أ. د. محمد حماسة - رحلتي مع الشعر (الجزء السادس)

كان من المعيدين الذين أحاطونا بكثير من الرعاية والعطف والتشجيع علي عشري زايد – عليه رحمة الله – فقد كان لا يقصر اهتمامه على الندوة الأسبوعية التي تقام كل يوم خميس، بل كان إذا أسمعه أحدنا قصيدة استكتبه إياها وأخذ نسخة منها، ويعود بعد أيام قليلة وقد كتب عنها أكثر من ملزمة ويعيدها مع ما كتب، ولو جمع ما كتبه عن قصائد الطلاب لكان أكثر من ثلاثة مجلدات ضخام. يفعل هذا مبعوثا إليه بروح المودة والتعاطف، والحث والأخذ بأيدي الصغار في غير مَنٍّ ولا أذى.

وكان منهم سعد مصلوح وهو شاعر ذو شعر رصين، وكانت سِنُّه – وقد تخرج في الصيف الذي دخلنا فيه الكلية – مقاربة لسِنّنا، بل أنا أكبره بعامين، وكان هذا مبعث إعجابي الشديد. لقد خلطنا بنفسه، وآخانا مؤاخاة حميمة، وكان ينشدنا من مختاراته أكثر مما ينشدنا من شعره، وقد شكلت رؤيته الناضجة وفهمه للشعر جزءًا كبيرًا من رؤيتنا.

وكان منهم محمد عيد الذي كان يتمتع بجدية صارمة، وكانت نظرته إلى أستاذ الجامعة أقرب إلى التقديس منها إلى شيء آخر، يراه صاحب رسالة من الرسالات الكبرى، وكان يأخذ نفسه قبل غيره بهذه الرؤية، ويحاول أن يحمل الآخرين على ما يرى، ويأخذهم به، ويريدهم عليه. كان يشارك في الندوات ويزن كلامه بميزان دقيق، ولكنه إذا أعجب بإحدى القصائد ظل يردد الحديث عنها زمنا طويلا يبادر به صاحبها وإن لم تدع إلى ذلك مناسبة.
وكان منهم محمد أبو الأنوار الذي كان يشارك قليلا في التعليق على الندوات، ولكن اتجاهه كان أقرب إلى المعايير القديمة، على عكس محمد فتوح الذي ينشد الأفكار الجديدة.
وكانت أحكامه – أي محمد أبو الأنوار – قاطعة حاسمة. وكان يقف عند اللفظة الواحدة ينشد أناقتها ودقتها من وجهة نظرة، وتمثلت لنا ملاحظاته على هيئته واضحة محددة أنيقة حسنة المظهر.
وكان منهم حسن الشافعي الذي بدا لنا في فكره وأسلوبه وطريقة تعامله أكبر من معيد، لم تكن ملاحظاته جزئية، وكان ذوقه نافذا، وكان أشبه بالقائد المحنك الرحيم، وكان يدرس لنا أحد كتب الدكتور محمود قاسم عميد الكلية وقتها، وكان يهتم بأحسن ما لدى كل منا ويغضى عن هناته، وإذا أشار إلى شيء من هذه الهنات فمع ابتسامة حانية تجعل تقبل الملاحظة سائغا. لم يكن يعلق على الندوات بل كان تعليقه دائمًا في جلسات خاصة في الكلية أو في بيته الذي كان يساكنه فيه علي عشري.

وقد قربنا هؤلاء جميعا منهم كأننا معيدون بينهم، وبعضهم كان يزورني في بيتي. وقد كانت آراؤهم ومناقشاتهم ذات أثر كبير في تصحيح مفهومنا وتعديل أفكارنا وتشكيل رؤانا، على اختلاف بينهم في التأثير، وعلى تفاوت في القرب والبعد. بدت لنا الكلية كلها حركة نشطة من الثقافة والفكر، وكان أظهر نشاطها هو الشعر والنظر فيه، فكأن الكلية كلها تتنفس شعرًا.
في الصيف لم أذهب إلى قريتي ككل صيف سابق، فقد حصلت على عمل في القاهرة، وهو العمل نفسه الذي حصل عليه أحمد درويش، ولذلك اتصل لقاؤنا، وتكرر كثيرا. في أحد لقاءاتنا قال حامد: يجب أن تكون لنا مقررية جماعة الشعر، واختارني لهذه المهمة، واعتذرت، وقبلها أحمد، وبتدبير ذكيّ من حامد نفذ ما أراد في أول العام الدراسي، فأصبح التخطيط لجماعة الشعر ونشاطها بأيدينا، وقد زاد من احترام زملائنا وحفاوة المعيدين وبعض أساتذتنا بنا أننا كنا من الأوائل. وقد انضم إلينا عدد من الأصدقاء الذين كانوا يكتبون الشعر مثل عبد الرحمن سالم والسعيد شوارب.

وقام صديقنا حسن البنداري بتأليف (جماعة القصة) التي توازت مع جماعة الشعر، وكانت تعقد ندوتها عقب دروس يوم الاثنين مع كل أسبوع وتعاون معه عدد من الزملاء كُتَّاب القصة القصيرة مثل رفعت الفرنواني – عليه رحمة الله – ومحمود عوض عبد العال، وعبد الفتاح منصور الذي كان قصاصا واعدًا ولا أدري كيف تصرفت به الأيام، وأخذ بيد هذه الجماعة الناشئة علي أبو المكارم ثم عبد الحكيم حسان. وأصبحت الكلية شعلة من النشاط الثقافي حيث الندوات والمهرجانات التي كثر عددها في العام وكان هناك من قبل مهرجان واحد كل عام، وتردد على الكلية الشعراء الكبار وشعراء جيل الوسط، وكان أبرز الشعراء الذين ينشدون في المهرجان نزار قباني وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي ومحمد الفيتوري وفاروق شوشة وإسماعيل الصيفي وأنس داود ومحمد فتوح. وألقى الشعراء من الطلاب أشعارهم أمام هؤلاء. وكان عميد الكلية الدكتور محمود قاسم علي رأس لفيف من الأساتذة في مقدمة الحضور في كل مهرجان، وكان العميد دائمًا يلقي كلمة ترحيب بضيوف الكلية من الشعراء. وكنت أرى الحركة إلى الكلية ومنها في هذه المناسبات كما وصفها العقاد أشبه بخط النمل وكان مسرح الكلية يغص بالرواد. وكان شعراء الكلية يستعدون للمهرجان استعدادا خاصا بأن يقدم كل منهم قصيدة جديدة لم ينشدها من قبل في الندوة أو غيرها، وكان أحمد درويش كثيرا ما يتألق في تقديم الشعراء الكبار والصغار، وكنا نحن نختار القصائد التي تستحق أن تلقى في المهرجان.
في هذه الفترة كانت مصر كلها في ذروة تألقها الثقافي، فكانت هناك مجلة للشعر، وأخرى للقصة، وثالثة للمسرح، ورابعة للسينما، وخامسة للكتاب، وسابعة لتلخيص أمهات الكتب العربية والعالمية تحت اسم (تراث الإنسان)، بالإضافة إلى مجلة (المجلة) و(الرسالة) و(الثقافة) و(عالم الفكر) ، ومع هذا كله إصدارات أسبوعية ونصف شهرية وشهرية لأنواع من الكتب كأعلام العرب والمسرح العالمي والروايات والمكتبة الثقافية وروائع المسرح، ويواكب هذا أيضًا إصدار جديد لأمهات التراث العربي كالأغاني للأصفهاني وعيون الأخبار لابن قتيبة وصبح الأعشى للقلقشندي والنجوم الزاهرة لابن تغرى بردي، ونهاية الأرب للنويري، وكانت أثمان هذه الكتب والمطبوعات في متناول الجميع. كان المد القومي قبل هزيمة يونيه والشعور الوطني في ذروته، وكان هناك تجاوب في كل مناشط الحياة مع هذا الشعور الطاغي.

في هذه المرحلة كتبت قصيدة الشعر الحر، وعرفت قصائدي طريقها إلى مجلة الشعر التي كان يرأس تحريرها الدكتور عبد القادر القط الذي لم يكن الوسيط بيني وبينه إلاّ ساعي البريد، وكنت أوقّع القصيدة باسمي فقط دون أية بيانات أخرى. كان كل منا مع الصلة الشديدة يسلك سبيله وحده في نشر قصائده، ولا يتحدث مع الآخريْن في شيء من هذا، ويسعد بمفاجأة زميليه بنشر قصيدة له، وكذلك كنا نفعل في التقديم لجوائز الشعر، وكنا نفاجأ بوجودنا معا في تسلم الجوائز التي كنا نتبادل فيها المواقع الأولى، وقد لفت هذا نظر يوسف السباعي مرة حين صعدنا أكثر من مرة لتسلم الجوائز فقال: (إنكم سوف تقضون على كل الجوائز) .



أعلى