محمد عكاشة - الورقة.. قصة قصيرة

هي تدرك أنها تتحدي الجاذبية، وتعلم أنها بخفتها من الممكن أن تصل لأي مكان- شرط أن تترك نفسها للهواء، هي تصاحبه وتعقد معه اتفاقات موثقة بعقود لا يحيد عنها أي منهما، هي قالت له: سأبلغك بكل الأسرار، وأنت ستطيرني كيفما أشاء، وعندما اختلفا على طريقة بث الأسرار والأماكن التي تحدد هي الوصول إليها- وقفا دقيقة حدادًا على أرواح الأوراق أخواتها التي فنيت في حريق أو التي ابتلعها البحر، وابتلت قبل أن تبث رسائلها، وتفضح أسرار من كتبوها، هو غالبًا ما ينهرها لأنها أحيانًا تلح عليه كي يهب في وقت يكون فيه ساكنًا وراقدًا لا يبغي الهبوب، محاولًا إقناعها بأن معظم الأمور ليست بيده تمامًا كما تعتقد، ولكنها في الغالب لا تصدقه، فيسوق إليها الحجج بأنه في الخريف ينشط ويتحرك نتيجة دوامات وعواصف هوائية ويوزع هو كل الأوراق كما تريد، وما عليها إلا أن تنتظر هذا الفصل من العام كي يفعل فعلته المــاجنة ويحقق لها ما تبغي، وقد حذرها سابقًا إذا لم تستمع لنصائحه، سيتركها تقع فريسة للأقدام، وهي تجادله بأنها لا تلح عليه إلا إذا عبئت بسطور خطيرة لا بد أن تطير بها بعيدًا قبل أن تقع كوارث، وذلك من جراء ما تحمله تلك السطور من فضائح ووثائق من الوارد أن تقوم معارك بسببها.
قالت له: أنظر، هذه ورقة لولد كاتب فيها أسرارًا عن رحلته إلى الإسكندرية، وعن سهيلة التي هربت معه وسقطت من الدور الثامن في برج بالعمرانية، وضحكت بسخرية وقالت: إنه يقول فيها إنه يتحدى الجذر الذي أراد أن يسحب جسده على شاطئ ميامى، وأنه يشاكسه معلنًا خفته وأنه ضد هذه الجاذبية، وحين عرفت أنه يحاول أن يتسم بصفاتي أنا، الورقة الخفيفة الهشة، تركته يدون أسراره بكل أريحية، حتى تربصت به الأقدار، وانتزعت منه الجاذبية عشيقته سهيلة من أمام المصعد في الأدوار العليا، سحبتها وهو غارق في وضع قوانين جديدة لتحدي هذه القوة المغناطيسية الهائلة، كان يجلس شبه عاريًا على سطح تلك العمارة العالية كي تطيره أنت، وأنت أيها الهواء بلا شك تركته حتى تخشب جسده النحيل، وحين رآك لا تطاوعه، عايرك بأنك لست أمينًا على ما كلفت به، وسبك ساعتها وقال لك: حينما تجدني، أفتح ذراعيَّ لك أيها الهواء، استجب وادفع بي إلى السماء، حتى لو سقطتُ على أغصان شجرة يساقط عليها الثلج، أو اقذف بي على قمة جبل استوائي يقف عليه نسور متوحشة تترصده، وعندما لم تعبأ بكلامه يا حبيبي يا هواء- قالتها بدلال- تحداك أنت أيضا وعبث بشاربه وقال كلمته المعهودة: لا بأس، وزعق فيك بأعلى صوته: إذا كنت لا تبغي أن تطيرّ جسدي هذا، سوف تطير روحي رغم عنك، وستتحدى هي الجاذبية، فأنت تعلم أنك لا تقدرعلي تقييد الروح، والتي توهب دون إرادتك- شرط أن أسمح لها أن تنطلق كيفما أشاء، وحين دغدغته بريحك الرطبة تحت إبطيه وقلت له ماذا تريد أن تذهب روحك، نظر لك باحتقار وأشار إلى بئر المصعد الذي سقطت فيه سهيلة وإلى شاطئ ميامي الذي تحدي فيه الجذر، نظر الهواء للورقة مستنكرا وقال: وليكن، اتركي سطوره حتى يهل الخريف، وجادلها بأنها في بعض الأحيان يجدها مكرمشة ومطبقة، وثقيلة ويتعثر هو في طيرانها، وأحيانًا يجدها بسطور ملونة مليئة بأحبار لا تتحمل سقوط الأمطار، وأحيانًا يجدها غلافًا كرتونيًا لكراسة تلميذ ولا تستحق الطيران، أو قصاصات مليئة بأسرار فارغة لا تستحق عناء القذف بها عاليًا، ونفخ حولها نفخات خفيفة وزعق فيها: لا بد أن تفرقي بين الأوراق بحق، والمهملات التي تزكم الأنوف، صرخت فيه كامرأة ريفية: إنت هتتشرط؟ أيها الهواء أنت لا تدرك قيمة ما يُكتب على صفحاتي، وحين اشتد الجدل أراد الهواء أن يداعبها كعادته، وذلك لرقتها، ولأنها في الغالب تكون على حق، وأنها أدرى بقيمة ما يُكتب على صدرها، وأشار لها وغمز بعينيه ناحية كومة من الأوراق أخواتها مركونة على مكتب لمدير مخابرات، فدفع الشباك من الخارج، ونفخ فيها نفخة قوية طيرتها يمينًا ويسارًا خارج النافذة، فهذه أوراق داخل ملف لطبيب أمراض نساء وتوليد يعلق صور أشعة كل جنين سيولد على يده ويكتب عليها روح صغيرة ستنمو، و تطير لتتحدى الجزر، حتى امتلأت عيادته بوجوه أجنة مغمضة العينين، مربوطة بحبل سرى يكاد يتحرر من هذه الأجساد اللينة الغضة، وصور لهذا الطبيب وهو في حلقات ذكر، وهو يتطوح بجسده يمينًا ويسارًا لتحلق روحه متحدية الجزر، فتجدها إما جالسة على شاطئ بحر، أو تنشد مواويل للإبل حتى تدمع، وأوراق مدونة فيها اتهامات لشيخ يحضر أرواح الموتى ويخاطب الجان، ولساحر يقفز بين العمارات دون أن يقع، وأوراق لبدوي يبحث عن أرواح الفراعنة تحت الأرض، وعن عالم فلك جغرافيا وطبيعة، لكن المفاجأة الكبرى للهواء كانت في ورقة مكتوب فيها كيفية القبض على الولد الذي يتحدى الجزر، ويسب الجاذبية ويحاول أن يكون ورقة خفيفة هشة تطير كيفما تشاء، وعندما قرأ الهواء هذه الأوراق التي طارت، ضحك ضحكة عالية متهما الورقة بالسذاجة والعبط، وقال لها التحدي الحقيقي هو كيفية تصدي أجساد هؤلاء البشر للجزر، وكيفية طيران هذه الأجساد بعيدًا عن هذه القوة الجاذبة والتي تجعلهم يتحركون بحسابات ومساحات محدودة وأن الفارق بينهم وبين الأشجار والجبال الثابتة في مكانها، أنهم يتحركون بجذور لولبية مطاطية خفية وطويلة أسفل أقدامهم ويظنون أنهم أحرار في حركتهم القوية التي لا تنتهي إلا بإنهاء أعمارهم، وللأسف لا يدركون هذه الحقيقة إلا بعدما تسقط أجسادهم على الأرض، حينها تلتف الجذور حولها لتعصرها وتمتصها وتنبت بشرًا غيرهم، إنما كون أرواح تطير وتنطلق إلى حيثما تريد فهذه حيلة هشة تعتمد على الأحلام والهواجس والتمنى، وأنا الهواء ليس لي يد في محاصراتها.
قالت الورقة: أنا أؤمن بكلامك، ولكن هذا الخيال وهذه الأحلام لا تستهن بها، إن الخيال الوثاب جعل الإنسان بالفعل يتحدي الجاذبية للجسد، فتخيل الطيران وطار بالطائرة وصعد للفضاء.
قال لها يتخيل براحته ويطير كيفما يشاء، ولكنه ساقط على الأرض لا محالة، إن الجاذبية تسمح له بالتحليق بمقدار، يحلق ويطير، إما يهبط بإرادته كي يرتاح من عناء الطيران أو يسقط رغمًا عنه ملتصقًا بجذوره، إن الجاذبية تسمح له بالتحليق بمقدار، يحلق ويطير- إما يهبط بإرادته كي يرتاح من عناء الطيران أو يسقط رغمًا عنه ملتصقا بجذوره، وربت الهواء على الورقة وقال: حتى الطيور التي تطير حولك هذه ستسقط هي الأخرى، ورغم خصائصها التي تشبهك، أنتِ الرقيقة الهشة، زمجرة الورقة وقالت: له: تصدق أنت بايخ، أنا الورقة أطير وأسقط من أعلى برج أو قمة جبل، وأهب ثانية دون جرح، أنا أحمل أسرار كل البشر أحافظ عليها، وأبثها كيفما أشاء، قال الهواء بتفاخر ولكن بمساعدتي أنا الذي ينفخ داخل الإنسان وكل الكائنات فأهب لهم الحياة، قالت: يا سلام، إن هذه مهمتك التي خلقت من أجلها، حينها غضب الهواء غضبًا شديدًا وثار ونفخ دفقة ريح هبت في ساعة صيف حارة ملأت الجو بالأتربة والعواصف، فسقطت أسلاك الكهرباء، وطالت ألسنة النيران كل ما طالته من أفرع الأشجار والأثاث وبضائع مكومة وسيارات مركونة، وأوراق مدسوسة في مخازن وأرفف مكدسة، زعق بأعلى صوته: صبرت عليكي كتير، الفناء للمادة هو ديمومة الحياة، وأنتِ أيًا كانت خفتك فأنتِ مادة، وها أنتِ ترين شكلًا من أشكال الفناء، وضرب على صدره في تفاخر، وأشار إلى العالم من حوله- إنما أنا باق حتى نهاية هذه المواد، ولكن ستبقي الروح رغمًا عنا تتحدي المادة- بخفتها ورشاقتها، تتقافز هنا وهناك، لتستمر الحياة مليئة بالصخب في هذا الوقت القائظ المترب، لم تحتمل الورقة هذا الغضب وسقطت أسفل أقدام بشر يتحركون كآلات ميكانيكية تدهس ما تحتها غير عابئة، بتلك الورقة ولا بخصائصها التي تحمل في سطورها كثيرًا من الأسرار.

محمد عكاشة
مصر



* من مجموعة "دقات.."

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى