أمل الكردفاني - الرجل الذي نسي اسمه.. قصة قصيرة

▪استيقظ وقد نسي اسمه..نعم بكل بساطة، فتح عينيه ورأى السقف، حاول أن يقول: " أتمنى أن يكون يومك أفضل يا ولد يا...." وأدرك أنه قد نسي إسمه في تلك اللحظة..
ضغط على جفنيه بشدة، فسمع صوت زوجته:
- هل أنت مريض؟ هل تتألم؟
نظر إليها، وكاد أن يخبرها بأنه نسي اسمه، لكنها كانت لتجزع. وربما كانت لتعتقد أنه قد فقد الذاكرة تماماً. لكنه لم يفقد ذاكرته، فقط نسي اسمه. فتح هاتفه ليتذكر اسمه، إعتقد أنه سيجد اسمه مكتوباً في إحدى وسائل التواصل، لكنه لم يجد شيئاً، حتى بريده الالكتروني لم يكن باسمه، بل باسم ابنه الصبي. رمى هاتفه وذهب للحمام وهو صامت، استاك، ثم تغوط وتحمى، وجفف جسده، وارتدى ملابسه الداخليه، وهو يسمع صوت ولديه، كانا يصخبان وهما يستعدان للذهاب إلى المدرسة. هل أسألهما؟ بدا له الأمر مضحكاً، بالتأكيد سيفهمانه على نحو خاطئ. الصبي في الثالثة عشر والأصغر منه في التاسعة، كان الفارق بينهما خمس سنوات كاملة. وزوجته الآن حُبلى بأميرته الصغيرة، بضعة أشهر وتخرج لتشاركهم ضجيج الحياة. "سأتذكر".. اتجه إلى المطبخ لإعداد فنجان قهوة، فقالت زوجته جملتها اليومية المكررة "تعد قهوتك بنفسك، على غير عادتك أيها الإتكالي". لم تغضبه جملتها هذه أبداً، لكنه قرر تصعيد الوضع إلى حرب فصاح "إنك كاذبة كالعادة..تكذبين كما تتنفسين، إنني أعد قهوتي بنفسي منذ أول يوم في زواجنا، لأنك تكرهين رائحة القهوة..ومع ذلك وبعد أن اتناول قهوتي، تذهبين وتعدين لنفسك قهوة خاصة بك..".. نظرت إلى عينيه الغاضبتين بحيرة، وكان ينتظرها أن تنطق باسمه، لكنها هزت كتفيها بغير اكتراث، ومضت. إرتدى ملابسه، وقاد الصبيين إلى المدرسة، كانت المواصلات خفيفة الازدحام على غير عادتها، وبعد أن راقبهما وهما يدخلان إلى باحة المدرسة، عاد واستقل المواصلات إلى عمله. "سيخبرونني باسمي في العمل..متأكد من ذلك". وجد موظف الاستقبال منكباً على تدوين كلمات ما على دفتر الحضور والغياب، فانتهز هو الفرصة.."صباح الخير" "صباح الخير سيدي".."أراك منكباً على تدوين أسماء الحاضرين والغائبين؟"، "لا أبداً فهذا ليس دفتر الحضور والغياب، إنه دفتري الخاص إذ انني أدون فيه بعض الحكم من الكتاب المقدس"،.."كتاب مقدس..أها..حسنٌ..هل تسدي لي خدمة؟".. "بالتأكيد سيدي".."هل تعرف إذا ما كنت قد تغيبت في يوم الثالث والعشرين من شهر مايو؟"..أجابه الشاب وهو يطوي دفتره، ويخرج دفتراً آخر ازرق اللون: "بكل تأكيد يا سيدي"..أخذ الفتى يقرأ الأسماء المدونة على الدفتر..ثم قال "لا.. لا يبدو أنك قد حضرت في ذلك اليوم"..أصيب بالجمود، فهو متأكد أنه لم يغب يوماً واحداً عن عمله "أرجوك راجعه مرة أخرى"..تابع الفتى القراءة وسبابته تهبط من أعلى لأسفل ثم رفع رأسه وقال بجدية "لا.. متأكد أنك لم تحضر".. عبث به توتر خفيف لكنه استجمع شجاعته، ومضى إلى درج مكتبه ضمن شركاء ثلاثة آخرين معه في المكتب. كانت هناك الموظفة التي تملك وجه الملاكم تايسون ، وهي فوق ذلك تضع تحت قدميها سلة للبصق المتواصل، إذ لا تتوقف عن البصق حتى وهي تأكل سندوتش الطعمية، حيث تسعل أثناء الأكل فتمضغ لقمتها بسرعة وتبتلعها، قبل أن تنحني قليلاً لتبصق داخل السلة وتعود للأكل مرة أخرى. "صباح الخير" لم يسمع صوتها الخافت جيداً وهي ترد التحية.كانت مشغولة في قراءة رسائل على هاتفها، وهي تبصق كل دقيقة. "الم يأتيا؟" غمغمت دون أن ترفع رأسها من على الهاتف "لا... متسيبان كالعادة"..حاول استدراجها لتنطق اسمه "هل تتذكرين يوم الثالث والعشرين من شهر مايو..هل تغيبت؟". بصقت ثم غمغمت بصوتها الخفيض وعيناها على شاشة الهاتف وأصابعها تضغط على أزراره الضوئية "الثالث والعشرون كان يوم العطلة الأسبوعية يا أستاذ".."أووه.." إنها امرأة قبيحة ومقرفة لكنها خبيثة جداً، وفوق خباثتها تتمتع بذاكرة شيطان، وثبات نفسي وعصبي كأفضل ما يمكن أن يكون عليه جندي في القوات الخاصة. دخل الموظفان الآخران، وألقيا التحية "يبدو أنكما كنتما معاً؟" قال لهما فرد أحدهما وهو يضحك"كانت ليلة صاخبة..لقد سهرنا سوياً عند البارونة.."..قال بدهشة "البارونة بائعة العرقي؟".. قال الآخر "لا..لقدتركت الخمر البلدي واتجهت لصناعة النبيذ..هل تصدق ذلك..لقد فعلت ما قلته لها..فقبل شهرين فقط.. أخبرتها بأن عليها أن تطور عملها من الخمر البلدي للنبيذ..ولم تتوانَ عن اتباع نصيحتي، ونحن بالتأكيد في عصر الانترنت، لقد تعلمت صنع النبيذ بسرعة، بل أصبح نبيذها مشهوراً بالجودة، وإقراراً منها بفضل نصيحتي عليها فقد دعتنا لقضاء ليلة صاخبة ومعها الفتياة الصغيرات اللطيفات". غمغمت الموظفة دون أن ترفع عينيها عن شاشة الهاتف "إحترم نفسك يا موظف، فأنا المشرفة هنا وأستطيع كتابة تقرير عنك".. خاف الموظف وغمغم بكلمات متعثرة "ولكنها حياتي الخاصة" رفعت عينيها المخيفتين وحدجته بنظرة ثاقبة ثم قالت بصوت بارد كفحيح الأفعى "حياتك الخاصة تحكيها خارج مكتب الحكومة..خاصة إذا تضمنت إشارات إباحية" نظر إليها بذعر فأكملت "كما أنني أحذرك أنت وصديقك من استمرار تسيبكما وتأخركما في الحضور إلى العمل..فهمت؟". إبتلع ريقه وناء كالقط "فهمت".
خرج من المكتب بعد نهاية الدوام، لقد انتظر أي واحد من زملائه لكي يناديه باسمه فيتذكره، لكنه فوجئ بأنه طوال نهار دوام كامل، لم يذكر أحد اسمه. فعاد لمنزله، واستقبلته زوجته بوجه حانق "أمك وشقيقتاك سيأتون للمبيت معنا حتى الغد" اسعده الخبر، فإذا كان كل البشر يمكنهم تجاهل أسماء بعضهم البعض، فإن هذا مستحيل عندما تكون الأم حاضرة مع ابنها. تقضي الأم كل حياتها وهي تتحدث عن إبنها كما لو كان سوبر مان، ثم توجه غمزاً ولمزاً لزوجته، ومن هنا يبدأ العداء بين الزوجة وحماتها، ذلك العداء الصامت الذي تستخدم فيه الحرب النفسية، والتي تصيب فيها النيران الزوج والإبن من الطرفين. بالفعل إستقبل أمه وشقيقته بترحاب، وجاءت زوجته فرسمت ابتسامة صفراء على شفتيها، وبدأ الغمز واللمز بين المرأتين.
"لماذا أصبت بالهُزال هكذا يا حبيبي، ألا تأكل جيداً يا حبة قلبي؟".. تقول الأم، فتلوي الزوجة شفتيها وتقول "ليس هزيلاً بل أْناْ التي وضعت له برنامج تغذية صحية صارم، حتى لا يصاب بالسمنة وأمراض السكري والانزلاق الغضروفي...الزوجة المتعلمة لا تمارس فوضى النساء الأميات الجاهلات، بل تعرف كيف تحافظ على صحة زوجها".. تلمع عين الأم وتحدث نفسها " انا امية وجاهلة يا مفعوصة .. حسنٌ".. ثم تقول بصوت عالٍ "كلامك صحيح، لكن إنجاب الاطفال يحتاج لطاقة والآن عرفتُ لماذا لم ينجب إبني سوى صبيين منذ سبعة عشر عاماً من الزواج". فترد الزوجة "تقول آخر الأبحاث العلمية -والتي لا يعرف عنها الاميون والجهلاء شيئاً- أن ثلاثة أطفال هو عدد مناسب تماماً لحياة أسرية سعيدة..فكثرة الإنجاب من عادات القبائل البدائية لأنها كانت تبحث عن المزيد من الأيدي العاملة والمحاربين"..
ينظر لزوجته بدهشة ثم يقول لنفسه "طعام صحي... أيدي عاملة؟ من أين أتت بهذا الكلام؟" لكنه يفضل عدم التدخل. ثم يزداد الوضع توتراً بين زوجته وأمه فيقترح أن يخرج بالأم وشقيقتيه في نزهة صغيرة ليريهم النهر القريب من الشقة. يخرج ثلاثتهم وترفض الزوجة الذهاب بحجة ثقل بطنها..فتقول الأم "في أيامنا كانت الحامل تزرع وتحصد وتغسل الملابس وتكويها فيساعدها ذلك على الولادة".. ترد الزوجة "الحمد لله أننا لم نعد نعيش تلك الحياة الفقيرة"..فيكفهر وجه الأم، حينها يدفعها إبنها من كتفها لتسرع بالخروج.."هيا يا أمي هيا"..
وينتهي اليوم دون أن تذكر أمه ولا شقيقتاه ولا زوجته ولا ولداه اسمه.فيتغطى وينقلب على جنبه الأيسر، ثم يغط في نوم عميق. ويرى نفسه غارقاً داخل برميل نفط أسود، وهناك غوريلا منحنيه وهي توجه مؤخرتها إليه، يسمعها تقول "هناك ستة موزات وسبعة قرود، كم موزة يأخذ كل قرد؟"..يحاول حساب المعادلة لكنه يشعر بعدم قدرته على ذلك فيقول "خمسة..كل قرد يأخذ خمس موزات؟"..تقول الغوريلا "هل تجيبني أم تسألني؟"..يشعر بالحرج، ويجد نفسه أمام جدار ضخم، جدار غطاه سواد الظلام..ثم يرى باباً ضخماً فيحاول فتحه، يضع إبهامه على جهاز قراءة البصمة فيأتيه صوت "لقد تغيبت يوم الثالث والعشرين من مايو عن العمل؟".. فيجيب بصمت "لا.. كان يوم عطلة" يأتيه الصوت "ولكن بصمة إبهامك ليس مطابقة.."..ينظر لإبهامه "ولكن كيف؟ إنه إبهامي نفسه؟ لم يتغير" يحاول مرتين أخرتين لكن الجهاز لا يستطيع قراءة بصمته "ساجرب إبهامي اليسار"..ثم يدفع بإبهامه بقوة نحو الأمام فتقول زوجته "ماذا تفعل..ما هذا التصرف الغريب..لماذا ترفع ذراعك هكذا؟" يستيقظ ويرى يده مستقيمة وإبهامه مقوس. فيقول وصوته يختنق "كم الساعة؟". تجيبه "السابعة والنصف صباحاً" يقول بجزع "يا إلهي..لقد تأخرت عن توصيل الولدين" فتقول هي "اليوم عطلة رسمية"..
حينها يقرر أن يظل صامتاً حتى يسترد كامل وعيه. "يبدو أن أمك قد استيقظت مبكراً كعادتها..".. يقول بدهشة "أمي معنا؟".. تنهض زوجته وتفتح الدولاب وتتعطر "ماذا حدث لك.. هل نسيت أنها جاءت بالأمس لتبيت يومي العطلة معنا" يضع يده فوق جبهته ويقول "آه..لقد نسيت.." تقول الزوجة "اخشى أن تنسى إسمك يوماً ما"..يغمغم "أنسى اسمي؟"..
تخرج زوجته فينهض ويتبعها ويصيح "نادِ امي وتعالي انتِ أيضاً".
وحين يجلس إلى المرأتين يقول:"أمي.. ما هو اسمي؟". فتنظر الأم نحوه بقلق "عن أي شيء تتحدث يا حبة القلب؟" يصيح بفزع "أرجوك أجيبيني فقط..ماهو اسمي؟".. تشعر الام بالفزع بدورها وتصيح "ماذا أصابك؟".. ينظر لزوجته "لقد نسيت اسمي..هل تتذكرينه؟".. لكنها تكتفي بالنظر إليه بدهشة..ينهض ويتجه نحو غرفة الصبيين، فيفتح الباب ويصيح : " إنهضا.." تصيح زوجته "ماذا تفعل..انك توقظهما وتفزعهما؟".. ينهض الصبيان وقد تجمدا من الفزع.."هل تعرفان ما هو اسم أبوكما؟".. يقول الصبي الكبير "أنت أبونا؟" ينفض جمجمته ويقول "أعرف أنني أبوكما..أنا أسألك..هل تعرف اسمي".. يظل الصبي جامداً ويبدأ الأصغر في البكاء.. فتهرع الزوجة وتحتضن إبنيها وتصيح "ماذا تفعل؟ هل جننت؟ ...أُخرج من هنا فوراً"..
يخرج ويرتدي ملابسه، ثم يقلب الدواليب والأدراج رأساً على عقب لكنه لا يجد بطاقة ثبوتية واحدة له...فيخرج من الغرفة ويمسك والدته من كتفيها ويهزها بعنف "اخبريني ما إسمي يا امرأة".. فتتسع عينا أمه وترتعش وجنتاها ثم تسقط مغمى عليها، في اللحظة التي تخرج فيها شقيقتاه..فتصرخان..
يتركهم جميعا ويندفع خارجاً من الشقة... يسير في الشوارع...يحاول قراءة كل اللافتات لكي يتذكر اسمه لكنه لا يتمكن من ذلك..يهرول صاعداً الجسور، ويمرق منها إلى الشوارع الرئيسية ثم الأزقة.. ولكنه فقد اسمه تماماً.. تماماً..
(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى