فاروق خورشيد - التبع حسان

تحفل السير الشعبية، عربية وأجنبية؛ بالموقف النبيل الذي ينتخي فيه البطل لإنقاذ الأميرة الأسيرة.. فيتقدم متحديا الأهوال الأسطورية والمخاطر الهائلة حتى ينتصر على الشر ويستخلص من براثنه تلك الأميرة المغلوبة على أمرها..

في سيرة (المهلهل- الزير سالم) يبدو الموقف نفسه أكثر درامية وأقرب كثيرا إلى العقل البشري والفعل الإنساني..

في السير الشعبية- كما في الآداب العالمية الدرامية الخالدة- تستوقفنا شخصيات دالة ومتميزة، ومن أهم الشخصيات صاحبة الدلالة الدرامية في أدبنا العربي، شخصية التبع حسان اليماني التي تترك ظلالها البارزة والمميزة في سيرة (الزير سالم أبو ليلى المهلهل بن ربيعة)، وهي سيرة شعبية متقدمة جدا على كثير من السير الشعبية العربية المعروفة والمتداولة، ولكنه يوجد كشخصية أساسية في أيام العرب التي تتحدث عن حروب البسوس. التي دارت بين بكر وربيعة.. فهو بطل تحتفل به كتب الأخبار التاريخية العربية القديمة من ناحية، وهو بطل توظفه العبقرية الشعبية في سيرة الزير سالم الشعبية من ناحية أخرى. ونحن لن نرتبط بالنص التاريخي الوارد في الأغاني وفي كتاب مهم يسمى (كتاب بكر وتغلب بن وائل بن قاسط) وفيه ما كان بين كليب وجساس، وما جرى بينهما، فهذه الارتباطات التاريخية تهتم بالنصوص الشعرية التي جاءت على لسان فارس أو آخر من أبطال هذه الحروب التي استمرت زمنا في التاريخ العربي القديم، ثم تركت آثارها الغريبة في العصور الإسلامية التالية، وعلى الأخص في شعر النقائض بين جرير والفرزدق والأخطل التي كونت جزءا مهما من تاريخ الشعر العربي، اهتم به الدارسون والنقاد العرب، وما زالوا يهتمون بدراسته وتدريسه حتى اليوم، وهم لا يحسون بما يعني من ارتباط قديم بالدعوة الجاهلية، التي أثارتها حروب بكر وتغلب، وملأت الشعر العربي القديم بالكثير من الأحقاد والتعاسات التي جاء الإسلام ليقضي عليها، ويخرجها من التاريخ الفني والوجداني للعرب. ولكنها آخر الأمر- وفي العصر الأموي بالذات- أطلت بوجهها القبيح تثير الخلاف بين بقايا تغلب وربيعة من قبائل العرب القديمة التي لم تنس أحقادها وهي تنتقل من البادية إلى دمشق، فتلقي بثقلها الفني والأدبي على العصر الأموي كله فيما سمي بأدب النقائض، ولعله لا يزال يدرس في بعض كليات الآداب إلى الآن.

بداية ظالمة

وتظل الشخصية المحورية في هذا الحدث الروائي الذي ترك بصماته على الأدب الشعري العربي وحتى العصر الأموي، هي شخصية الحسان بن ثابت اليمني، الذي جاء من جنوب الجزيرة ليهزم الشماليين، ويغزو أرض تهامة، ويقتل أهلها الذين حاربوه وقاوموا غزوه، ثم تصل قسوته الدرامية إلى ذروتها حين تحكي سيرة الزير سالم كيف شنق ملك الشام، الربيعة والد كليب، وكليب هو البطل الشعبي الذي يلعب دورا مهما في هذا الجزء من السيرة الشعبية في محاولته للانتقام من الحسان اليماني.

في السيرة الشعبية يطلب الحسان الجليلة زوجة له، الجليلة بنت مرة التي اشتهر ذكرها بين نساء العرب، وهي في الوقت نفسه ابنة مرة، الذي غدا كبيرا لوائل بعد أن شنق حسان الربيعة ملك الشام، إنه يريد أن يؤكد إذلاله للمهزومين، ويريد أن يؤكد نصره الأكيد عليهم؟ فهو قد شنق مليكهم، وهو قد تزوج بأروع نسائهم قهرا.

ولا يجد بنو مرة وسيلة لإسكات هذا الوحش الذي ازدهاه الانتصار إلا بأن يسلموا إليه الجليلة رغم أنها خطيبة كليب. وهو عمل يحمل من الإذلال والضعة يحمل، على عرب الشام أن يقبلوه في رضا،حتى يتحقق لهم السلام مع الملك اليمني المنتصر، هو إذلال يكمل إذلال المهزوم المسلم بلا حرب للفارس المنتصر وتسلم القبيلة الجليلة للملك حسان التبعي لوقف المذابح التي أقامها لرجالها وفرسانها، وثمنا لوقف السلب والنهب لأراضيها وضياعها، ومالها من إبل وأبقار وأغنام.

الموروث الشعبي.. عربيا وأجنبيا

يلفتنا هذا الموقف إلى ما تكرر في الموروث الشعبي العربي، بل والموروث الشعبي العالمي، عن الأميرة التي تقدم إلى الوحش الذي يهدد المدينة قربانا، حتى لا يحطم المدينة، ويقضي على كل ما فيها من حياة ووجود، هذه التضحية توجد في سيف بن ذي يزن، كما توجد في ألف ليلة وليلة، وتوجد في الكثير من قصص البكاريسك الأوربي، فالفارس يذهب لإنقاذ الأميرة المأسورة، ويهاجم من أجلها الوحش أو التنين، وفي سيف بن ذي يزن يهاجم البطل الجني، وفي ألف ليلة وليلة يحارب البطل الغول والوحش المخيف القابع في أعالي الجبال التي تحيط بالمدينة. وينعكس هذا على عصر كتاب روايات الفروسية، ففي حكايات الملك آرثر، يذهب سير لانسلوت لتحرير الدوقة المأسورة، ليحررها من آسرها الفارس القاسي المتبربر. وفي روبن هود، ينقذ روبن هود، النبيلة النورماندية التي تساق حتما إلى زواج غير متكافئ تباركه الكنيسة وتحميه بابواتها، فينقذها، ويتزوجها هو نفسه. وسنجد انعكاسا واضحا لهذا عند سرفانتس في دون كيشوت الذي يخوض معارك وهمية غريبة لإنقاذ الأميرة المأسورة في قلعة وهمية، تتحول في يد سرفانتس القدير إلى حانة، كما تتحول الأميرة إلى ساقية في هذه الحانة، سخرية روائية رائعة منه بكل مفاهيم العصر عن الفروسية والبطولة، والأميرة المأسورة التي يسعى البطل لإنقاذها من للشرير أو الوحش أو الجني.

موكب الذل.. والثأر

حسان التبعي، ملك اليمن، هو هذا الوحش في سيرة الزير سالم.. فهو الذي يريد الجليلة عروسا طائعة مختارة، تزف إليه، ومعها طاعة شعبها، وخضوع رجالها، وإذلال وجود المهزومين من أهل الشمال جميعا وصولا إلى الشام ودمشق، عاصمة مليكهم السابق، الربيعة بن وائل، ويتصدى له في السيرة الشعبية الفارس كليب. وكليب هنا هو الفارس الذي رأيناه في الآداب الأوربية في صورة الفارس المنقذ، ورأيناه عند سرفانتس الساخر في صورة دون كيشوت.

وبادئ ذي بدء تسلم وائل بحكم الحسان وترسل إليه الجليلة عروسا مواتية، حتى تحفظ الأمن والسلام بينه وبينها. ولكن وائل تخدعه خدعة متفقا عليها بين كل بطون وائل وربيعة، إذ ترسل إليه الجليلة وفي معيتها ابن عمها كليب بن ربيعه كمهرج خاص بها، كما يذهب معه فرسان ربيعه وتغلب داخل الصناديق التي تمثل شوار العروس. وسنجد هنا صورة مستوحاة من قصة حصان طروادة، الذي أدخل إلى المدينة وكله فرسان مسلحون، كما سنجد فيها أيضا إحالة إلى قصة علي بابا والأربعين حرامي في ألف ليلة وليلة. في قصة حصان طروادة يتمكن الفرسان المختفون داخل الحصان من احتلال المدينة، ولكن في حكاية على بابا تتمكن مرجانة من كشف اللصوص المختبئين في الزلع فتقضي عليهم، وتنصر صاحبها علي بابا. وتوظف سيرة الزير سالم الخدعة نفسها إذ سنجد أن كليبًا وفرسانه يخدعون الحسان وحرسه، ويدخلون القصر بالفعل ودون أن يكشفهم أحد- وهنا يبرز الجانب الخلقي في العمل الشعبي- فكليب وجليلة يدافعان عن كرامة الإنسان العربي، وعرض المرأة العربية، ولهذا ينجحان في الدخول إلى صلب قصر الملك المعتدي التبع حسان. فلا هم غزاة، ولا هم لصوص فالتوظيف يجعل الخدعة موظفة توظيفا مغايرا لتوظيفها السابق، فهي قصة معكوسة من حكاية حصان طروادة من ناحية، وهي قصة معكوسة من حكاية علي بابا والأربعين حرامي من ناحية أخرى، ففي سيرة الزير سالم ينجح كليب في التسلل بوصفه مهرج الجليلة الخاص إلى مخدع العرس مع الحسان والجليلة، وهذا يشي لنا بعمل تراجيدي مجهض لسبب أو لآخر، ليس هذا مجال مناقشته.. ولكن حسان التبعي، يسلم قياده للعروس الوافدة، أو للأميرة الأسيرة، في ليلة عرسهما فهو الوحيد الذي أرغم الأميرة على الدخول إلى قصره. ولكنه يتحول إلى حمل بعد أن يرى حسنها وجمالها، وهي على عرشه بلى جواره، فيفقد كل حذره، وينسى كل ما فعله بها وبأهلها.. ويتصور أنها- الأميرة المأسورة- قد اقتنعت به، وبسطوته وجاهه، بل ربما تصور أنها أسرت برجولته، فنسيت هويتها، وانتماءها، وغدت أسيرة أبهة الملك، وملامح الرجولة والفروسية والانتصار، المتمثلة كلها فيه. وهذه في السير الشعبية (الزير سالم) هي سقطة البطل، أو هي المدخل إلى نهايته فتخدعه الجليلة حين توهمه أنها فتنت به، وأنها لا تنتظر إلا أن تخلو إليه، ولكن تحفظها الوحيد هو أن يكون أنيسهما هو مهرجها الخاص الذي صحب شوارها من بيتها إلى قصر التبع حسان، ويوافق التبع حسان. فهو نفسه قد استهواه هذا المهرج الذي يتقن تقليد الأصوات، وحكاية النوادر والنكات التي تستثير الضحكات، ويعلق على كل شيء بما هو مناسب وملائم، وموح بالجنس والمتعة.

الخدعة النبيلة

وهكذا يتمكن كليب وجليلة من الانفراد بالملك حسان التبعي في غرفته الخاصة، كما يتمكنان من سلبه كل حذره إذ يطرد كل من يمكن أن يسمع ما يدور في غرفته من أصوات، من حراس، ورقباء. ثم يفقدانه الوعي افتتانا بحسن الجليلة، وسحر المهرج المزعوم الذي يتفوق على كل ما يعرفه الحسان من حكواتية، أو مهرجين، ويدخل عنصر السكر ليكون الثالوث الغريب، المرأة، والكلمة، والخمر، فيفقد الملك حسان التبعي حذره، ثم يفقد أيضا وعيه، ويسلم نفسه للفاتنة- أعني للأميرة المأسورة- التي خبأها كل كتاب العصور الوسطى في القلاع والحصون، وخبأتها سيرة سيف بن ذي يزن في مخابئ مخوفة يحرسها الجن، وخبأتها ألف ليلة وليلة في كهوف مجهولة تتسلط عليها قوى الجن، أو قوى السحر معا.. حسان التبعي وحده وسط كل هذه الرموز للشر والجن والملك المخيف، والحيوان المسيطر على المدينة الذي يطلب القربان، وهو وحده الذي خضع للأميرة المأسورة، ليجعلها آسرته، ومالكة أمره، هي ومهرجها.. ومن هنا يدخل القاص الشعبي ليحقق بالحيلة والخداع ما حققه كتاب سيرة سيف بن ذي يزن بالسوط المسحور الذي يقطع جسد الجان، فيقتل المارد من أول ضربة، أو الذي يحققه سيف سير لانسلوت المسحور الذي يضرب الجن فيقسمه بلى نصفين كما يضرب البشر أيضا فيقسمهم إلى نصفين. الفكرة الأساسية هي التغلب على الوهم الذي يمثله الغول الذي يأسر الأميرة.. سواء كان هذا الغول جنيا أم وحشا، أم فارسا شريرا كما هو هنا في سيرة الزير سالم، هذا الوحش الخرافي الذي ملأ فولكلور الشعوب، وحكاياتها الشعبية القديمة. وهنا لا يهزمه سيف مطلسم، أو سوط آصف برخيا وزير الملك سليمان الذي ملكه سيف بن ذي يزن. إن الذي يهزمه هنا هو ذكاء امرأة وجرأة رجل، وهذه ميزة السيرة الشعبية العربية، فهي إلى جوار احتفائها بالسحر، ودنيا الجن، تخضع لمتطلبات العقل، ولحدود الممكن في القدرة البشرية التي تقوم بدور البطولة.. تعزل الجليلة إذن، الملك الحسان التبعي عن جنوده ورجاله، وتسلمه الغواية إلى سحر جليلة. وتسلمه الخمر إلى حالة من فقدان القدرة على الفعل.. وهنا يبرز كليب المنتقم لأبيه ربيعة الذي شنقه حسان من قبل. ويخرج كليب إلى باحة القصر، ليخرج الرجال الذين اختبأوا في شوار العروس شاهرين السيوف ويملكون القصر، ويقضون على الحرس.. ويصبح حسان التبعي وحيدا، وأسيرا في يد عدوه وطالب الثأر منه، كما يصبح أسيرا في يد المرأة التي أراد أن يمتهنها، ويزري بوجودها حين أرغم أهلها أن يسوقوها إليه فدية لكيانهم وأمنهم، ويعرف الحسان أنه حوصر وأنه وقع في يد أعدائه، وأنه سيموت لا محالة.. وتتحول الشخصية القاسية التي شنقت ربيعة، والتي كانت قاسية كل القسوة على الفرسان المهزومين من قيس وربيعة إلى شخصية ضعيفة مستسلمة منهارة أمام فكرة الموت، وتبدأ صفحة من أجمل الصفحات الدرامية في السيرة الشعبية- الزير سالم- إذ تصور السيرة الملك حسان وهو يواجه آثامه كلها، وأمامه خطر الموت الماثل الأكيد، ولم ترك له السيرة أن يلملم كرامته كملك، أو كفارس منتصر، أو كعدو كريم، فهو لم يكن كريما مع أعدائه المهزومين أبدا، ولهذا تصوره السيرة ضعيفا مهزوما وذليلا، يتوسل إلى قاتله الذي يعرف هو أنه لن يرحمه.. ويتوسل إلى قاتلته التي يعرف هو أنه أهانها وأهان فيها كرامة المرأة العربية وعزتها وأنفتها.. ويصور الحوار في هذا الجزء من السيرة الموقف التراجيدي بأجمل ما جاء في السيرة الشعبية من المواقف التراجيدية المؤثرة وهو موقف جدير بمؤلف مسرحي يستخرج منه عملا مسرحيا تراجيديا أصيلا، يكشف عمق ضياع بطل الوهم الذي يختبئ خلف الجاه والسلطة والقوة، بينما هو في أعماقه لا يحمل مقومات البطولة الحقيقية، فيكشف عن مدى ضعفه، وتدنيه حين تزول عنه أسباب القوة الزائفة، ومظاهر العظمة الزائلة.. إنها لحظة سقوط لا من مكان القوة وحسب، ولكن من مكان التماسك الإنساني أيضا.

فاروق خورشيد مجلة العربي ابريل 1992
أعلى