محبوبة عطية خليفة - عمتي وتشرشل.. قصة قصيرة

غفوتها مقدسة . تلك الأيام أكن أملك ساعة يد ولا أعرف كم تستغرق هذه القيلولة المقررة بزمانها ومكانها ، غير أنني أدرك بغريزتي وبحب يملأ كياني أنها هناك متمددة ومعتزلة مَن حولها، ومَن حولها سيعتزلونها خوفاً وهيبةً واحتراماً.

حتى أوقات المرح لديها مقدسة ولها توقيتات ويعرفها الجميع ويحرصون على اقتناصها ، جلسة الشاهي الأخضر بعد الغداء وعشيات الصيف الطويلة وكانت ملكة تلك الجلسات وهل من عاقل يفوّت هكذا أوقات الشاهي الأحمر بنكهات فصول السنة ورد وزهَرّ نعنع أو مرتقوش أو تفاح درنة شتاءً ، ولمة صديقاتها والضحكات من القلب
لديها قفشات خاصة يفهمنها فتندلع القهقهات وكأنها موجة سعادة تغمر الجميع ولا تغرقهم.
غير أن قيلولتها ذلك النهار طالت وبحكم قانونها غير المكتوب لن يجرؤ أحد على الإقتراب من حماها.

حماها هذا كان عِلِّياً (علية)*وهو مبنى على الطراز الأندلسي بشرفة مرصعة بنجمات داوود* بألوان بين البياض واللون الأخضر الزاهي، تطل على ساحة تتوسط البيت الكبير وغرفه السبعة التي تجمع أعمامي وزوجاتهم .

عندما تلج غرفتها تستقبلك روائح عراقةالتاريخ وخصوصية الجغرافيا الكامنة فيها . تنتابك الحيرة من أين يضوع هذا الشيء الذي يصعب توصيفه؟ مسك؟ نعم مسكٌ درناوي قوي ومسيطر بطيبه حتى على رائحة بخورها المعتاد.

أتحسس بأنفي وبطفولتي الهادئة والعاشقة للألوان وللروائح الدرناوية التي عشت بها وتنفستها بملاءة سريري وفي مخدتي وبطانيتي في شتاءات المدينة الباردة، أبحث عن كل هذا في خزانة عمتي وأجدها أقوى وأجمل. اقتربُ من النطع* الأبيض الأثير لديها -لكنها لا تبخل به عليّ وعليّ أنا وحدي
رغم كثرة زوارها من صغار الأسرة- واشمُّه بمتعة الباحثة عن الكمال في الأشياء، وهنا وعندها هي يتحقق كمال الرائحةوكأنها غيمة مسك يختبئ شذاها في تفاصيل محتويات عِلّي عمتي .

سألتني مرة من هو تشرشل؟ فانتبهتُ للإسم وسألتها بدوري لماذا؟ قالت :نبّي* نعرف شكله
اجبتها بطفولة الواثق: توا نسأل خالي، وخالي هذا هو مرجعي الأثير في كل ما أحب أن اعرفه في الناس والأشياء.

قال خالي ضاحكاً : شنو تبّي منَّه؟ وابتسمت وأنا اعرف خفة دم خالي وحبه لي :تبّيه عمتي!
وزاد ضحك الخال واجابني بأنه رئيس حكومة الانجليز فتابعت: صفه لي ؟ فاجاب بضحكة عالية، سمح؛ عيونه واسعة ووجهه (حَمَرْ) ويبدو انه كان اشقراً في صغره فتساءلت مجدداً : يشبه عمتي؟وواصل الرجل ضحكه .

بعد أن اطمأننت لحُسن طلعة الزعيم الانجليزي اخبرت عمتي فاستحسنت لفكرة انها تشبهه رغم سخطها على من شبَّهتها به .
تعرفتُ على الرجل بطريقتي ورأيت له صور كثيرة ولم تعجبني ملامحه واستغربتُ وتساءلت لماذا؟ عمتي أجمل منه بكثير .

أخبرتني ذات مرة أن من اطلقت عليها هذا التشبيه تُنكِر عليها هذه السطوة التي لها على الناس، سطوة الجمال وقوة الشخصية، فكل من حول عمتي مريدات لها وحواريات ينظرن لها بحب وهيبة ويخشين غضبتها . إن تجاوزتْ إحداهن حدودها وفعلتْ ما يغضبها سيسود الصمت ولن تجرؤ بنت امرأة أن تشرح وتُفهم عمتي انها بريئة وتسألها العفو.

كيف لها ان تشبِّهها بتشرشل فهو ليس وسيماً ولا يشبهها في شيء إلا قوة شخصيته وحضوره الآسر.
عمتي شقراء بعيون الوانها بين العسلي والأخضر الفاتح ووجنتاها شديدة الحمرة بلا اي إضافات، لها ضحكة عجيبة، فهي الى جانب كونها إعلان هدنة لمن حولها فتسود الأجواء الهادئة المستريحة والحميمية ، تظهر صفاً من اللؤلوء الأصلي العجيب.
أقول دائماً لمَ لا تبقِ عمتي فمها مشرعاً على هذه اللآليء الربانية، لمَ تقفله وتشيح بوجهها مرات كثيرة عمّن يزعجها وهم كثر.

عمتي لم تُرزق بالولد، وإن تزوجت عدة مرات.
تقول عمتي: كلما خرجتُ وتجولت في شوارع درنةيأتيني أحد رجالها خاطباً، وأهلكه إنتظارً ورجاءً وأتزوجه واتركه بعد شهور قليلة.
قلبي مشرعٌ، تواصل عمتي :لكل من أحبهم ومن أحبهم أنتم، وانا لا أحب غرفتي مقفلةً في وجه أحد ولن يربكني زواج ويجبرني على فعل ذلك.

المناسبات الكبيرة لعائلتنا لا تلتئم إلا بحضورها وقيادتها، فلا فتاة تخطب إلا بمباركتها بعد أن تتفحص أم الخاطب وأسرته وتتمعن في التقاطيع وتقول ضاحكة : خوذوا اللي تجنّسوا منه!!وتشرح لي بعد أن استوضح: يابنتي أتمعن في العين والأنف والمبسم* !! إن سلمن من العيوب فالذرية ستكون سمحة*!! ولا اعتراض من أحد فرأس الحكمة عندها، أما البقية فتحصيل حاصل مهما تذمرت نساء العائلة أو شبابها، وتضيف: وصاحب الرزق مطلوب ولا أفهم معنى هذا ولكن أوافق طالما كان هذا رأيها.

عمتي كانت ملكة بلا عروشٍ أو تيجان وكانت ظريفة ولها قدرة هائلة على إضحاك والدي المتزن بشخصيته القوية، كان أحيانا يخشى الحضور في مناسبة تجمعه بها، تقول عمتي كنت اتعمد اقتلاع الضحكات منه حتى نرى نواجذه ويخرج مسرعاً خوفاً من المزيد فيفقد السيطرة على اتزانه فتظهر شخصية أخرى غير التي تعرفها عائلتنا عنه.

عمتي كانت قادرة على هز جبال عائلتنا فتحدث زلزالاً يتهاوي أمامه العبوس والحزين والرزين والهاديء والكتوم .

كانت قيلولتها ذلك النهار طويلة أطول مما يجب.
محبوبة خليفة .

*العلّي: العلية في العربية
*النطع: جلد الغنم بصوفه الكثيف.
*نبّي: أريد
*نجمة داوود: كانت زينة للمباني القديمة في درنة قبل أن تصبح شعاراً سيساسياً
*مبسم: الفم والأسنان الجميلة
سمحة: جميلة

**كل تشابه بين بطلة هذه القصة وبين عمة أحدكم طبيعي جداً فلا يحسب أحد أنني أقصد عمته أو حتى عمتي فلا عمات لدي!!

**نشرت على موقع السقيفة الليبية
قم بزيارة الأنط

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى