ثامر محفوظي - إعلان ضياع.. قصة قصيرة

صدر في صحيفة اليوميّ بتاريخ السّابع من فبراير إعلان ضياع فتاة التّسعة أعوام. تخيّلت حالة أمّها وهي تجوب البيت كمن يحاول كسر رتابة سجنه. لا أعلم ما الّذي قذف بهذه الفكرة إلى رأسي ومع ذلك صدّقتها ربّما لأنّني عِشتُ في السّجن سنتين من عمري. كنت شابّا مقبلاً على الحياة؛ أخرجُ صباحا من منزلي لأقتنيَ بعض الجرائد أو كتابا بعد أن أتأكّد من اقتراب موعد إتمام قراءة الكتاب الّذي مازالت فيه صفحات معدودات. لم أتعوّد على السّجن في أيّامي الأولى ولا أتذكّر كيف دخلته. كلّ ما بقيَ من ذلك الزّمن أنّ سيّارةً مدنيّة توقّفت عند بائع الجرائد، وبمجرّد أن بلغتُ البائع وألقيتُ التحيّة تلقّفني رجلان بذراعين من حديد واصطحباني معهما إلى أقرب مركز شرطة ثمّ أُركِبتُ أوّل سيّارة تخرجُ من المركز إلى السّجن مُباشرةً. ما تهمتي؟ أيّ ذنب اقترفت؟ لم أظفر ممّن سألت بإجابةٍ. الكلّ كانوا صامتين؛ رفقائي في السيّارة والمساجين وحرّاس السّجن، حتّى الضّابطُ الّذي أدخلوني عليه بعد أن أبرحوني ضربا. اكتفى بعبارة "خذوه حيث يستحقّ أن يكون" أمضيتُ الأشهر الأولى برأس مثقل بالاحتمالات. أحيانا كنت أرطم رأسي على الحائط إلى أن أفقد الوعي تماما. لم تكن لي وسيلة أخرى لأنام. قِست أبعاد الزّنزانة ألف مرّة أو يزيد. في حقيقة الأمر لم أعد أتذكّر ورأسي منذ تلك الأيّام يثقله صداع حادّ يداهمني بين الحين والآخر ويجعلني أعلف المسكّنات. وجدتُ فيها حلاّ لمشكلة الصّداع رغم توصيات الأطبّاء. السّنة الأولى مرّت. وأقنعتني السّنة الثانية الّتي أتت بعدها أنّني سأبقى كثيرا في السّجن وربّما لن أخرجَ أبدا. في السّابع من فبراير من سنة 1989 جاء الحارس وصاح في السّجناء: "هل أفاق من غيبوبته؟" قالوا:"نعم إنّه بحال أحسن الآن" دنا منّي وقال:" هيّا ستخرج، لقد كنت ضحيّة تشابه أسماء ولست أنت المطلوب. عُدْ إلى دنياك". لم تكن لديَّ رغبة قويّة في مغادرة السّجن، بعد أن عرفتُ أنّني كنت ضحيّة غلطٍ. فكّرتُ في أن أخنق الحارس، أن أقتلع روحه فأبقى هنا لكنّني تراجعت عن الفكرة. خِفت أن ينقلوني إلى سجن آخر بعد أن ألفتُ هذا السّجن. وتذكّرتُ أنّني لم أُنْهِ قراءة الكتاب الّذي اقتنيت قبل يومين من تاريخ إيقافي فقمت من مكاني مسرعا أحاكي اندفاع البحر في الصفحة السبعين بعد المائة من الكتاب الّذي تركتُ على الطاولة. خرجتُ أخيرا إلى النّور إلى بائع الجرائد من جديد. تذكّرتُ أنّه لم يردّ التحيّة يوم إيقافي. وعلمتُ مؤخّرا أنّه كان هو المقصود وليس أنا. لماذا سكتَ عن التحيّة؟ ولمَ سكتَ عن قول الحقّ وهو الّذي حدّثني كثيرا عن مراتبه وأفنى وقته يفسّر لي كيفَ يُطلبُ؟ ولمَ سكتَ والدُ الفتاة الضّائعة عن آلام الأمّ؟ أثقةً في الجريدة والإعلان الّذي فيها أم عجزا أمام الجرائم في حقّ الأبرياء؟
__
ثامر
محفوظي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى