محبوبة خليفة - ”أم تكليف“.. حكايات من سِفر الإغتراب

كان صباحاً بغدادياً بحالات طقسه الغريبة في ذلك الوقت من السنة وكنا بمنتصف اكتوبر حيث يتبدل فجأة من طقس قاسٍ شديد الحرارة الى طقس بارد بل شديد البرودة. كنت اتأمل منظر الحديقة وقد اكتسى عشبها بغطاءٍ شفاف من الزجاج، هكذا بدا لي المكان.

كنت اتأمل مذهولة، ظل البدن واقفا هناك، بينما القلب يتجول في بقع بعيدة سكنْتُها واختلفتْ شتاءاتها بين المعتدل والشتاء الأوربي الصعب وبين مدينة كان شتاؤها يَحرُنُ أحياناً ويتمنَّعْ أحياناً أخرى ولا يزورها إلا بعد أن يقنط أهلها من مواعيده التي لا ثبات لها.

هنا في بغداد يغادر الصيف بلا مظهر وَداعي، فلا يتمَهّل ولا يبدِّل أحواله بلطفٍ خريفي مثلاً، لا يفعل ذلك، بل بمضي سريعاً فيعقبه في اليوم التالي الشتاء ببرودته الغريبة كغرابة هذا الصباح الندي.

نداوة الصباح غطّتْ البساط الأخضر فغفا تحتها لساعة أو أكثر ثم تبددت وذابت وأعطته أجر الإقامة بهجةً وإشراقاً ولون ناصع شديد الجمال.

بينما أقف متأملة سمعتُ دقات على الباب الخارجي وفي بغداد لا أسوار عالية لبيوتها، وأبوابها الخارجية قصيرة لاتحجب ما خلفها أو أمامها.

رأيتها سيدة في منتصف العمر يغطيها السواد ولا يبدو منها الا بعض من وجهها الموشوم بنقوش جميلة تشبه نقش وجوه النساء في بلادي في الماضي القريب، أما تقاطيعها فتشي بالطيبة وبضيق الحال وصعوبته. أدخلتُها فجلست على عتبة الباب المؤدي للحديقة وقبل أن أتفوّه بكلمة سألتني عندك ولّاعة وكان الحال حال صيام فابتسمتُ وفهمَتْ ما يجري فاستدركَتْ قائلةً: لا يُفطر لا يُفطر، انا متعبة وتعيسة وهذه-وأشارت لسيجارتها تعينني وتسليني.

أعطيتها ما أرادت وسألتني تحتاجين مساعِدَة؟. وفهمت سبب زيارتها ورغم صغر بيتي وعدد أفراد عائلتي إلا أنني وافقت، لما لا ؟لنتعاون، هي وأنا نواجه مصاعب وحياة متقلبة وإن اختلفتْ في تفاصيلها.

ظلت هذه السيدة معنا تطل علينا يومياً تقوم بعملها وتمضي. عشتُ معها خوفها ورعبها على أولاد جيرانها فهم يقاتلون العدو كما تقول وكنت أواسيها وفي قلبي الكثير -كصندوقٍ أغلق خطئاً وضاع مفتاحه- غير أن بساطتها لا تعطيني مجالاً لنتجاذب أطراف الحديث.

كانت نشيطة جداً، كل صباح تفتح باب الحديقة -نحن لا نغلقه فليل بغداد آمن- وتحضر الصمّون* العراقي وتعلقه على الباب الداخلي وتمضي لحالها.

سألتني مرة تحبين خبز التنور العراقي فأجبتها طبعاً غير أن خبز مدينتي وأهلي به بعض اختلاف. فقالت إعجنيه كما تحبين وأنا أخبزه لك عندي. ومنذ ذلك النهار ومدينتي حاضرة على المائدة بطعم خبز التنور المنكَّه بقطرات الزهر والكمون الحلو والأسعد*.

ذات نهار جلسَتْ معي وكنت أتابع الأخبار عن الإنتفاضة الفلسطينية فسألتني (هاللي يكاونون* منكم؟) وكانت تقصد هل هم ليبيون! فابتسمتُ واجبتها نعم هم منّا وعلينا يا (أم تكليف).

كان هذا إسمها وكانت دائمة الحديث عن تكليف المجند في (هور الحويزة)* وكانت تذرف الدمع خوفاً عليه وعلى من معه.

هذه السيدة قليلة الإبتسام استطاعت طفلتي الصغيرة أن تُضحكها حين سألتَها يوم رأتها عن إسمها فردّتْ: أم تكليف. فركضت لإخوتها صائحة السيدة إسمها (ام تكييف).. ومن يومها أبرمتْ إتفاقاً مع الصغيرة أن تناديها أم تكييف حتى يبرد قلبها وتنسى لهفتها على إبنها تكليف ولو للحظات. كانت تضحك من قلبها مع الطفلة كلما نادتها بأم تكييف.

لهذه السيدة المتُعَبة سلام ومحبة ورجاء أن تكون الحياة قد أنصفتها وأعادت لها تكليف سالماً واستردت قلبها،وحصلت على نصيبها من الراحة والأمان.

محبوبة خليفة Mahbuba Khalifa

* الصمون: من أشهر أنواع الخبز العراقي.
* يكاونون: بمعنى يواجهون اليهود أو يتعاركون معهم.
* الكمون الحلو والأسعدأو الأسود مع قطرات الزهر من مكونات خبز مدينتي (درنة) شرق ليبيا.
* هور الحويزة: يقع في منطقة ميسان والبصرة وشهد معارك عنيفة بين العراق وإيران.

** نشرت على موقع السقيفة الليبية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى