حنان حلبوني - رمانة.. قصة قصيرة

قريتي الجميلة "رمانة"! تشتهر بزراعة الرمان، وبمهرجان الرمان، وبعيد الرمان، وبملكة جمال الرمان، وبعصير الرمان، وبدبس الرمان.
أسماء المواليد الإناث الأكثر تداولاً في قريتي "جلنار"؛ زهرة الرمان.
اعتدنا أن نكون يداً واحدة في كل شؤوننا، متراصين كحبات الرمان، نعمل معاً ونفرح معاً ونحزن معاً. وفي موسم القطاف يستنفر الجميع، يتوجهون نحو بساتينهم، يقطفون ثمار الرمان وهم يغنون ويهزجون، تصعد الحاجة أم اصطيف أعلى السلم، مرتديةً ثوباً من الكتّان الأبيض المطرز بأزهار الرمان النارية، والموشى الحواف بأوراق الرمان الخضراء، في آخر الموسم؛ يكتمل تشقّق يديها وقدميها، ويكتسب وجهها سُمرةً غير عاديّة.
يمسك أبو اصطيف السلم من الأسفل حرصاً عليها، تقطف ثمار الرمان وهي تغني:
عالهوارة الهوارة
رمانتنا محتارة
مين يقطفها بالأول
صبية ولّا ختيارة
ثم يجيبها وهو يفلتُ يديه عن السلم ويصفق ويدبك:
رمانتنا ما بتحتار
غير الأصلي ما بتختار
زينتنا يا أم اصطيف
دهب معبي كل الدار
ثم نجمع المحاصيل في صناديق ونضع الصناديق في شاحنات، ونرسلها إلى المدينة.
قسمٌ من المحصول يذهب إلى المعصرة، حيث يُصنع منه عصير الرمان الحلو، ودبس الرمان الحامض، ثم يُنقل إلى المدينة.
لا تخلو "رمانة" من الفنانين والشعراء أبداً؛ فعندما يزهر الشجر يجد الرسامون ضالتهم في بساتينها؛ فيرسمون أزهارها، وكذلك حين تثمر الأشجار يلتف حولها الرسامون، يعبثون بألوانهم وريشاتهم فيخلقون لوحاتٍ بديعة، ثم يأتي المصورون الفوتوغرافيون، يلتقطون الصور بين الأشجار والأزهار لفناناتٍ مشهورات، وعرسانٍ مع عروساتهم، وبعدهم يأتي الشعراء؛ وبإيحاءٍ من بساتين الرمان يتدفق الشعر على ألسنتهم.
لكن ما حصل منذ ثلاث سنواتٍ كان أكبر من أي مصيبةٍ أخرى يمكن أن تحصل في قريتي المسكينة؛ ففي ذلك العام كنا قد أرسلنا آخر شاحنةٍ محملةٍ بصناديق الرمان إلى المدينة، وفي طريقنا إلى بيوتنا شاهدنا أعمدة الدخان وألسنة اللهب تتصاعد من البساتين، لقد كانت كارثةً بحق، احترقت البساتين عن بكرة أبيها، واكتست القرية بالسواد، وأُعلن الحداد ثلاثة أيامٍ حزناً على الأشجار المحروقة.
خسرنا في ذلك الحادث أغلى ما نملك، فلا يمكن لأحدٍ أن يتصور مدى الحب والاحترام الذي نكنّه للرمان، إنه حادثٌ رهيب، خسرنا فيه آخر ثمرة رمانٍ في هذا الموسم، ولن نزرع الرمان بعد اليوم بعد أن خسرنا آخر بذرة. وهكذا فقدت "رمانة" وأهلها أيّ أملٍ في الحصول على رمانةٍ واحدة.
قضت "رمانة" شتاءً حزيناً كئيباً لم يمر له مثيلٌ من قبل، وقُطعت أغصان الأشجار للتدفئة، وفقدنا بذلك مصدر رزقنا الوحيد.
كنا نزور بساتين الرمان ونقف على أطلالها، وفي ذلك العام ظهر في قريتنا كثيرٌ من الشعراء والأدباء؛ ونُظمت الدواوين ونُثرت القصص والروايات، وكلما قرأ الناس ما سُمّيَ حينئذٍ بالرمانيات، تأثروا وبكوا، ومنهم من لم يتمكن من إكمال القراءة لشدة الألم المزروع بين طيات ذلك الأدب.
في بيتنا، ذات مساء، بعد عودتي مع عائلتي من الأطلال، وبعد أن قرأنا حصتنا اليومية من الرمانيات، أخذنا نستذكر الرمان؛ شكله المدور، لون قشره المتدرج ما بين الأخضر والوردي، مروراً بالأصفر والبرتقالي، طعمه المتغير من عامٍ إلى عام؛ الحلو والحامض واللفان، شكل حباته وبذوره وتقوقعها داخل الثمار كالأجنة التي تنتظر الولادة. كنا نتكلم ونبكي، ويعزي بعضنا بعضاً، وهذا كان حال كل أهل القرية في كل ليلة، إلا أننا في تلك الليلة وزيادةً على ذلك أخرجنا ألبوم الصور من الخزانة، وكدنا نموت من الحزن؛ فكلما مرّت أمام أعيننا صورةٌ لشجرة أو ثمرة أو حبة، نبكي بكاءً مريراً فقداً لتلك الأيام، نام الجميع تلك الليلة ووسائدهم مبللة، وأرواحهم هائمة، إلا أنا، بقيت مستيقظةً، أشعر بأمورٍ غريبة من قبيل رؤية أشباحٍ على شكل رمان، مع صداعٍ وألمٍ شديدٍ في الأطراف، ثم تحوّل الألم إلى خَدَر، وشيئاً فشيئاً فقدتُ أيَّ إحساس، ويبدو أنني فقدتُ الوعيَ أيضاً.
في صباح اليوم التالي استيقظ إخوتي وأخذوا يبحثون عني في كل مكان دون أن يجدوا لي أيّ أثر، بحثوا في كل زاويةٍ من زوايا البيت، وفي الحديقة، ولم يجدوني، إلى أن رفعوا غطاء سريري ووجدوا ثمرة رمانٍ كبيرةً حمراء مكتنزة، بكوا كثيراً وأحضروا سكيناً وقسموني إلى نصفين، تبعثرت الحبات وملأت أرجاء الغرفة، أخذوا يلمونها ويقذفونها في أفواههم، ثم غرف كلٌ منهم غرفةً منها ووضعها في فمه، ثم جاءت أمي وبحثت عني فلم تجدني، وحين سألت إخوتي أخبروها بما حصل لي، نظرت إلى ما بقي من الرمانة وأخذت تبكي، ثم غرفت غرفةً كبيرةً وأكلتها ومسحت دموعها، ثم جاء أبي وسأل إخوتي وأمي عني، فأخبروه بما حصل لي، فبكى كثيراً ثم غَرفَ غرفةً كبيرةً وتناولها بلقمةٍ واحدة.
لم يبقَ من ثمرة الرمان سوى حبةٍ واحدة، تلك الحبة هي قلبي.
شمّ أهل القرية رائحة الرمان واجتمعوا فوراً في بيتنا، وحين علموا بما حصل لي بكوا كثيراً، والتفوا حول الحبة المتبقية، حملوها إلى الأطلال، ودفنوها هناك.
في العام التالي نبتت شجرةٌ جميلة؛ أغصانها ملتفة، أوراقها خضراء كالزمرد، وحين تضربها أشعة الشمس تلمع كالذهب، بدأت أزهار الرمان بالبزوغ، ثم انتفخت بطونها لتحمل في أحشائها أجنةً متراصةً تنتظر الولادة، وحين اكتملت الثمار وقُطفت، أُقيم مهرجان الرمان، واجتمع أهل "رمانة" وأهل القرى المجاورة لها، رقصوا وغنوا واختاروا ملكة جمال الرمان، وخلال عامين عادت "رمانة" إلى سابق عهدها؛ قريةً جميلة تشتهر بزراعة الرمان، وبمهرجان الرمان، وبعيد الرمان، وبملكة جمال الرمان، وبعصير الرمان، وبدبس الرمان، وأثناء ذلك كان قلبي تحت التراب يرقص طرباً.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى