جهاد فاضل - ذكريات مع توفيق الحكيم عصفور الشرق العربي....

كنت كلّما وجدتُ نفسي حائرًا, ماذا أفعل - بعد ظهر كل يوم في القاهرة - أتساءل: وهل هناك أفضل من عيادة توفيق الحكيم!

أديب كبير, ذو قامة تاريخية, معتلّ الصحة, يوشك على مغادرة هذه الدنيا الفانية قريبًا, ويستقبل الناس بلا مواعيد في الصالون الملحق بغرفته في المستشفى, فكنت أذهب لعيادته في أكثر الأيام, وأمضي بصحبته ساعات يحدّثني خلالها في مسائل كثيرة: في الأدب والفن, والسياسة والتاريخ. فإذا كفّ عن الحديث, فلكي ينام قليلاً على كرسيّه, أو ليشاهد ما يبثّه التلفزيون, أو ليسألني عن أخبار لبنان وعن محنته التي طالت - الحرب الأهلية - وكذلك عن بعض أدباء لبنان الذين هم من جيله, وفي طليعتهم ميخائيل نعيمة.

كان توفيق الحكيم في تلك الفترة قد استسلم إلى الشيخوخة. وصف لي حياته قبل دخوله المستشفى بأنها كانت كارثة. فقد كان لا يستطيع السير - كما ذكر لي - إلا بمحاذاة الحائط. يضع يده عليه لكي يعينه على السير مخافة الوقوع. ثم إنه كان يمضي أيامه وحيدًا في منزله, بعد أن ماتت زوجته, ومات ابنه إسماعيل. وأذكر أنه قال لي إنه لم يكن يحب زوجته, بالرغم من أنها امرأة طيبة. (لقد كانت بالنسبة لي زوجة لا حبيبة). ولكنه كان يحبّ ابنه إسماعيل حبًا شديدًا. وقد فُجع لاحقًا به, وهو في ريعان شبابه.

وكان يستسلم للحديث في السياسة ساعات, يتحدث فيها بالتفصيل عن رجال مصر الذين عاصرهم في شبابه. وعن ثورة 1919, والفرق بينها وبين ثورة يوليو لعام 1952, وعندما كان الحديث يصل إلى جمال عبدالناصر وصحبه, كنت أشعر كما لو أنه يتحدث عن (فتية) أو عن (شبان). فإذا شعر سامعه للحظة, أنه يوقّر أولئك (الفتية) أو (الشبان), فإن هذا الشعور يفارقه تماما بعد ذلك, ليحلّ محله شعور بأن أولئك الفتية لم يحوزوا ثقته, وأنه أخذ عليهم مآخذ شتى منها نقص الخبرة والتجربة, ومنها نقص آخر (خرّب) المشهد من أساسه, هو النقص في الحرية والديمقراطية. وهنا كان الحكيم يأخذ راحته ليروي حكايات كثيرة (روى بعضها في كتابه (عودة الوعي) الذي صدر في سنواته الأخيرة), عن عصر ذاقت فيه مصر, وذاق فيه شعبها وأحرارها, الهوان.

نقطة ضعفه

ولأن نقطة ضعفه كانت يومها, لا صحته وحسب, بل وأيضًا تأييده لكامب ديفيد, وما ناله بسبب هذا التأييد من أذى في الصحافة العربية خارج مصر, فقد فرح بزياراتي المتكررة له على أمل أن أنقل وجهة نظره في الموضوع إلى العالم العربي خارج مصر, شرح لي لماذا أيّد كامب ديفيد, ولماذا طالب بحياد مصر, وبأن تكون القاهرة (جنيف) العرب: أرض سلام وحوار يلتقي فيها الجميع. وقال إنه ليس ضد طموح شعب فلسطين, أو ضد الطموح العربي القومي عمومًا, فهو مع الجامعة العربية, ومع (الجامعة الثقافية العربية). قال لي إنه يقترح تأسيس جامعة ثقافية عربية, وسوق ثقافية عربية واحدة, وأنه لم يكن يومًا معاديًا للعرب, أو لفكرة العروبة. ولايزال صوته, رحمه الله, يرنّ في أذني إلى الآن, وهو يقول لي بلهجة حماسية: (عصفور من الشرق) (وهو أحد كتبه الأولى) يعني عصفورًا من الشرق العربي... الشرق هنا هو الشرق العربي, لا الشرق الأقصى. الشرق هنا هو العرب لا الهنود ولا الصينيون. هل يمكن أن أكون انعزاليًا, وقد كتبت (عودة الروح)? لا. أنا مصري وعربي في آن, ولكن دعني أشرح لك.

وأدعه - بالطبع - يشرح لي وجهة نظره بالتفصيل: (سنة 1919, قال سعد زغلول ورفاقه للمفوض الإنجليزي في مصر: لقد فرضتم الحماية لأجل الحرب, والحرب انتهت, فارفعوا الحماية عنا. فقال المفوض الإنجليزي: وإذا رفعنا الحماية, فإلى من ستنضمّون? قالوا: نستقلّ. وكان الجواب: الخرائط التي عندنا تقول إن مصر ليست دولة, فهل تريدون أن تعودوا تحت الاحتلال العثماني مرة أخرى, وهو عدوّنا? قالوا: لا. نحن نريد استقلال مصر لا غير. فقال المفوض الإنجليزي: وما هي مصر? أنتم مجرد قطر لا أكثر.

لذلك نشأ عند المصريين شعور بضرورة إثبات أن مصر دولة, لم يكن واردًا عندهم أن مصر عربية لأن الدول العربية الأخرى كانت تحت الاحتلال أيضًا. لبنان وسورية, كانتا تحت الاحتلال الفرنسي. فلسطين والأردن والعراق تحت الاحتلال البريطاني, وكان من الصعب يومها الحديث عن (عروبة) و(وحدة عربية). كان على المصري أن يتحمل مسئوليته منفردًا, لكي يحصل على استقلاله. لذلك كان همّنا كمصريين أن نُشعر الإنجليز بوجود (شخصية مصرية). لم يكن عندنا بنوك, كانت بنوكنا تحمل أسماء أجنبية كالبنك العثماني, والبنك اليوناني, لم يكن عندنا بنك مصري, قام طلعت حرب وأنشأ بنكًا.

عودة الروح

في الأدب - والحديث مازال لتوفيق الحكيم - فكّرنا بأن يكون عندنا أدب مصري, وثقافة مصرية, ولكن للغرض ذاته. في مثل هذا المناخ, كتبت أنا (عودة الروح). وكان الغرض التركيز على تاريخ مصر وتراث مصر. ولكن هذا ليس انعزالية وليس تقوقعًا. إذا تحدث السوريون واللبنانيون عن الفينيقيين والآراميين والكنعانيين, فهل يكونون انعزاليين أو معادين للعروبة? لا. هذا التغنّي بالتراث القديم لا ينفي أبدًا رابطة العروبة, العروبة هي التعب,. اسمك جهاد, واسمي توفيق, إنما لقب العائلة هو الجامع, لقب عائلتنا هو العرب.

هذه كانت (عودة الروح), بعد ذلك كتبت (عصفور من الشرق). يومها كان يجب أن أكتب لها مقدمة, لكني لم أشعر أن عليّ أن أكتب مثل هذه المقدمة, يومها لم يكن هناك أي اتهام. أنا قصدت الشرق العربي, لو كنت قصدت المصرية أو الفرعونية, لقلت (عصفور من مصر), لا (عصفور من الشرق).

(عصفور من الشرق), يعني العرب, ثم إن الكتاب كله عبارة عن عاطفة نحو العرب, نحو الشام والجزيرة العربية, عندما تقرأ الكتاب لا تجد لا الصين ولا الهند, إنني أحدّثك بهذا لأول مرة في حياتي.

وأضاف الحكيم وهو يتحدث بحرارة وحماسة:

عندما كنت أقول في الماضي إننا فراعنة, لم أكن وحدي. كل المصريين كانوا في يوم من الأيام يقولون ذلك. عندما أقاموا لسعد زغلول مقبرة, أقاموها على الطراز الفرعوني. في يوم من الأيام كان هدفنا إظهار شخصية مصر لأسباب سياسية بحتة, وأدباء مصر كانوا فرعونيين أيضًا, ومنهم محمد حسين هيكل والعقاد وطه حسين.

إن (عصفور من الشرق), لم يكن تصحيحًا لاتهام, إذ لم يكن أحد يتهمنا بشيء يومها. كان العالم العربي كله تقريبًا خاضعًا للاستعمار. وقد كتبت (عصفور من الشرق) بصورة عفوية, لا ردّا على اتهام من أحد...(عصفور من الشرق), كان نتيجة شعور داخلي, بأننا عرب. لقد رأيت بصورة عفوية أن حقيقتنا ليست الفرعونية بل العروبة. جواز السفر العائد لنا هو جنسية سياسية, إنما الشعور هو شعور عربي, قلت (عصفور من الشرق العربي), ودليلي على ذلك أنني لم أقل (عصفور من مصر). أنا من مصر, وقد ذهبت إلى فرنسا, وكان يتعين عليّ إبراز مصريتي المحضة لو أردت. ولكنني لم أفعل. تركت للسياسيين الحديث السياسي, وعدت إلى الأدب والتراث العربي. عدت للقب الأسرة الكبيرة, التي تضمنا كلنا واسمها العروبة. عروبتي عليك أن تعود إليها في كتابي (عصفور من الشرق), الذي أتكلم فيه عن المجد العربي, وقد أردت أن أقول للأوربيين فيه: إن بلادنا ذات فضل كبير على بلادكم, وإن بلادكم أرض المادة, بينما بلادنا أرض الروح, وهي التي أخرجت للعالم موسى وعيسى ومحمد. هؤلاء يذكرهم القرآن بكل إجلال. يقول لك القرآن: التوراة والإنجيل والقرآن.

(عصفور من الشرق) ظهر سنة 1938, وكلمة (العروبة) لم تكن معروفة عندنا في مصر, إذن أنا لم أصحح, أنا أكملت (عودة الروح)!

أقوى من السياسة

وبلهجته المصرية روى لي حادثًا طريفًا عن زيارته لهايدبارك في لندن إبان غضب العرب عليه, ونصيحة بعض أصدقائه له بعدم الذهاب خوفًا عليه من العرب الذين قد يعرفونه هناك فيفتكون به.

قال لي: عام 1982 كان الخلاف على أشدّه بين مصر والعرب. وكانت هناك اغتيالات, أردت أن أسافر إلى أوربا, فنصحني الكثيرون بعدم السفر خوفًا عليّ من الاغتيال. قلت لهم: (أنا عايز أسافر ضروري, لي حاجات...عايز أسافر, قالوا: ما تسافرش خصوصًا أنت معروف (بالبيريه)...قلت لهم:

باريس واسعة ولن يعرفوني! قالوا لي: بتموت, ما تسافرش, تلفون صغير وأنت نازل باللوكندة يعرفوك).

(قعدت يونيو ويوليو خايف أسافر. لما جه أغسطس قعدت أفكر: طيب وأنا خايف من الموت ليه? أنا سنيّ دلوقت جاوز الثمانين. لما أموت باغتيال يسهل عليّ...سأذهب وأعرّض نفسي, فإذا قتلني واحد من المتطرفين, يريحني من حياتي. سافرت ولكن لا لفرنسا, بل لإنجلترا ورحت هناك لهايدبارك, حيث يوجد عرب كثيرون, رحت خصيصًا لهايد بارك لعل أحدًا من العرب يصادفني هناك. رابطت على مقعد لكي أتعرّض للعرب الذين قيل إنهم يقومون باغتيالات. بعد لحظة, لمحت جماعة عرفت من شكلهم أنهم عرب. كما أنني رأيت أنهم قادمون نحوي, قلت لنفسي: الساعة دنت وأنا مستعدّ, اقترب مني العرب, ولكن بالأحضان, انقضّوا عليّ بالقبلات. أنا دُهشت. إيه ده? قلت: إنتوا عارفين مين أنا? قالوا: أيوه. قلت: مش فيه خصومة? قالوا: خصومة إيه? قلت: مافيش يعني اغتيالات? بقى أنا مستعدّ للموت لأني عاوز أستريح من الدنيا.

قالوا: ما تقولش كده, إحنا بنحبّك, واحنا مش عارف إيه والقراءة الكثيرة التي قرأناها لك. قرأنا كل رواياتك وانتفعنا بها. نحن قد نختلف معك في السياسة, ولكن أنت أديب كبير, ويجمعنا بك رباط أقوى وأشدّ من السياسة)!

(قعدوا معاي ووجدت الحب والعطف لدرجة أنني غيّرت فكري. قلت: هناك حاجة أقوى من السياسة هي العروبة نفسها, ولكن لا عروبة الشعارات. أنا لم أكتب في حياتي كلمة رنّانة من نوع نحن عرب وعروبة...لا. إنما أنا عاوز الإحساس الطبيعي. وجدت الإحساس الطبيعي عند العرب, فآمنت بهذا, وابتدأ تفكيري يتجه نحو شيء أنادي به, وهو أن ما يجمع العرب ككتلة قوية وكإحياء لحضارة هو شيء واحد: جامعة عربية أخرى, مش جامعة عربية أساسها السياسة, بل جامعة عربية أساسها الثقافة)!

كان حديث توفيق الحكيم شائقًا وطريفًا, حديث أديب كبير تجاوز الثمانين, ولكن ذاكرته كانت حيّة متوهجة. وكان حديثه عن الماضي بالذات أكثر طرافة من حديثه عن الحاضر. ذلك أنه بحكم سنّه, كان يقيم في الماضي أكثر مما كان يقيم في الحاضر.

سر الإبداع

وكان حديثه في جلسات أخرى يتصف بالعمق والملاحظة النافذة, والكلمة النازلة منزلها. أذكر أني سألته مرة عن (سرّ) الإبداع الأدبي والفني, وكيف يتأكد أنه أمام عمل إبداعي حقيقي, لا أمام عمل آخر ملتبس, صمت قليلاً قبل أن يقول لي, وعيناه تشعّان برؤى كثيرة: (الإبداع! أنا لا أستطيع له تعريفًا. لعله يدخل في التكوين الإلهي لطبيعة إنسان خلقه الله على صورة معينة, كما لو كنت تقول لي: ما سرّ الإبداع عند النحلة التي تفرز العسل? هي لا تعرف كيف يحصل هذا, ولا تعرف كيف وُضع في غريزتها: أن تحوم حول الأزهار, أن تأخذ رحيقها, ثم (تبدع) بعد ذلك....الأشكال التي تضع فيها النحلة العسل, لها اسم...ذكّرني ما هو هذا الاسم? المهم أنها أشكال هندسية لها أضلاع سداسية. أليس كذلك? إن أحدًا لا يدري كيف خططتها النحلة? والنحلة لا تعرف الهندسة. لا تعرف كيف وضعت هذه الأشكال, وأبدعتها ووضعت فيها العسل. هذا الإبداع لا تعرفه النحلة إلا في الغريزة.

وخلص الحكيم إلى القول: (وهكذا يبدو لي أن الإبداع في طبيعة المبدع, ومن الطبيعة. الإبداع متفاوت ومتعدد. تأتي لشخص لا يقرأ ولا يكتب, ولكن غريزته وإبداعه في قدمه, كالرياضي. وبدلاً من أن يقولوا: الكاتب المبدع, يقولون: الهدّاف المبدع)!

وقد أثنى على نجيب محفوظ ثناء عطرًا لأنه (خدم الرواية العربية خدمة جليلة). أما الرواية في صباه هو, فقد كانت محدودة.

هيكل عمل (زينب). طه عمل (الكروان) و(الأيام). والعقاد عمل (سارة) والمازني (إبراهيم الكاتب), وأنا (عودة الروح). ونصيحتي الأولى للروائيين الجدد أن يقرأوا. لا تكوين للذات دون قراءة. وعليهم أن يعرفوا أننا نحن قد تكوّنا من القراءة. أطلب من الروائيين الشباب أن يقرأوا من أعمالي (زهرة العمر), و(سجن العمر), و(فن الأدب). في (فن الأدب) آراء وملاحظات جيدة. القراءة قبل كل شيء. ليقرأوا نجيب محفوظ. نجيب في الحقيقة أحسنهم. وفي القصص القصيرة ليقرأوا يوسف إدريس. قصصنا نحن يجب أن يقرأوها من أجل أن يعلموا ما هي اهتمامات الذين سبقوهم, من باب العلم بالشيء. التكوين مهم جدًا, لا يجوز أن يمسكوا القلم قبل أن يتكوّنوا. ثم: هل يجوز ألاّ يقرأوا أمهات الكتب الأجنبية? دستويفسكي, تشيكوف, بلزاك? ثم كيف يكتب الأجانب الآن روايتهم?!

لا أذكر عدد المرات التي زرت فيها توفيق الحكيم في جناحه في مستشفى (المقاولون العرب), بالجبل الأخضر. كل ما أذكره الآن أنني أقمت في القاهرة مرة حوالي شهر, فعرفت أن الحكيم في المستشفى, وأنه يمكن أن يكون في (مرض الموت), وهو المرض الذي ينتهي بصاحبه إلى الموت. ولأنني كنت أحبه منذ صباي, وقد زرته مرارًا في السابق في مكتبه بجريدة الأهرام, فقد زرته في مستشفاه مرات كثيرة لأؤكد له حب العرب وعتبهم في الوقت نفسه عليه, وها هو الكدر يزول مع الوقت ليبقى توفيق الحكيم منارة متألقة في تراثنا الأدبي المعاصر.
جهاد فاضل مجلة العربي سبتمبر 2005
أعلى