حنان حلبوني - خطٌّ أحمر.. قصة قصيرة

رأفت وشوكت؛ تلميذان في الصفوف الابتدائية، يجلسان متلاصقين في نفس المقعد. كلما تسللت يد شوكت إلى حقيبة رأفت وأخذت منها سندويشة الزعتر، يبكي رأفت وهو صاحب جثةٍ ضخمة ورأسٍ كبير، فيبدو منظره مضحكاً أمام شوكت النحيل صاحب الرأس الصغير والقامة القصيرة، يضحك جميع الطلاب ويتابع رأفت البكاء منكساً رأسه، واضعاً إياه بين كفيه الضخمتين، يعود إلى البيت وقد اختلطت دموعه بالهباب الناتج عن المداخن والعوادم، فترتسم على وجهه أنهارٌ باللونين الأسود والبني وتدرجاتهما، يدخل إلى البيت ويتجه فوراً نحو المطبخ، يمسك جلباب أمه المنشغلة بإعداد الطعام، يشدها وهو يبكي ويشتكي من شوكت الذي سرق له طعامه وتركه جائعاً كما في كل يوم، تنهره الأم وتزفر بضجر؛ " كل يوم تعيد نفس القصة، اذهب واغسل وجهك واقتلع شوكك بيديك، ألا تراني مشغولة في إعداد الطعام؟ اخرج من المطبخ ودعني أتابع عملي، هيا اذهب إلى أبيك"
يذهب رأفت إلى أبيه الذي يعمل نجار بيتون في بناءٍ قيد الإنشاء في الحيّ المجاور، يناديه وهو يرفع رأسه إلى الأعلى وقد ارتقى الأب درجات السلم العشرة، وانهمك في طرق المسامير، فيصرخ الأب بعد أن يبصق المسمار من فمه" ما الذي أتى بك إلى هنا يا بن الكلب؟ ماذا تريد؟"
يجيبه رأفت وهو يلتقط نفسه بصعوبة من كثرة البكاء: أبي، شوكت سرق طعامي وتركني جائعاً.
الأب: وما الجديد في ذلك؟ مثل كل يوم، أنا أعمل طوال النهار في هذه الأشغال الشاقة من أجل لقمة خبزكم، وأنتَ تشتكي وتبكي كالصغارمن أجل أمورٍ تافهة، اذهب من وجهي قبل أن أنزل إليك وأحطم رأسك الكبير الفارغ، هيا اغرب عن وجهي بسرعة.
يركض رأفت بسرعة ويعود إلى البيت، يفرغ جام غضبه بأخيه الصغير؛ يركله بقدمه ويتناول غداءه وينام وهو يتنهّد.
مرّت الأيام ورأفت على هذه الحال، إلى أن ترك المدرسة وابتعد تماماً عن شوكت، عمل في الأعمال الحرّة، وأصبح تاجراً مرموقاً، اشترى أرضاً وبنى فيها منزلاً أحاطه بحديقةٍ وبركة سباحة، تزوج من فتاةٍ جميلة واستقرّ في منزله مع زوجته الجميلة، وشاءت الأقدار أن يشتري شوكت أرضاً ملاصقةً لأرضه، ويشرع في بناء منزلٍ فوقها.
ارتدى رأفت ثيابه وخرج إلى عمله، مرّ بالحديقة، ألقى نظرته اليومية على الشجيرات، بركة السباحة، مضخة الماء التي اختفت من مكانها، كاد الرجل يجنّ، ثمة أحدٌ سرق المضخة، حضر شوكت في خياله فوراً، صعد إلى سطح منزله وألقى نظرةً باتجاه جاره الجديد، فوجد العمال يقومون بتركيب المضخة في أرضه، صرخ من فوره وحذرهم وكرّر تحذيره؛ مضخة الماء خطٌّ أحمر، ألا تفهمون؟ خطٌّ أحمر. ثم خبط بيده الجدار حتى أُدميَت، وخرج إلى عمله غاضباً.
بعد مرور عدة أيام أيقظته زوجته بفزع؛ قم يا رأفت، الخادمة اختفت.
نهض رأفت بجثته التي تزداد ضخامةً يوماً بعد آخر، صعد فوراً إلى السطح، ألقى نظرةً باتجاه جاره، فوجد الخادمة تعمل في حديقته، زمجر وصرخ صرخةً مدوّية، نادى شوكت وألقى عليه خطبةً عصماء، وحذّره كثيراً وكرّر تحذيره مرّاتٍ عديدة؛ الخادمة خطٌّ أحمر، ألا تفهم؟ الخادمة خطٌّ أحمر.
وخبط رأسه بالجدار خبطةً قويةً، فأمسكته زوجته وأسعفته بسرعة إلى أقرب مشفى حيث أخاطوا له جرحه عدّة غُرز.
مرّت أيامٌ وشفي جرح رأفت، استيقظ صباحاً فلم يجد زوجته في السرير، بحث عنها في البيت وفي الحديقة فلم يجدها، صعد فوراً إلى السطح ونظر باتجاه منزل شوكت، فوجده يتمشى في الحديقة مع زوجته، عند ذلك طار عقله من رأسه وصرخ صرخةً مدوّية؛ أنا لم أعد أحتمل، ما الذي تفعله؟ زوجتي خطٌّ أحمر. ألا تفهم؟ زوجتي خطٌّ أحمر. ثم رمى بنفسه من السطح، حمله الجيران ونقلوه إلى المشفى حيث أظهرت الصور الشعاعية كسوراً عديدةً في أطرافه، تحتاج إلى البقاء في المشفى عدة أيام.
خرج رأفت من المشفى وعاد إلى منزله على كرسيٍّ متحرك، أخرج مفتاحه من جيبه ليفتح الباب، لكن المفتاح لم يعمل، أحدهم احتلّ المنزل، بقي رأفت في الطريق على باب منزله، الدم يغلي في عروقه، لا يدري ماذا يفعل، طرق الباب بشدة، وأخذ يطرق ويطرق ويصرخ ويرعد ويزبد ويهدّد ويحذّر، إلى أن فُتح الباب وظهر شوكت بجثته الضئيلة، على وجهه ابتسامةٌ صفراء، فكرّر رأفت تهديداته بوجهه؛ نظر مباشرةً في عينيه؛ منزلي خطٌّ أحمر، ألا تفهم؟ منزلي خطٌّ أحمر، هل فهمت أم أكرّر؟
أجابه شوكت ببرود: لا تكرّر، فهمت.
وأمسك بالكرسيّ المتحرك وقلبه هو وراكبه رأساً على عقب، ثم أغلق البااب ودخل، أكمل رأفت تحذيراته من تحت الكرسي؛ سوف تندم يا شوكت، منزلي خطٌّ أحمر، خطٌّ أ ح م ر.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى