محمد عكاشة - قصة دقات

قبل أن تولد وأنت مجرد نطفة صغيرة تتشكل على هيئة إنسان بثت فيك الروح، بالضبط كنت كبالونة فارغة مكرمشة نفخ فيك، فانتفخت وعُبئت بأعداد كثيرة من الدقات حين تمايلت متأرجحًا بالحبل السري، كنت حينها لا تعلم أنك ستملأ كساعة منبه بزمبلك، يطلق رناته حتى يفرغ شحنته، أو إذا أسكنته أيد غاشمة، كنت ساعتها لا تدرك أنك ستتحول إلى مجرد دمية ببطاريات شحن، ستفرغ طاقتها بعدما تمرح وتلهو أو يحطمها أحد، حين انتفض قلبك مع أول دقة بدأ العد التنازلي لهذه الدقات، فمحسوبة لك ملايين الدقات، محسوبة بعناية قبل أن تشكل على هذه الهيئة، بسحنتك الرقيقة، وجسدك البدين والذي ترهلت أفخاذه وأجنابه، واندست الرقبة في الصدر، وأصبحت تتحرك كوابور زلط يدك الأرض أسفل منه، انتفخت كفيل يأكل أوراق الشجر متناسيًا أنك لا تملك سوى قلب صغير مشحون بعدد دقات معينة، فهل ستحرك تلك الدقات كل هذا الجسد المحشور في غرفة رطبة أسفل سلم بيت قديم، تسميها أنت- بخفة دم- شقة؟ هي في الحقيقة طرقة قصيرة ومسقط نور، لا ترى منه أي نور، وحمام ترتفع أرضيته نحو متر عن بلاط الطرقة، ولأنه في الحقيقة ليس حمامًا بالمعنى المتعارف عليه، بل هو عبارة عن مبولة وباب ضيق بالكاد تنفذ منه بجانب جسدك، ولأنك يائس دائمًا- أنصحك ألا تقف أمام تلك المرآة الملتصقة بجوار الكنبة البلدي التي حولتها لسرير يحتوي شخيرك والذي يغير من طريقة عزف الدقات، أعلم أنك تخلع بلبوصًا لترى إنسانك وتطمئن عليه، فأنت لا تقدر على رؤيته دون مرآة فبطنك انتفخت حتى حجبت عنك رؤيته تماماً، حاول أن تشغل بالك بالحاسوب المركون بجوار الباب، وحاول ألا تنظر إلى الكوالين المركونة بجواره، وحاول ألا تتذكر صاحب المطعم الذي تعمل به، وانس أخاك عصام الذي يسطو عليك دائما، وتضطر آسفًا أن تغير قلب كالون الغرفة وتضعه بجوار إخوته من الكوالين السابقة، صدقني إذا حاولت أن تتأمل كل ما حولك ستفقد عدد دقات كثيرة، إما ستفر الدقات بسرعة كعداد النور، وتكثر من عمرك، أو ستبطئ منها، ومن الممكن أن تتوقف تمامًا.

تفحصَني بشغف، وقال: مرة أردت أن أتشقلب على كفيِّ يديَّ وساقاي مركونتان على الحائط، ظللت مصلوبًا هكذا عدة دقائق، لحظتها أحسست أن الدقات تتدافع بسرعة جعلت القلب ينتفض ويتخبط، وأوردتي كانت ككرباج يضرب محيط رأسي بقوة،

ومرة نمت على بطني لأغير وضع رقدتي ربما يرتاح جسدي، لحظتها أحسست أن الدقات تتقافز لتخرج من حلقى، ومرة ركضت بأقصى سرعة تحديًا لجسدي الثقيل، فاهتزت الدقات وكادت أن تنفذ من صدري، نظرت له وقلت: أعلم أنك لا ترضى عن نصائحي، وإذا كنت لا تؤمن بكلامي هذاـ فما عليك إلا أن تكون واقعيًا وتوزع عددًا من الدقات على كل هذه الأشياء التي تؤرقك، فمثلا أترك لعصام والكوالين المخلوعة مائة دقة، واترك للحمام مائة دقة، وأترك لصاحب المطعم مائة دقة، واترك لجسدك وإنسانك ومرآتك وإمرأة تحبها، ثلاثة آلاف دقة.. مالك؟ لمَ تنظر لي ببلاهة هكذا؟ الدقات هذه أمانة في عنقك، كن واقعيًا كي تريح نفسك، شريطة ألا تخون هذا العهد، ألا تترك الدقات تفعل كيفما تشاء، حاول أن تسيطر عليها كي تدق دقاتها المعتادة في هدوء، ولا تترك دقة تدفع بدقة أخرى- إن كل دقة هي في الأصل حياة كاملة، ومن الممكن أن تلد ملايين الدقات، فحاول أن تصل لهذا النجاح، أن تجعل دقة واحدة تعادل عمرًا كاملًا، يسألني: كيف؟ سأقول لك مثلًا، عن عصام أخيك الذي هج في الطرقات ويكلم أُناسًا لا تراهم رغم أنك قبلت قدميه كي يعيش معك ويعمل، بل يسرق محتوياتك ويجري ويبلبع الترامادول ويدخن البانجو، ويكلم الفراغ كمجنون، لا تهتم بما يفعل حتى ولو انهال عليك الجيران وسبوا أباك الذي باع كل ما يملك على قعدات المزاج، تعرف؟ اترك لكل هذا دقة واحدة، أما صاحب المطعم الملتحي والذي يراك زنديقًا بلا شك، رغم جمعه لكل حبات الطماطم العفنة ويدخل معك في جدال عن الحلال والحرام، ويراوغك في دفع ما عليه من نقود، حاول أن توزع هذه الدقات على كل حدث، واجعل نفسك خفيفة هشة تطيرها الريح كورقة تائهة لا تعلم إلى أين تذهب، وذلك فداءً وحفاظًا على هذه الدقات.

محمد عكاشة
مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى