محمد السعيد جمعة - حلم السعادة.. قصة قصيرة

أدركت منذ أيام الطفولة أن الشقاء هو القاعدة وأن السعادة هي الاستثناء ، في صباي كنت أتابع منظر أولئك الكادحين وهم يكافحون بكل ما لديهم من طاقات لبناء مستقبل سعيد، وعندما يأتي المستقبل خالياً من البهجة يسقطون في كآبة عميقة ؛ كانوا قد هيأوا أنفسهم للسعادة وهم الآن مجبرون على التعامل مع الشقاء ! وها أنا ذا قد أصبحت واحداً منهم ..!
لقد نشأت في بيئة تعيسة ، ذكرياتي القديمة كلها عن مساكين لم ينعموا بحياة سعيدة ، حتى والديّ لا أذكر أنهما تبادلا أي حديث يدل على السعادة ، كانا يتجادلان طوال الوقت بسبب أمور تافهة ، المشاجرات بينهما لازالت محفورة في ذاكرتي ، ولم تكن مشاجرات بيتنا شيئاً يخالف طقوس الحياة في الحارة ؛ فأصوات الصراخ والسباب المتبادل تنبعث واضحة من تلك البيوت الطينية المتهالكة ، "سأقتل نفسي" …أكثر العبارات استخداماً على ألسنة المتعبين من أهل الحارة ، كنت أسمعها يومياً أثناء ذهابي إلى المدرسة وأثناء لعبي ليلاً مع عيال الحارة ، سمعتها بأصوات النساء البائسات وبأصوات الرجال المحبطين ، ولا أخفي عليكم كانت أمي تقولها، لازلت أذكر صراخها المصحوب ببكاء أخويّ الصغيرين ، ولازلت أذكر ما تحمّله أبي من مشقة وعناء ليوفر لنا لقمة العيش ، كبرنا في تلك الأجواء وظلت الحياة على عهدها معنا ..
_أعيش الآن بعد أن تقاعدت عن العمل في غرفة صغيرة في بيتنا القديم ، لم أعد أحلم بالسعادة ، جيراننا المساكين تسوء أحوالهم يوماً بعد الآخر ، أضطر أحياناً ً إلى تناول أقراصاً منومة ورغم ذلك أبقى نائم الجسد مستيقظ الذهن !
زارني منذ عدة أيام صديق طفولتي "صابر" وتطرق بنا الحديث إلى أحوال الحياة ، وما كنا نحلم به من سعادة ، فقال لي : احمد الله فيه ناس غيرك مش لاقيين اللقمة ، وكفاية إنك لاقي أربع حيطان تسترك أنت كده في قمة السعادة ! ..ثم سألني :"أنت تعشيت ولا لأ ؟" قلت :" الحمد لله اتعشيت "_قال : هذا في حد ذاته قمة السعادة ، غيرك " جعان ومش لاقي عشا " !
...ماذا تقول ؟ هل تعتقد أن السعادة هي أن تناضل لسد رمقك وتلقي بجسدك المنهك في غرفة لها أربع حيطان ؟
قال : أنت أحسن من غيرك كفاية عليك المتعة اللي أنت فيها ..
متعة ؟؟؟ أي متعة تقصد ؟
قال : مشاهدة التلفاز ، الأكل والشرب ، النوم ، التنفس ، عاوز أيه أكتر من كده؟
قلت له : إذن قد أفنيت ما مضى من عمري من أجل لقمة عيش و غرفة أشاهد فيها التلفاز !!
ضحك صديقي المسكين ولكنها ضحكة تشبه البكاء ، نبرات صوته لا تدل على أنه سعيد ، أعرف جيداً أن ظروفه المعيشية في غاية السوء ، بل ربما أسوأ منا جميعاً فلقد طلّق زوجته منذ عامين ، يقال أنها لم تتحمل شظف العيش معه ..
وقفت أمام البيت أتابعه بعد أن خرج من عندي ، رأيته يحرك ذراعيه يميناً ويساراً في حركة تدل على التساؤل والحيرة ، أدركت وأنا أراقب خطواته وانحناءة ظهره أنه مُثقل بالهموم والأعباء، وظللت أتساءل : لماذا يتحدث هذا البائس المسكين عن السعادة ؟ ربما لم يعد في وسعه أن يتحمل الشقاء فآثر أن يتحدث عن السعادة ! ولماذا مشى من عندي وهو يحرك ذراعيه ؟ ولماذا لم يكلمني لحظة انصرافه ؟ ولماذا زادت انحاءة ظهره وهو يمشي ؟؟؟
يبدو أنني مقصر في حقه ، لعله كان بحاجة إلى مبلغ من المال يقترضه مني و منعه الحياء من طلب المال ، أو لعل المسكين كان جائعاً ومنعه تعففه أن يُلمح لي بحاجته إلى طعام في تلك الليلة !
ليتني قدمت له طعاماً دون أن يطلب ....😥.


- محمد السعيد جمعة _٢٧مارس ٢٠٢٠

* [من ثمار #البقاء_في_البيت]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى