محمد عكاشة - عين السمكة.. قصة قصيرة

أصوات عديدة كانت تتدافع لتلحق ما تبقى من أحلام ، هذه الليلة لم أقدر على تمييز صوت عن الآخر ولكن بقيت كلها بصداها الجهورى الصاخب تطاردنى ، وتصفر فى أذنى كحشرات ليلية لا تغفل ، ولكن ما هو أجدر ذكره فى هذه اللحظات ، والتى أغط فيها سابحا فى نوم عميق مطعم بصيحات تشد رأسى نحو المذياع ، وعمود إستقباله يعلو ممتدا فى ظلام الغرفة الدافئ، وما هى إلا ساعات ويدلق الليل ألوان النهار من قربته ، ويلم أطراف ردائه ، فلربما تتلوى الأحلام وتنطوى طيات متتالية ومتراصة فى جلبابه ، ولم تعد تشاطرنى المنام ، أو ربما تتمرد هناء لفك طلاسم كل الكوابيس، وبماذا تفسر ما يصلنى من أصوات نافرة وصارخة.
وبما أن هناء هى التى قاسمتنى الحواديت، وإصبعها الذى أشار دون قصد إلى عين السمكة التى ظهرت فجأة على صدرى ، رغم أنى لم ألحظ هذا ، حتى بدت تتسع حدقتها ، وتتلون بشرتى ، مرة حمراء خفيفة منقطة ، ومرة بنية فاتحة ، غامقة ، وأحيانا سمراء مائلة إلى لون الطمى ، ألوان لم أعد أقدر على حصرها ، ولم تهدأ يدى ولم تسكن.
قلت: أزرار قميصى هذا الذى يحكم ياقته من أسفل الرقبة، وجيبه الواسع وهو يحتل مساحة كبيرة على صدرى من ناحية اليسار ، لابد وأنه السبب فى تضخم تلك العين، والتى أشارت إليها هناء ، وأنا لم أعد أستخدم المقص لتقليم أظافرى بشكل دائم ، فماذا سيحدث لو فككت أزرار قميصى الأزرق هذا وبدأت أتحسس صدرى الذى بدا مرتبكا وقلقا ، تحدث بداخله قرقعات وفرقعات كلما حبت أناملى تتحسس شعيراته ، أنامل رطبة تتلمسه وتربت مقتربة من العين، فأحسست بلذة طرية سرعان ما تحولت إلى وجع أشبه بأكلان فى الجلد ، وفحيح من نار قذفت به العين كقذائف بركان بدأت ثورته ، ولكى أخمد هذا اللهب الذى هب ليحرق صدرى، قامت أظافرى بالهرش الخفيف، حتى تفجرت من حولها عدة أعين متنوعة الأشكال والألوان ، ولم تهدأ أظافرى، حتى مزقت ما يعلو صدرى من ملابس وأغطية وتفجرت دماء، من كل عين سالت ولونت الصدر والبطن ، وحينما أردت تجفيف عرقى النازف لطخت وجهى بالدماء وسرعان ما شرعت أسد كل الأعين بأصابعى، أثنتان بل ثلاث بل .... عشر، هم أكثر بكثير ، لم أقدر على حصرهم ، صدرى يتمزق يخيل لى أننى أرى ما تحت الجلد ، سائل أصفر لامع تذوب فى سيلانه صور عديدة لأناس بأنوف طويلة متضخمة، تتقعر وجوههم وتتلوى وتسيل مع تساقط هذا السائل فى بؤرة العين، فيلهب الصدر ، لو تأوهت ربما يسمعنى أحد، ويسد عنى كل هذا الآلم . ربما لم أغلق باب الغرفة جيدا ، فتساقطت الشياطين لتملأ صدرى بأعين جديدة، أو ربما عندما أشارت هناء إلى صدرى كانت هذه هى الفاتحة ، أو ربما قبل صعودى يوميا إلى الطابق الثالث، وهى تنظر بعين يمامة من أعلى، وأنا أعبر الشارع المزدحم وألتفت إلى عجلات السيارات المسرعة، وهى تمد أصابعها لتشير إلىٌ من بعيد، وتضحك من خلف زجاج النافذة، وكأنها ترى كل الأعين التى أحتلت صدرى فى ليلة أمس.
غريبة هذه البنت. لم أعد أقدر على عبور الشارع ، هى ترى ما أصابنى ولابد أنها الآن تحصى وتعد الأعين التى ظهرت ، إنها تطل برأسها ، لابد وأنها كانت متكئة على كرسيها الأخضر ذى الأجناب العالية، والتى تندس فيه بجسدها الخفيف كطائر سماوى لتخط إسكتشات لوجوه عابثة ، وحامل لوحات بنى الشكل ، وعلب ألوان وأوراق مبعثرة كانت تجرب رسم أجساد متلاحمة عليها ، سوف أتسلل درجات السلم، وأنسل بالداخل دون أن ترانى ، وأظل بقية الوقت واقفا وصدرى لباب الغرفة، وظهرى لها، كى لا ترى ما حدث فى الليل ، وإذا تحدثت معى سوف أحاورها دون أن ألتفت ناحيتها ، وإذا حاولت أن ترى وجهى، سوف أظل أدور فى جنبات الغرفة ، أرفع لوحة على الحائط ، أنقل منضدة ، أفتح كتابا. سوف أعطى لها ظهرى حتى لو أرادت أن ترينى بعض خطوطها متحججة لكى تكشف ما أصابنى ، ألم تعلم أنها السبب ؟ لابد وأنها لا تدرك ذلك ، لا أظن ، هى من تترك لوحاتها قبل أن تحتضر مركونة على الجدار بألوانها الخضراء القاتمة، وعيون شخوصها الغائرة ، لا أعتقد أن هناك علاقة ما بين شخوص هناء بعيونهم الغائرة وعيون السمك الذى ملأ صدرى وأتخوف أن يحتل بقية جسدى ، أم هى عينيها النائمة والتى تتفحص بتأن بالغ وجوه من حولها ، هى دائما ما تجعل قرص الشمس ينفذ عبر زجاج النافذة، لتضع ألوانها، بعناية وتعدل أيضا من وضع شخوصها ، فبرموشها الطويلة السمراء، وفم منمق كتمرة ناضجة، ووجه طفولى مستدير، تتقدم وتتأخر برجليها الرشيقتين كلاعبة باليه محترفة، لتضبط الوجه مع أشعة الشمس الساقطة، ولابد أنها أيضا ظلت تتراقص كفراشة مترددة للخلف وللأمام، وتشير بسرعة خاطفة على بقية الأعين التى إنتشرت على جسدك . ثمة علاقة على ما أظن بين ما تخطه هناء مع أشعة الشمس وأماكن أعين السمك الذى ظهر ليلة أمس ، أماكن رأتها من قبل عندما جنحت الشمس ناحية الغرب ، ساعتها ظل قلبى يدق ، وهى ترسم الوجه مائلا على الصدر ، عدة رسومات متغيرة مع حركة قرص الشمس الذى كان ينحو باتجاه الغرب ، ورأسى يتدلى منكسراً ناحية اليسار ليستحضر البكاء ، وجفاف حلقى الذى ظل يتذكر أن أمى دائما ما تسبنى، وتلوح لى أننى مجرد صانع آلهة ، وكل من يدورون حول رأسك حجاج أوثان، بال عليهم الزمن، وأن هتاف الناس من حولك، ونظراتهم المتفحصة لملامح وجهك، كل صباح وأنت تمرق فى خطوط حادة منكسرة بعدما توصد الأبواب كريح عاصف ، يعلمون أنه فرار من أولاد تحبو دون سراويل ومن أم تشاطرك الفراش وتسد بثديها فم طفل يضع أنامله على صدرك.
أنت الذى ظللت تعدو كل صباح بين الأشجار الواقفة ، وتزج برأسك صخور قابعة فى بطن الترع، وأنت تحفر بأصابع قدميك، وتشب لتصعد بإحداها فوق الجسر. كل هذه الحكايات تشد رأسى شدا عنيفا الآن هربا من وجع صدرى ، والذى ظل مثقوبا كمصفاة للطهى ، ولتشغلك عن تخطى طرق المرور بتأن واتزان ، فنظرة هناء من أعلى وهى تشير والأعين التى احتلت جسدك، ولم يتبق سوى مساحة ضيقة وتمتلئ الفراغات ، أم هى الأحلام ، اللعنة عليها هذه الأحلام ، جعلتنى أرى صدور كل من يعبرون الشارع أمامى مليئة بأعين سمكية ، ورأيت سريان مياه النهر تتصارع فيها أسماك بأعين متوحشة ، تتقافز على شاطئيه ، أو هى لعنة صناعة الآلهة تطاردنى كما قالت أمى ، فساعة أود القفز فوق السهول كشيطان مارق لأتسلل إلى الماضى، لأرى عيونا سمكية لصق قلوب أجدادى ، أية أعين سمكية فى البادية؟ الأسماك تحتويها الأنهار، والنهر يمتد سابحاً من الجنوب متجهاً للشمال كقطار سريع يلاحقنى ، ونافذة غرفتى تطل على سريانه ، وهناء كل صباح تفتح النافذة ، فقط تنظر إليه وتدغدغه بحبات عينيها، فمن السهل أن يحدف النهر بهوائه على صدورنا ، فتنبت الأعين فوق الصدور الساخنة العريضة، والذى يفلقها القلب إلى شطرين، كثيراً ما يحتضنهما أناس مصابون بعدة أمراض.
تنحى جانبا كى ترى قوافل الأقدام على حقيقتها ، وإذا رأيت أعيناً كما خيل لك لا تسب أحداً فهناك من يتحينون الوقت لدق رسوم لوشم على نفس الشكل الذى يطاردك ، فقط يخلو قلبك وستتدافع فرشات الألوان للرسم على صدرك.
أنت أيضا تقرئين الطالع؟
قالت هناء: يعنى .
وابتسامة غامضة وهزة من رأسها النحيل أخلت جو الغرفة من الخمول، هنا عند ارتفاع كلاكسات العربات مستغيثة كى أخلى الطريق، وصافرة جندى المرور وإشارته لى بأن أتعجل العبور، وسباب السائقين الذى يلاحقنى، قررت أن أقفز على درجات السلم كقرد شقى وأدخل الغرفة فى استعراض بعض الحركات الأكروباتية، كى لا ترى ما احتل صدرى، فقط شقلبة من أسفل لأعلى بيديك وقدميك فى الهواء، تكون بالداخل وتردد .. تحياتى
أجمع بقايا أشياء وظهرى لها.
لم ترد هناء .
وعندما التفتت بنظرتها المعهودة ويديها التى تشير، كانت تنساب مياه غزيرة من عينيها تساقطت على صدرها الذى تحتله عين سمكية كبيرة متضخمة .

محمد عكاشة
مصر

* من مجموعة دقات

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى