حاميد اليوسفي - المريض الذي طردوه من الغرفة.. قصة قصيرة

قدم عبد السلام من الجنوب . بعد قضاء عطلة العيد ، منعه وباء كورونا من السفر . لم يحصل على ترخيص إلا بعد تدخل أحد المعارف ، وبشق الأنفس . منذ ثلاثة أيام من وصوله إلى مراكش ، بدأ يُحِسّ ببعض أعراض الوباء . في البداية فقد حاسة الشم ، ثم أصابه الزكام ، وبدأ يعطس . تأخذه في الشارع بين الفينة والأخرى نوبة سُعال حاد ، تجعل المارة يلتفتون إليه بريبة . ازدادت حالته سوءا ، فقرر أن يلجأ إلى المستشفى . اضطر إلى الانتظار ثلاثة أيام ، ليصل دوره لإجراء التحاليل . أخذوا عينة من المخاط . شعر بألم فظيع في أنفه حتى خال أنه سينفجر . قدموا له وصفة ، وأخذوا رقم الهاتف ، وأخبروه بأنهم سيتصلون به .
يسكن عبد السلام في غرفة مع الجيران . وإذا علموا بأنه مصاب بكورونا سيضغطون على صاحبة البيت لطرده ، حتى لا ينقل إليهم الوباء . توسّل إلى خالقه أن تخرج نتائج التحاليل سلبية . كادت تسقط دمعة من عينيه ، بسبب بعده عن الأهل والأحبة . أمه لا يمكن أن تغلق حضنها في وجهه . لو كان بالقرب منها الآن لاحتضنته حتى ولو كان مصابا بالجذام .
بعد يومين توقفت سيارة الإسعاف أمام باب المنزل . دخل المقدم ، وأخبره بأنهم سيأخذونه إلى المستشفى ، وعليه أن يجمع بسرعة ما يحتاجه من أغراض . وقع الخبر مثل الصدمة على نفسه . فقد التركيز . لا يعرف ماذا سيأخذ معه من أغراض ! وضع يده على لباس النوم والدواء ، ووضعهما في كيس بلاستيكي ، وخرج مشدوها ، ثم عاد لأخذ أوراقه . وقف كل الجيران أمام غرفهم ينظرون إليه ، وكأنه قتل لهم قريبا . وجد حشدا أكبر مقابل الباب ، أشهروا في وجهه هواتفهم النقالة . اضطرب أكثر . عندما جلس داخل سيارة الإسعاف سقطت دمعة من عينيه . بكى وحيدا أمام الله بلا ذنب . بدأ يتذكر كل الأماكن التي زارها والأشخاص الذين اختلط بهم خلال العشرة أيام الأخيرة . تجنب إخبار أهله حتى لا ينغص عليهم . يعرف بأن أمه إذا سمعت بإصابته ، لن يهدأ لها بال ، حتى تضغط على والده أو أخيه الأكبر بأن يأخذها لتقف بجانب ابنها الأصغر . وحدهن الأمهات لا يخفن من الوباء إذا أصاب عزيزا ، يفتحن له الأحضان ، ويُشعرنه بالحب والحنان . كم يحتاج في هذه اللحظة إلى قطرة حنان ، تُزيل عنه كل هذا التعب والإحساس باليتم . ما عليه إلا أن يصمد ويترجل* ، فبينه وبين شجرة (الحِنّية)* جبال ووديان .
وجهوه إلى مستشفى المامونية . المستشفى الذي سارت بذكره الركبان . لم يستطع بفعل التوتر أن يميز هل هو في مستشفى أم في سوق شعبي . باحة المستشفى غاصة بالناس ، لا يعرف إن كانوا مرضى أم زوارا . انتظر أكثر من خمس ساعات ، قبل أن يخبره أحد المسؤولين بأن حالته غير خطيرة ، وأن المستشفى لا يتوفر على فراش أو غرفة ، وعليه أن يعزل نفسه في البيت ، ويتناول الدواء ، وأنهم سيزورونه بين الحين والآخر ، لتتبع حالته . لم يسمحوا له بالدخول إلى أجنحة المستشفى ، حتى يرى بعينيه ما يجري داخلها . استقبلوه في البهو ، وطردوه بالفن .
سمع امرأة تقول لجارتها :
ـ والله لو التزموا بزيارة المرضى في منازلهم ، لكان العزل في البيت أحسن ألف مرة من هذه المقبرة التي يسمونها مستشفى .
قرر العودة راجلا حتى لا يُؤذِ غيره . يسير مئات الأمتار ، ويتوقف تحت ظل شجرة ، ليستريح قليلا ، فتأخذه نوبة سُعال . يلتفت إليه الناس وأغلبهم يفترض بأنه مصاب بكورونا فيقطع الشارع إلى الرصيف المقابل ، وهم ينظرون إليه باشمئزاز . قد يتهمه البعض بأنه متخلف ، ومصاب بالوباء ، ولا يريد الذهاب إلى المستشفى ، وأنه يشكل خطورة على حياة أهله ، وحياة الناس . اقتنى قنينة ماء . الحرارة لازالت مرتفعة في الجسم والجو . لم يصل إلى البيت حتى كادت تزهق روحه .
ما أن شاهده بعض الأطفال ، حتى ذاع الخبر في الحي بكامله . تجمع حشد كبير من الناس أمام البيت . رفض جيرانه السماح له بدخول غرفته ، وطلبوا منه أن يبقى بعيدا وعليه أن يعود إلى المستشفى ، حتى لا ينقل الوباء إليهم وإلى أبنائهم . اشتعل الغضب في عيونهم ، وضغطوا على صاحبة البيت ، خوفوها وهددوها .
اختلف الناس ، حول طرد عبد السلام من غرفته ، وهو مريض . قال إبراهيم صاحب دكان البقالة :
ـ عيب عليهم أن يُعاملوا رجلا مريضا بهذا الشكل .
بينما اعتقد إدريس النجار العكس :
ـ من حق الناس أن تخاف على حياتها .
رد عليه شاب يبدو أنه متعلم :
ـ لو كانوا يخافون على حياتهم ، للبسوا الكمامات ، واحترموا مسافة التباعد بينهم . انظر كيف يحتكون بعضهم ببعض .
وقفت السلطة تتفرج ، ولم تتدخل خوفا من انفلات الوضع .
سقطت دموع مثل قِطَع الجمر على خدّي عبد السلام ، وهو يرى الحي بعضه يقف ضده وبعضه يتفرج على حاله . لم ينبس بكلمة ، تراجع خطوتين إلى الوراء ، وسار في اتجاه الطريق المؤدية إلى خارج الحي .
تمنى شيئا واحدا في هذه اللحظة ، اعتقد أنه يمكن أن يُطفئ نار الحكرة والمرض والألم ، وهو أن يجلس بجانب أمه ، ويشكو لها ما ألمَّ به ، وليأخذه الوباء بعد ذلك إلى العالم الآخر ، فحتى جهنم ـ رغم أنه لم يفعل ما يجعلها جزاءا له ـ قد تكون أرحم من هذا العالم ، الذي ينهش صحبة كورونا قلبه وجسده وروحه .


...................................
*يترجل : كلمة من اللهجة المحلية تعني أن يصمد مثل الرجال الأقوياء / شجرة الحنية : كناية عن الأهل والأحباب


مراكش 8 / 9 / 2020



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى