا متسرعا لإشكالات التفكير في الموضوعات التي يبحث فيها، فيصبح عائقا لإدراك مظاهر الجدة فيها. يظهر الواقع في هذه الحالة بمثابة امتداد لأصل يتضمنه ويكون سبيلا لفهمه في نفس الوقت.
نتقدم في تحليل موضوعنا إذا ما انتبهنا إلى البنية المفاهيمية التي يندرج ضمنها مفهوم الأصل، وتدرجنا فيها لمعرفة الطريق الذي تقودنا نحو السير فيه. سنكتشف عندئذ أن المفهوم يقودنا نحو تحليل سكوني، يحجب عنا الواقع في حقيقته الحركية والتفاعلية.
أول المفاهيم المحيطة بمفهوم الأصل هو مفهوم الاستمرار. فالفكر الذي يبحث في الواقع الحالي انطلاقا من مفهوم الأصل فكر استمراري لايرى في الواقع الحالي إلا مجرد امتداد لأصل ينبغي البحث عنه في التاريخ، كما ينظر إلى كل محاولة تكون قد نجحت في إبراز الأصل بأنها انتهت إلى الغاية المقصودة منها في البحث. وهذا النوع الاستمرارية في الواقع المجتمعي والتاريخي داعم للنظرة السكونية لأنه يجعل الفكر يستكين إلى فهمه للحاضر لكونه نجح في إرجاعه إلى أصل في الماضي.
المفهوم الثاني هو مفهوم الهوية، وهو يسير في نفس اتجاه مفهومي الأصل والاستمرار، ويقود نحو تحليل سكوني للواقع. لاننكر أنه مفهوم له بعض الإجرائية، ولكننا في حاجة بصدده إلى بعض الحذر المعرفي من أجل تجنب المزالق التي يمكن أن يقودنا نحوها في فهم الوقائع، بل ومن أجل العمل السياسي والمجتمعي للفعل في تطور تلك الوقائع ذاتها. فقد يتخذ مفهوم الهوية، عبر كيفية استخدامنا له، صفة ما يحجب عنا حقيقة الواقع الذي نفكر فيها. استخدم مفهوم الهوية في كثير من الأحيان لتشير إلى المكونات التي تدل على الثبات وليس على التغير.وفي الحالة التي يستخدم فيها مفهوم الهوية مستندا إلى مفهوم الأصل وداعما له في نفي الوقت،فإن الفكر يتجه إلى البحث عن الهوية في أصل تحقق في التاريخ، وتكون حقيقة ما يتعلق به البحث في ذلك الأصل.
المفهوم الثالث الذي يحيط بمفهوم الأصل هو المطابقة. فالذي يفكر مستندا إلى مفهوم الأصل يبحث دائما عن مطابقة بين ما هو ماثل للملاحظة الآن وبين أصل له في الماضي. لا ينكر الفكر في هذه الحالة عدم المطابقة، إذ هي ماثلة أمامه في كثير من الحالات، ولكنه انطلاقا من مفهوم الأصل ينظر إلى كل خروج عن المطابقة باعتباره خللا في الفكر أو في المجتمع ينبغي تقويمه والرجوع به إلى الأصل. الحقيقة كامنة دائما في الأصل وتنعكس على ما يلي ذلك الأصل في التاريخ عبر المطابقة.
هناك مفهوم رابع يظهر في سياق استخدام مفهوم الأصل هو مفهوم الحفاظ، وبه نفهم بعض معالم التفكير الذي ينطلق من مفهوم الأصل، وكذلك الأفعال والمواقف المرتبطة بذلك التفكير وذلك المفهوم. هذا ما يجعل الفكر المستند إلى مفهوم الأصل محافظا من حيث إنه يقف عند الحفاظ على ما هو قائم من فكر أو من واقع باعتبارهما مطابقين للأصل، وباعتبارهما كذلك محافظين على الأصل الذي يرجع في الغالب إلى ماض بعيد. ويمتد هذا الموقف إلى ميدان السياسة حيث نجد لدى دعاته دعوة إلى الحفاظ على النظام السياسي القائم باعتباره يظل دائما أفضل الممكنات. كما تمس الرغبة في الحفاظ مجال القين الأخلاقية، مما يكون لدى ذوي النزوع إلى الحفاظ منبعا لنقد كل تغير في القيم التي يتأسس عليها كيان المجتمع منذ زمن بعيد.
وأقصى درجات ظهور الأصل يتجلى في الاعتماد على مفهوم آخر هو العرق، وهو مايؤدي إلى سلوك جماعي يتميز بالانغلاق داخل البنية الجماعية للعرق، والابتعاد عن كل أنواع الاندماج مع أعراق أخرى في علاقات مثل التزاوج أو قبول الهجرات الجماعية إلى الأرض التي ينتمي إليها العرق المتشبث بصفائه، أو غير ذلك من العلاقات التي تفقد الأصل صفائه كما يريده الداعون إليه.
ينقاد الفكر مدفوعا بتشبعه بمفهوم الأصل نحو البحث ،على صعيد البنية المجتمعية، في الأصل العرقي الذي ينظر إليه بوصفه مايدل على الامتداد التاريخي للأصل، وما يمكن الاستناد إليه لإثبات الحقوق بالنسية للجماعات والأفراد على السواء. وليس غريبا ضمن هذا التصور أن يتجه الفكر في هذا الإطار نحو تأكيد موقفه عن طريق البحث في تاريخ الأصول الإثنية والاستناد إلى العلم الإنساني الذي يدرس الأعراق من أجل تأكيد أصالة وحراقة الجماعة التي يفكر فيها ومن أجلها. ويصبح الأمر متعلقا في مثل هذه الحالات بالتأسيس الإيديولوجي لعرق ما بواسطة استخدام العلوم الإنسانية من أجل محاولة التدليل علميا على ما هو في الأصل توجه إيديولوجي.
عندما ترتفع في مجتمع ما درجة التشبث بالأصل العرقي، فإن ذلك يقود إلى التدافع بينها بغير الطرق السلمية،أي إلى صراعات دامية. وقد مرت أمثلة من ذلك في أوروبا بين الأعراق التي كانت تتكون منها يوغوسلافيا، كما ظهرت مظاهر من ذلك في بعض المجتمعات الإفريقية مثل الكونغو أو السودان، وغير ذلك مما لايسعنا التعرض لتفصيلاته في هذه الدراسة. فقصدنا محدود في البحث في مظاهر فكر ينطلق من فكرة الأصل، والبحث في مظاهر السلوك التي تنطلق من تلك الفكرة.
يتغافل الفكر الذي يبحث في الأصل العرقي، مفترضا الصفاء في العرق، أن هذا الافتراض غير قابل للتحقق منه بفعل عوامل متداخلة كثيرة منها الاختلاط عبر التزاوج والهجرات المختلفة المتكررة في تاريخ كل مجتمع. فمن الصعب الحصول على مجتمع يتشكل من عنصر عرقي واحد يظل على صفائه على مدى التطور التاريخي البعيد المدى. وقد انتقد ابن خلدون منذ زمنه( القرن الرابع عشر الميلادي) هذا التصور في مقدمة كتابه العبر، إذ أبرز أنه لايمكن الاستناد إلى صفاء الأنساب إلا في الجماعات المتوحشة التي تسكن في القفر ولايكون لها اختلاط بغيرها من الجماعات، فلا يأنسون إلى أحد ولايأنس أحد إليهم. ويبرز ابن خلدون أن النسب الصريح يضيع عند الانتقال من حياة البداوة إلى الحياة في المدن حيث يتم اختلاط الناس، ويضعف مع ذلك الارتباط بنسب محدد.
نفهم من حديث ابن خلدون عن اختلاط الأنساب، في الفصل المخصص لذلك من مقدمته أن هذا اختلاط هو الواقعي والموضوعي الذي نلاحظه في تاريخ الاجتماع الإنساني. وإذا كانت العصبيات المتصارعة من أجل تأسيس الدولة في المجتمع، فإن النسب في هذه الحالة نسبي لأن العصبيات قد تكون أيضا بالحلف أو بالولاء وماماثل ذلك من العوامل. وينتهي ابن خلدون إلى قول صريح في هذه المسألة يؤكد فيه أن النسب أمر وهمي لاحقيقة له إلا عند الاستناد إليه من أجل الالتحام أو النصرة التي تكون الغاية منها الغلبة على العصبيات الأخرى وتأسيس الدولة في المجتمع.
نرى أنه ليس لنا بعد هذا النقد الخلدوني في القرن الرابع عشر أن نستند إلى مفهوم الأصل ودوامه في التاريخ صافيا لا أثر للاختلاط فيه، خاصة وأننا نعيش في عصر صار فيه الاختلاط بين الجماعات والشعوب قويا بفعل مايتيحه التقدم التقني من مظاهر التواصل والتنقل من مكان إلى آخر وما تسمح به الوضعية العالمية الحالية من أشكال الاندماج في الحياة المجتمعية للبلاد التي تتم الهجرة إليها لأسباب مختلفة.
يرتبط القول بالأصل مفهوم آخر هو التاريخ. وهذا مفهوم مشترك لأنه سيظهر لدينا عندما سننتقل في مرحلة لاحقة إلى البحث في مفهوم التكون. يظهر التاريخ في هذا المستوى بصيغة معينة، إذ هو يسير في خط مستقيم من الأصل الذي يشكل بدايته ونموذجه نحو وقائع وأفكار تعيد إنتاج ذلك الأصل، بحيث يعتبر كل خروج عن ذلك انحراف ينبغي إصلاحه من أجل العودة به إلى مطابقة الأصل، وذلك سواء كان الانحراف واقعا على صعيد الواقع أو على صعيد الفكر. فما يحكم صيرورة التاريخ لدى من يفكرون انطلاقا من مفهوم الأصل هو الماضي الذي تحقق فيه هذا الأصل، ويكون على الفكر في هذه الحالة أن يتراجع دائما إلى الخلف ليتحقق من مصداقية سيره إلى الأمام.
يقود مفهوم الأصل بوصفه مثالا ونموذجا إلى تصور تاريخ يسير في خط مستقيم، لا مكان للتغيرات فيه إلا إذا كانت تقدما في تحقق جديد للأصل. وبذلك فإن ذلك المفهوم يقود من حيث تصور المجتمع إلى مجتمع منغلق على أصله وعلى نظمه المجتمعية والسياسية والأخلاقية التي لاينبغي أن ينحرف عنها.
لا يعني ما أبرزناه من حدود للتفكير المنطلق من مفهوم الأصل قولا بضرورة الإقصاء المنهجي لهذا التفكير. فضمنه تبلورت أبحاث وحقائق لايمكن التغافل عنها.

-3-
يساعدنا عرضنا السابق عن مفهوم الأصل في عرض المفهوم الثاني الذي تتعلق به هذه الدراسة، أي التكون. فالمفهومان متعارضان منهجيا لأنهما كذلك من حيث تصورهما للواقع البشري الذي يستخدمان في فهمه. سنستعين مثلما فعلنا ذلك في السابق بالنسق ألمفاهيمي الذي يستخدم فيه مفهوم التكون.
نبدأ بآخر مفهوم قدمناه مع مفهوم الأصل أي التاريخ. نرى أن مفهوم التكون يسمح بالنظر في مظاهر عدم الاستمرار في التاريخ، والتركيز على مظاهر الجدة والاختلاف التي تنتج عن صيرورة ذلك التاريخ. فليس هناك دائما خط مستقيم من أصل في الماضي إلى أفكار ووقائع في الفترات التالية له في الزمن. فالتطور التاريخي، من منظور مفهوم التكون، مجال لخلق أوضاع جديدة لاتكون بالضرورة مجرد تكرار لأصل مفترض أو مطابقة له. في التاريخ دائما عوامل تلعب دورا لامن أجل مطابقة الأصول بل من أجل ظهور افكار وأوضاع مجتمعية جديدة. وعلى العموم، فإن تصور التاريخ لدى التحليل المستند إلى مفهوم يعمل من أجل إبراز كيفية تشكل الفكرة أو الظاهرة التي يبحث فيها. ما يختلف فيه المنهجان اللذان ندرسهما هنا هو قيمة العودة إلى الماضي الفكري أو المجتمعي، يرجع إليه المنهج الأول بوصفه مجالا لأصل، ويعود إليه المنهج الثاني بوصفه المجال الذي تظهر فيه المكونات التي يتشكل منها ماهو حاضر.
يدعم مفهوم الصيرورة، من جهة ثانية، الاتجاه الذي يقود نحوه مفهوم التاريخ. والصيرورة في أعم وأوضح معانيها تعني الانتقال من حال يكم عليها الشيء أو الأمر أو الظاهرة الإنسانية إلى حال يصير إليها. وقد جاء هذا المفهوم في الفلسفات التي لم تكن لديها نظرة السكون والثبات إلى الأشياء. يتضمن هذا المفهوم قولا بحركية في الأشياء المحيطة بنا في العالم، ولكن كذلك بجميع الكائنات، ومن بينها الإنسان. وتبعا لهذا التصور الذي بدأ مع الفيلسوف اليوناني القديم هيرقليط الذي قال إن كل شيء في الوجود حركة، وإنه ليس هناك شيء يظل على حاله، مضيفا أن الإنسان لا يستطيع أن يستحم في النهر مرتين لأن هناك مياها جديدة تجري باستمرار.
سندع جانبا تفصيل هذه الوجهة من النظر، ولكن لنأخذ منها مايهمنا في السياق الحالي، أي مفهوم التكون بالمسبة للإنسان فردا ومجتمعا. فالإنسان لايظل على حاله، مثلما يكون في لحظة ميلاده، بل إنه يعرف نموا يمر فيه بمراحل وصفها علماء النفس حتى وإن اختلفوا فيهامن حيث العدد والتعاقب والخصائص المميزة. كل شيء، وكل ظاهرة، وكل إنسان فرد، وكل مجتمع هو في صيرورة ، أي في انتقال من حال إلى أخرى. ولذلك، فإن التحليل الذي يستند إلى مفهوم التكون يبحث في العوامل التي تلحق الموضوع الذي يدرسه، والتي تكون قد تفاعلت لتجعل منه ما هو عليه في الحاضر. ولذلك يستخدم هذا التحليل مفاهيم النمو، والتغير، والتغير المجتمعي، والتطور، والحركة.
لا يدل ما سبق ذكره أن اعتماد مفهوم التكون يقصي بصورة تامة كل قول بالثبات أو ينفي قيمة كل تحليل سكوني للمجتمع، لكنه يحتفظ على ذلك في إطار منهجي شامل، إذ أن الباحث في الظواهر المجتمعية قد يأخذها في حالة معينة لها مفترضا ثباتها في وقت محدد وشروط معينة من أجل دراستها. لكن هذا الموقف يظل على الصعيد المنهجي فحسب، ولا يكون اختيارا فلسفيا، إذ أن الدراسة السكونية تكتفي في هذه الحالة بوضع الصفة الحركية للظاهرة مؤقتا بين قوسين للتمكن من دراسة الظاهرة.
تحضر مع مفهوم التكون، كما رأينا ذلك مفاهيم أخر يتشكل منها النسق المفاهيمي الخاص به: مثل الصيرورة، والحركية، والنمو، والتطور، والتغير، والتحول، ثم التاريخ بوصفه مجالا لظهور تلك المفاهيم كلها. وحيث إننا ندرس مفهوم التكون مرتبطا بمفهوم الأصل والنسق المفاهيمي الخاص به أيضا، فإننا نتساءل عن مصير هذه المفاهيم الأخيرة.
عندما يستمد تحليل الواقع إلى مفهوم التكون وما يرتبط به من مفاهيم تغيب أو تضعف المفاهيم التي رأيناها مرتبطة بمفهوم الأصل. وأول المفاهيم التي توضع موضع سؤال في هذا المستوى هو مفهوم الهوية الذي يغيب استخدامه، إلا في حالة إدماجه ضمن مفهوم التكون ومقتضياته، والنظر إلى الهوية ذاتها بوصفها نتاج لتكون ولصيرورة تاريخية. الهوية ذاتها لن تكون معطى ثابتا، ولن تكون نموذجا تحقق في الماضي بشكل تام يصبح على الفكر والعمل الإنسانيين مطابقته في جميع الأحوال. ذلك أنه من منظور مفهوم التكون تغدو الهوية واقعا إنسانيا تخترقه التحولات.
لا يكون التاريخ أيضا مجرد استمرار في خط مستقيم بدون حدوث تحولات تمس البنيات المجتمعية والسياسية. ذلك أن مفهوم التكون يدفعنا إلى تجاوز موقف الذهول عن التحولات الكيفية التي تغير البنيات والعلاقات بين المكونات. فهناك ثورات مجتمعية قادت نحو تغيير مسار المجتمعات، وهناك تحولات اقتصادية تؤثر بدورها، خاصة عندما تكون كيفية، في مسار المجتمع على صعيد البنيات المجتمعية والسياسية. وفوق هذا هماك الهجرات المتراكمة في التاريخ والتي تكون مصدرا لمكونات جديدة في المجتمع تفد عليه وتندمج فيه إلى أن تصير مع الزمن بعضا من تكونه التاريخي. حدثت هذه التحولات في مجتمعات من مختلف القارات التي يتشكل منها العالم، مع أنه لايمكن إنكار اختلاف ردود أفعال المجتمعات المختلفة عليها.
يسمح مفهوم التكون، من جهة أخرى، بفهم أوسع للمجتمع في لحظة تحليله له. ذلك أن التحليل الذي يستند ‘لى مفهوم التكون يعود إلى التاريخ، لا لكي يبحث ‘ن أصل مطلق، بل من أجل العودة إلى المكونات التي تشكل منها في ذلك التاريخ المجتمع الذي ندرسه في حاضره. النظر في واقع أي مجتمع مبني هنا على أساس النظر إليه في كليته، من حيث إدماج جميع مكوناته التي تفاعلت في التاريخ، وليس من زاوية مكون واحد تضفى عليه صفة الإطلاق. ينفتح التحليل الذي يعتمد مفهوم التكون على طل معطيات التاريخ ويحاول أن ينظر إلى تفاعلها في التاريخ المشترك بينها. وما يقصد ذلك التحليل بلوغه هو إدراك البنية الموحدة التي تشترك فيها المكونات باعتبارها نتاجا للتاريخ، وواقعا جديدا بالنسبة للمكونات الي تفاعلت من أجل تشكيلها.
يدفع مفهوم التكون، حين استخدامه أداة للتحليل، نحو الانفتاح على التعدد المجتمعي، بالنظر إلى أن كل مجتمع نلاحظه الآن هو نتاج لمكونات متعددة تمازجت في التاريخ في صيرورته. ويكون لهذه النتيجة أثر على كل عمل فاعل في المجتمع، ومنه أساسا العمل السياسي القائم على التصور المتعدد.
يقودنا مفهوم التكون أيضا على الانفتاح على بعض المفاهيم الأخرى التي بدأ شيوعها منذ العصر الحديث، ومنها مفهوم المواطن الذي لاتكون له هذه الصفة بحسب أصله، بل من حيث هو تركيب تاريخي لتمازج مكونات عدة تجعل له الأولوية على المكونات المختلفة التي هو نتاج لها.
إذا كان مفهوم الأصل يؤدب على الصعيد الفكري إلى موقف محافظ مجتمعيا وسياسيا في قضايا المجتمع التي يفكر فيها، فإن الاستناد إلى مفهوم التكون يقود الفكر نحو قبول التغيير والتجديد، بل ويقود عمليا إلى طلب ذلك من أجل تطوير المجتمع وتحديثه على صعيد بنياته المختلفة. فهو لايقبل البنيات ويحاف عليها إلا في إطار إدماجها ضمن التجديد الذي يدعو إليه
الانفتاح الأكبر الذي يساعدنا عليه مفهوم التكون هو السبيل نحو بناء المجتمع على أسس ديمقراطية يكون المواطن هو اللبنة الأساسية فيها. ونرى في العالم المعاصر أن اندماج الأصول وفاعلها داخل المجتمع الواحد والموحد هو الطريق لإعطاء الحياة في المجتمعات المختلفة بعدها الإنساني.
قامت محاولتنا، في اساسها، على دراسة مفهومين متعارضين هما الأصل والتكون، ولكن عبر دراسة كل منهما ضمن نسقه ألمفاهيمي، وضمن النظر إليهما من حيث هما مؤثران في النظر والعمل الإنسانيين في وقت واحد. وقد أبرزنا كيف يكون الاختلاف في انطلاق التحليل من هذا المفهوم أوذاك منعكسا على تصور المجتمع وعلى الاختلاف في الفهم والعمل المجتمعي معا. طريقتان في التحليل النظري، ولكن أيضا طريقتان في تأسيس العمل داخل المجتمع


أعلى