أ. د. محمد حماسة - رحلتي مع الشعر (الجزء السابع)

كان نجاحي بامتياز في سنوات الدراسة يعزز موقفي الشعري بشكل ما، وكنا معا مرموقين متألقين، وكل منا يتألق في جانب، وكان حامد أكثرنا تألقا في الشعر، وأغزر إنتاجا وتنوعا في قصائده.
في هذا العام عاد إلى الكلية بعض المبعوثين الذين حصلوا على الدكتوراه من لندن وكامبردج وهم السعيد بدوي ومحمود الربيعي وحمدي السكوت وكمال جعفر (يرحمه الله) وأحمد غراب (يرحمه الله) وعلى حبيبة، وقد درسوا لنا جميعا إلا السعيد بدوي الذي أشعر أن من نعمة الله علىّ أنْ سمح لي فيما بعد بأن أكون قريبا منه.

وقد قلت في إهدائه كتابا لي:

ليس من نال في الخلائق جاهًا * أو حوى المال كيسه بالسعيد
السعيد السعيد من خصه اللهُ بفضل فنال ودّ (السعيد).

وقد أحسسنا نحن – الطلاب – بأثر هؤلاء في الكلية على تفاوت بالطبع بينهم، وكان عميد الكلية يميل إلى الشباب ويثق بهم ويحثهم على الالتصاق بالطلاب في المناشط الثقافية. وكنا نسمع عن محمود الربيعي، وقد قرأنا له قصيدة في مجلة دار العلوم في سنوات الخمسينيات مطلعها:

أنا عائد من قريتي * في الريف أحكي قصتي

وأعجبنا بها، وكان يحدثنا عنه محمد فتوح، ويقول: سوف يجيء إليكم شاعر ناقد من طراز فريد. وقد كتب فتوح قصيدة جميلة في استقبال هؤلاء العائدين بعنوان (أمّي الثانية). سرعان ما جذبنا محمود الربيعي بسلوكه الراقي، وأدائه المتميز، وثقته الكبيرة بالنفس، وتطلعه إلى مساعدة الشباب والأخذ بأيديهم. وكما اصطفانا السيد صقر في معهد القاهرة الديني اصطفانا محمود الربيعي في دار العلوم، ووجدنا فيه أستاذا مستنيرا وأخا أكبر وصديقا حميما، وكان أكثر ما لفتنا فيه أول الأمر تعليقه النقدي الذي يصف فيه القصيدة ويحاول أن يفسّر دون أن يصدر حكما بالجودة أو بالرداءة ولم يمض وقت طويل حتى كنا من محبيه وحوارييه، وقد أفدنا إفادة كبيرة من رؤيته النقدية، وبعض نظراته في الحياة والناس، وترى هذا مصدِّقا في مقدمته الضافية التي كتبها لمجموعتنا المشتركة الثانية (نافذة في جدار الصمت).

في هذه المرحلة دعينا نحن الثلاثة لأمسية شعرية لا يشاركنا فيها شاعر آخر في المركز العام للشبان المسلمين، ذلك المكان الذي كنا نتردد عليه في المرحلة الثانوية وتتطلع نفوسنا إلى الإنشاد على منصته، وكان هذا أمنية يتمناها لنا المحبون، وكان في هذه الأمسية أستاذ من دار العلوم يقوم بالتعليق النقدي على القصائد التي سنلقيها. ولما ألقينا قصائدنا تقدم هو للتعليق، وكنا نجلس خلفه، وسمعته يقول كلامًا لا علاقة له بقصيدتي، فهمست لحامد – أو ظننت أنني أهمس – قائلا: (إنه لا يفهم القصيدة). وكانت المفاجأة التي أصابتني بكثير من الخجل أنه سمع عبارتي، وعلق عليها بصوت مسموع للجمهور مما زادني خجلا. والغريب أنه لم يغفر لي هذه العبارة حتى يومنا هذا، وكانت أحد الأسباب في الكثير مما عانيته منه بعد ذلك.

في آخر سنة لنا بالكلية، وعقب أحد المهرجانات الشعرية، انفرد بنا صلاح عبد الصبور – وكان وقتها يرأس الهيئة العامة للكتاب – وطلب منا أن يعد كل منا عددا من القصائد ليطبعها لنا في ديوان واحد، وسعدنا بهذا الطلب وأسرعنا في إعداد ما طلب منا، وذهبنا إلى مكتبه في الهيئة العامة للكتاب واستقبلنا استقبالا ودودًا، وسلمناه قصائدنا مجموعة معا، وسمينا هذه المجموعة (ثلاثة ألحان مصرية)، وقد تلكأتْ بتأثير الروتين المصري ثلاث سنوات، فلم تظهر إلا سنة 1970، وتناول كل منا عن هذه المجموعة أربعين جنيها، اقتطعت الضرائب منها خمسة جنيهات، ولكني فوجئت في السنة التالية بخطاب من الضرائب يطالبني بضعف ما أخذته عن هذه المجموعة تحت عنوان أن مهنتي (مؤلف أشعار)!



أعلى