د. حسام عقل - محمد حماسة.. عاقبة النبوغ وعقوبته

يوما بعد يوم تزداد الحالة السريالية في مصر رسوخا , و تتضاعف أسباب الدهشة من تراكم الممارسات الإدارية و السياسية التي تباشرها الدولة المصرية بما يخرج عن حد التصور و يجافي كل التكهنات و الفروض التي تستند إلى الأساس العقلي , ليبقى العقلاء في مصر أشقى الناس بما يدور و أكثرهم ألما لتداعياته . و بيقين فإن الاقتراب من رمز أكاديمي و علمي و مجمعي في قامة د ( محمد حماسة عبد اللطيف ) الأستاذ بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة و نائب رئيس مجمع اللغة العربية , الذي أقدمت إدارة جامعة القاهرة على ( إنهاء خدمته ) و إقصائه من موقعه الوظيفي الأكاديمي بحجة جمعه بين وظيفتين : ( العمل الجامعي ) و ( النشاط المجمعي ) بوصفه نائبا لرئيس مجمع اللغة العربية , أقول إن اقتراب الدولة المصرية من رموزها ( في قامة د حماسة ) بهذا الإيذاء المتعمد الذي يمس الوضع الوظيفي الأكاديمي , و يتغول بقسوة لا يمكن تصديقها على منطقة المعايش و الأرزاق , هو رسالة متجددة تؤشر على إدارة عصبية رعناء تفقد السيطرة تدريجيا على ما بقي من حكمة القرار أو بوصلة التوجيه الرشيدة . و الرسالة الكالحة تتحرك بضلعين في الداخل و الخارج . أما ضلع ( الداخل ) فرسالة للجادين و النابهين من كل الفئات و الأجيال مفادها : ( هذه هي الطريقة التي نعامل بها نابهينا الذين سلخوا أعمارهم في البحث و العمل و هم في خريف أعمارهم ! ) و أما ضلع( الخارج ) فرسالة للعالم الخارجي تقول : ( إن الأكاديميين و النابهين في وطننا زائدة دودية يمكن ( أو يتعين ! ) بترها دون إبطاء ! )و أتصور أن الدولة المصرية و د ( جابر نصار ) تحديدا , قد تأكدا أن موجة الاستنكار الشعبي من هذا التجرؤ على الرموز قد تشكلت هذه المرة بما يشبه ( انعقاد الإجماع ) ! أما أضحوكة الجمع بين وظيفتين : العمل الجامعي و النشاط المجمعي فإفك ثقيل سمج لم نجد له ظلا بإزاء رموز رحلت بوزن ( طه حسين ) و ( شوقي ضيف ) و ( كمال بشر ) , تواردوا على النبع نفسه من النباهة و تصدر المواقع القيادية و الجمع بين النشاطين : الجامعي و المجمعي , دون أن تطالهم يد الإيذاء ( السادية ) التي تبتر الأرزاق و تعاقب على النبوغ بهذه الفجاجة التي رأيناها في قرار جامعة القاهرة الأخير الصادم ! التقيت ب د ( محمد حماسة ) ميدانيا و إنسانيا في أروقة الجامعة , و أفدت بلا جدال من كتبه الرصينة : ( الضرورة الشعرية في النحو العربي ) , و ( بناء الجملة العربية ) , و ( الجملة في الشعر العربي ) , و ( اللغة و بناء الشعر ) , و ( ظاهرة الإعلال و الإبدال في العربية ) , و ( الإبداع الموازي ) و غيرها من الدراسات اللغوية الجادة فضلا عن دواوينه التي قرض فيها شعرا متوهجا رفيعا , خصوصا ديوانيه : ( حوار مع النيل ) و ( سنابل العمر ) . و قد لمست أن شخصيته تتعانق باتساق مشرق مع مصنفاته , فالسمات واحدة من الأدب الجم , و احترام الرأي الآخر و الكد في الوصول إلى الحقيقة و توثيقها . و بالقطع فإن قرار جامعة القاهرة الأخير قد سجل للرجل ( على غير ما قصدوا إليه ! ) خلودا في ضمائر الباحثين و المجمعيين و المثقفين ضاعف من قدره و رسخ من مكانته . إن د حماسة ابن ( أشمون ) الذي ولد عام 1941 و حفظ القرآن الكريم و جوده على والده قبل أن يلتحق بمعهد القاهرة الديني لتتوثق الأسباب بينه و بين رموز الفكر : د ( أحمد الشرباصي ) و ( السيد أحمد صقر ) و د ( عبد المنعم النمر ) , ثم تتألق رحلته لاحقا مع كلية ( دار العلوم ) التي عين وكيلا لها ( من عام 2001 حتى عام 2006 ) حيث تألقت بالتوازي صولاته العلمية في ( الكويت ) و ( إسلام آباد ) و ( الإمارات ) سفيرا للعلم المصري بتيجانه الباذخة , و لتختتم الرحلة بنيابة الرئاسة في مجمع اللغة العربية متمما عقد المجمع المنظوم المشرف الذي بدأ عام 1932 , أقول إن د حماسة الذي تتوهج سيرته في جدارية الكبار على هذا النحو لن يضيره أو يحلحل من موقعه قيد شعرة , قرار ( إداري ) فيه من الثأر السياسي و رائحة الخصومة الكيدية بأكثر مما فيه من العقل و القانون ! و إذا كان د جابر نصار الذي ذكرنا قرار الجامعة في عهده بمشهد سحل فيلسوفة الإسكندرية ( هيباتيا ) ( 370_ 415 م ) و إقصائها من التدريس في جامعة الإسكندرية القديمة على يد الكاهن ( سيريل ) و رفاقه , أقول إذا كان د جابر نصار يفتخر علنا بأنه أنهى عهد قنابل الغاز داخل الجامعة و أعاد لها الهدوء _ كما يقول _ فإن قراره بإنهاء خدمة د حماسة ( ومن قبله أو معه د حسن الشافعي ! ) قد ملأ حلوقنا مجددا بأدخنة أكثر سما من قنابل الغاز بعد أن رأينا كيف يهان النابهون في أوطاننا بغير حساب ! و هي بالقطع ليست أزمة محمد حماسة لكنها أزمة وطن تتآكل خلايا عقله تدريجيا بوتيرة مخيفة !!


أعلى